| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

علي عرمش شوكت

 

 

 

 

الاثنين 30 / 4 / 2007

 


الظهير

الحلقة الاولى
موعد تحت نصب الحرية
 


علي عرمش شوكت

كان لقاءا دون مظلة تقيه من زخات المطر الربيعي ، الذي شكل كثافة عتمت الى حد ما مجال الرؤية ، متحولا الى ساتر يحول دون عيون الجواسيس وغدر بعض ( الطائحين ) ، لكن ذلك لم يمنعهما من اظهار حرارة اللقاء وتبادل القبل التي اختلط لماها بماء السماء المنهمر كأنه شلال عارم .. لا احد يأبه بهما ، الكل يهرول باحثا عن ملاذ ، الارض موحلة تشد الانظار نحوها اكثر من اي شيئ اخر للتأكد من مواطئ الاقدام خوفا من الانزلاق اوالسقوط في حفرة فتكون المصيبة اعظم .
لابد من التحرك ، كانا في مركز العاصمة تحت ( نصب الحرية) المقيد بركامات الاهمال .. اللقاء في هذا المكان غير مبرر ما عدا كونه دوري قد حدد في وقت سابق ، كان ( حميد ) يحاول ازاحة تراكمات العمل العلني الذي ارخى الهمم وابطأ الحماس وروح الاقتحام ، خمس سنوات من العمل العلني كانت خالية من طعم ونشوة انجاز المهام الصعبة .. فيا لها من بداية متوقعة ، طالما حددت وانزلت سيناريوهاتها في نشرة داخلية لحزب البعث وعممت على مستوى (شعبة) استعدادا لانهاء ( الجبهة ) من طرف واحد ، ولاجدال في ذلك فهو العربون الذي قدمه صدام في سبيل تحالفات خارجية وما كان لها ان تتم دون ضرب الحزب الشيوعي والغاء (التحالف ) معه .
المطر الغزير لم يتوقف كغزارة الهجوم على رفاق واصدقاء الحزب، حميد من اول الذين جرى البحث عنهم ، اعتقل ثلاثة من اشقائه وطورد الاخرون ، كان حذرا منذ اكثر من عام حيث اعتقل واعدم رفيقه ( سهيل شرهان ) بحجة انه عسكري وينتمي الى تنظيم شيوعي ممنوع في الجيش .
ورغم التحذيرات وتعليمات الصيانة التي عممت على جميع رفاق الحزب جاء حميد الى لقاء صديقه ( زيدان ) الذي جاء هو الاخر ليوفي بوعده ، اي انه سينظم الى الحزب الشيوعي عندما يكون خارج التحالف مع حزب البعث .. تلك هي قناعته الشخصية ، ومبعثها قد يرجع الى تلك الاستحقاقات التي بذمته لابيه عامل السكك الحديد ، الذي استشهد تحت التعذيب في ملعب المنصور بعد انقلاب شباط الاسود عام 1963 ، منهيا مشواره النضالي الطويل ابتداءا من مشاركته في انتفاضة فلاحي ال ازيرج في ارياف العمارة عام 1952 مرورا بهجرته الى بغداد واشتغاله عامل ( كولي ) في معامل الشالجية لسكك الحديد وانظمامه الى احد خلايا الحزب الشيوعي هناك حيث اصبح قائدا عماليا ونقابيا مع رفيقه المرحوم عباس سميج قبل و بعد ثورة تموز عام 1958 الى ان فصل عن عمله عام 1962 واعتقل واستشهد عام 1963 .
الغرق في مشاعر الحب والارتباط بالقضية يتطلب في تلك اللحظات العوم نحو الضفاف الامنة ، هواجس الخشية من الوقوع فريسة للضواري المنفلتة تلح عليهما بالتحرك السريع نحو ملاذ امن ، وهكذا حثا الخطوات باتجاه اقرب مقهى لم يكن مأخوذا بالحسبان .
كانت الخطوات حذرة وكأنها تلك التي تستخدم لقياس مسافة معينة ، غير انها لاتخلو من العجالة بغية الابتعاد عن ذلك المكان المرصود ، اذ كان تجاوزه نحو منطقة ( الفناهرة ) التي تقع بين سينما غرناطة ومبنى وزارة الاعلام يعد بالنسبة لهما بمثابة عبور حدود دولية محروسة ، وعند وصولهما الى احد الشوارع الخلفية دخلا مقهى صغيرا منزويا بين دكاكين باعة الملابس القديمة ( اللنكات) وعلى اية حال كانت ملاذا لابأس به يقيهما من المطر غير انها لم تنج من الوحل الذي سربته الى داخلها الاقدام شبه العارية لروادها من الكادحين والكسبة ومدمني تناول الكحول حيث تنتشر حولها حانات الخمر الرخيصة .. قدح من شاي ساخن اضاف شيئا من الدفئ ولكن قبل ان يشرعا في الحديث المعتاد عن السياسة الجديدة ازاء غدر نظام صدام ، عاد عامل المقهى وترك لهما على الطاولة قصاصة ورق قطعت من علبة سكائر نصفها مبلل والنصف الاخر متسخ وقد كتب عليها بحروف مهزوزة – المقهى لاتحمي من المطر- !! ، قرأها ( حميد ) بصوت خفيض دون ان يلمسها وعلى الفور عزما الاثنان على مغادرة المقهى حيث فهما ان مضمون تلك الورقة القذرة دعوة مخلصة للافلات من خطر داهم ، وبينما كانا يهمان بالخروج من باب المقهى المغطى نصفه تقريبا بالملابس القديمة المعلقة التابعة للدكان المجاور امتدت يدان غليضتان مرتعشتان الى تلابيب زيدان الذي تأخر قليلا لكي يدفع ثمن الشاي
- انت .. أنت الذي ابحث عنه
تحفز حميد لتطبيق التوجهات اي استخدام كافة الوسائل الممكنة للافلات من الكمين، الا ان تدخل صاحب المقهى وكذلك العامل الذي كتب الورقة قد غيرا الصورة حيث
سحبا ذلك الرجل الثمل وهو من رواد ميدان سباق الخيل ( الريسز) ، كان يطالب زيدان بان يتقاسم معه الربح الذي زعم بان زيدان قد حصل عليه في سباق اليوم الماضي علما ان زيدان من اشد المعارضين لمقامرة سباق الخيل التي تركت اثارها المدمرة على العديد من العوائل العراقية ، لقد الغت ثورة تموز 1958 هذا النوع من المقامرة الا ان انقلابيي شباط الاسود عام 1963 قد اعادوها فور نجاحهم .
اخذ عامل المقهى على عاتقه سحب الرجل الثمل الى الداخل مما اتاح فرصة مناسبة للتحرك بعيدا عبر ازقة محلة الفناهرة القديمة كما ان حميد يمتلك الخبرة في التخلص من المراقبة او المتابعة ، لقد اتقنها خلال سني العمل السري الصعب .. وصلا الى ساحة الخلاني ومنها انعطفا يمينا باتجاه الاحياء القديمة المتبقية هناك .. المطر وحادث المقهى قد شغلاهما عن ما استدعاه لقاؤهما .. عاد زيدان الى السؤال عن قيادة الحزب وهل نجت من الهجوم ، خشية منه الا تتكرر مأساة انقلاب 1963 ، كما كان يلح على معرفة المهمات التي سيكلف بها بعد اعادته الى صفوف الحزب ، اذ انه يعلم كم هي حاجة الحزب الى ( ظهير ) يتحمل المسؤولية بدلا من الرفاق الذين يضطرون لتجميد نشاطهم لانهم مكشوفين لاجهزة العدو ،وبما ان زيدانا كان غير معروف للخصوم اعتبره حميد قدرة نادرة لدعم الية التحرك في تلك الظروف بغية ربط الخطوط التنظيمية وتوثيق الصلات ومعاودة النشاط ولكن هذه المرة لاسقاط النظام وليس لدعم ( التحالف ) .
لابد ان لايطول هذا اللقاء كثيرا مع ان المطر قد توقف ، كما ان المنعطفات الضيقة وسط هذه الاحياء وفرت لهما ظرفا مناسبا للاستمرار.. وفي الدقائق الاخيرة اثار زيدان موضوع بعض الاصدقاء الذين ابدوا الاستعداد للعمل ، الا انهم يتساءلون عن موقف الحزب منهم بعد ان اختلفوا معه في السابق وانضموا الى كتلة منشقة عام 1967
- لاياعزيزي زيدان ان ذلك غير وارد خصوصا وانت تعرف بأن العديد منهم قد عاد الى صفوف الحزب وتبوأ مواقع قيادية فيه واعتقد انك تعرف ايضا الشهيد البطل ( جواد عطية ) الذي كان واحدا من هؤلاء الرفاق ، وقد عاد واستشهد وهو يؤدي مهامه القيادية للمنظمة الحزبية في محافظة واسط في اوائل السبعينيات ، كما ان الحزب يعتبر من استشهد منهم حتى وان لم يكن قد عاد الى صفوفه شهيدا من شهدائه ويذكرهم في المناسبات ، وعلى سبيل المثال الشهداء : هاشم شمسي الالوسي وسامي محمد علي وفائق الياس طلية واحمد الحلاق وشعبان كريم وكمال نامق ومتي الهندو وجبار كريم ورافع الكبيسي ونوري العاني وعبد الزهرة مزبان وامين خيون ومعين النهر وغيرهم من الذين استشهدوا رافضين خيانة مبادئهم الشيوعية ، وكل ذلك لايدعو للاعتقاد بان الحزب ينسى رفاقه الذين ظلوا اوفياءا لقضية حزبهم النبيلة .
اخذ الظلام يعتم الرؤية الى حد ما ، كان السير وسط تلك الاحياء الضيقة هو الاخر يساعد على عدم التعرف على حميد المطارد من قبل اجهزة النظام المتكالبة الا انه وفي لحظة توقف كان خلالها زيدان يشرح لرفيقه كيفية الوصول الى داره حيث ابدى استعداده لاخفاء بعض المطلوبين من الرفاق في بيته ، توقف احد المارة على بعد خطوتين وكان ملثما ثم استدار نحوهما والقى عليهما التحية ( مرحبا يا ابا نداء ) وكان يقصد حميد .. سحبتهما هذه المفاجأة على الفور الى حادث المقهى ، كما اعتقدا انه احد رجال الامن فتحفزا لخوض معركة الافلات حيث ان المكان يسمح بذلك
الا ان لحظات تأمل في وجه الملثم الذي اماط لثامه اجلت الصورة امام حميد لتعرفه على ذلك الشخص فطلب من زيدان التحرك قليلا ليتحدث مع هذه الملثم
.. عناق ودي وابتساما ت عريضة توحي بالاطمئنان ولكن زيدان ظل شديد الحذر لا تستقر نظراته في مكان محدد ، كانت تعكس مايجول في ذهنه من قلق وقد استنفر وكأنه الجندي الذي ينتظر من قيادته اشارة الهجوم بالرغم مما يبدو من ود بين الملثم وبين حميد .. عناق اخر وشد على الايدي خلالها سلم ذلك الشخص شيئا ما الى حميد ،لم يتمكن زيدان من معرفته .
عاد حميد وهو متجهم وعلامات وجهه تنم عن عدم الرضا
- هذا رفيق شجاع ولكن قد ضاقت به الامور، كان مكشوفا ، دوهمت داره ومكان عمله وحتى بيوت اقاربه للبحث عنه وليس امامه الان سوى الخروج من الوطن والسفر الى الخارج بطريقة ما .. اعتقل مسؤوله وبعض رفاقه وهو الان مقطوع الصلة وقد وجدني صدفة لبيعث الى الحزب بخبر اضطراره للسفر ، وهذه الحالة يعاني منها العديد من كوادر الحزب ، ففي ظروف العمل السري وحينما يشن العدو هجومه لايستطيع محاصرة الكوادر بهذه الصورة حيث انهم كانوا غير مكشوفين على الاغلب ، ولكن العمل العلني كشف الجميع مع الاسف الشديد دون ان نتمكن من تدارك ذلك بزمن مناسب ، ولهذا يأتي دور( الظهير) القادر على التحرك .
- نعم هنالك العديد من الاصدقاء قد ابدوا استعدادهم لتنفيذ بعض المهمات ، هل تذكر يارفيق حميد ماذا فعلنا بعد انقلاب شباط الاسود 1963 عندما تحرك الرفيق الشهيد صادق جبر الموسوي ونظمنا ونحن صبيانا صغارا وكان هو شاب عمره 17 عاما وهو مرشح لعضوية الحزب واصدرنا بيانا اعتبرنا انفسنا فيه اللجنة المركزية الجديدة للحزب الشيوعي العراقي .
وعندما اعتقل الشهيد صادق بعد حركة 3 تموز 1963 الباسلة استشهد وهو يهتف بحياة الحزب ، ويقول لجلاديه انه سلام عادل الثاني وهو سكرتير الحزب الجديد ، ولم تتمكن منه قطعان الحرس القومي ، فلجأت الى دفنه حيا الى النصف ، واطلقوا عليه كلابا مسعورة في ساحة ملعب المنصور في الكرخ لتنهشه حتى الموت .
وفي نهاية المشوار المليئ بالمفاجات وصلا الى نهاية الزقاق المفضي الى شارع الكفاح حينها قررا الافتراق على ان يلتقيا وفق خطة اتفقا حولها .
غياب الشمس زاد الجو ظلاما وبذلك اضيف شيئا من حرية الحركة مع ان الافق غير واضح حول كل شيئ .. الموعد الذي حدداه سوف يتكرر فيما اذا لن يتم لقاؤهما لاي سبب كان ولكن بحذر شديد ، كانت الحلقة المركزية امام حميد هي ربط الصلات الحزبية المقطوعة ، الا ان جيش الاصدقاء الذي فقد علاقته بالعناصر الحزبية التي تحجمت حركتها لكونها مكشوفة واعتقال البعض الاخر منها سيشكل الظهير الذي طالما تحرك وملأ الفراغ في الظروف الصعبة.

يتبع