علي عرمش شوكت
رواية
ابجدية حب في مدرسة العصافير
(4-9)علي عرمش شوكت
ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي يتضايق فيها بلاسم من تصرف غير مقصود وليس في الحسبان من قبل كليلة . انما حصل ذلك عدة مرات وفي صور مختلفة.
ففي عصر يوم لطيف المناخ من ايام العطلة الربيعية وفي ساحة للعبة كرة القدم تقع في بقعة ارض مكشوفة، لا تبعد عن بيت "شبه ليلى" ، كما كان يسميها، سوى مسافة مرمى حجر تقع على جهة الشرق وتنحصر بين مكان سكناها وشارع موسى الكاظم المؤدي الى الكرخ القديمة... كان بلاسم غالباً ما يذهب الى تلك الساحة لاعباً او متفرجاً. بيد انه وقطعاً لعدم رضا كليلة كف عن الذهاب للتفرج الى تلك الساحة واقتصر ذهابه على ممارسة اللعب فقط. لان وقت التفرج تحسبه خسارة من فرصة اللقاء بالشافي الحبيب. وفي ذلك اليوم دعاه بعض اصدقائه لمشاركتهم في مباريات لكرة القدم مع فريق جاء من محلة الجعيفر. ومن المعتاد في مثل هذه المشاركة من قبله، تصعد كليلة الى سطح دارها لتتفرج عن بعد، مع ان قلبها يكون في الساحة، ويأخذها الهيام فيتحول قلبها الصغير الى ظل كبير لبلاسم وهو يلعب الكرة. كأن الساحة بنظرها بمثابة غابة للكواسر، وتعيش حينها وقتاً ثقيلاً من القلق، ممزوجاً بالمشاعر المزدوجة بين الاعجاب بمهارته في اللعب، وبين الخشية عليه من ان يتعثر او يسقط ارضاً نتيجة للتصادم مع الاخرين اثناء اللعب. ولكن في تلك المرة، هبطت مناسيب الصبر لديها، فاندفعت متوجهة نحو الساحة التي تجري فيها لعبة الكرة ... قاصدة الذهاب الى احدى الدور التي تسكنها عائلة من اقاربها، والتي تقع على حافة الساحة تقريباً. وربما اختارت كليلة هذه الدار لتطل عن قرب متفرجة من على سطحها، ولم تكن بمفردها وانما اصطحبت معها شقيقها الصغير. وبما ان العديد من الشباب المتواجدين حول الساحة لا تفوتهم تلك الاطلالة البهية الباهرة لكليلة، لذا حصل الامر الحتمي. اذ تعرضت لمضايقة من قبل احد الشباب الذي كان مراهقاً نزقاً، مما جعل اخيها يدخل في اشتباك كلامي مع ذلك الشاب، كما تدخل احد زملائها في المدرسة لصد ذلك المتجاوز، فحصلت ضجة كلامية بين المتفرجين، الذين تحول اهتمامهم من متابعة الكرة الى الانجذاب الى ذلك الملاك الساحر الذي اغتصب اهتمام الجميع، بما فيهم بلاسم الذي تفاجأ بوجودها، الامر الذي اثار غضبه. فما كان منه الا واعتذر عن ممارسة اللعب وخرج مسرعاً باحثاً عن ذلك المستهتر فلم يجده حيث ولى متوارياً عن الانظار بعد ان شعر باحتمال تعرضه الى الاذى. راح بلاسم متوجهاً الى بيته ولم يكلم كليلة، لا بل وكان متجاهلاً اياها.
صدمت كليلة ووجدت نفسها خاسرة في خطوتها تلك، التي كانت تأمل بها ان تفوز برؤية حبيبها عن قرب، وهو يمارس رياضة كرة القدم، هذه اللعبة التي كان غالباً ما يستغرق بعض الوقت في الحديث عنها اثناء لقاءاتهما كونها هواية له ... وعندما شعرت بوقوعها في مأزق، استوجب عليها ان تقلّب الامر وكيف الوصول الى ما يصلح ذلك الشرخ الذي تركته تلك الحادثة في صرح علاقتهما، فهي تدرك تماماً ما هو وقع حضورها وسط جمهرة من الشباب على حبيبها الذي يخاف عليها حتى من ظلها. ولكنها لم تلبث ان تعزّي نفسها قليلاً متذرعة بعدم حصول مواجهة بين بلاسم و ذلك الولد سيء الاخلاق...
طال غياب الحبيب وانقطع عن لقائهما المعتاد طيلة ايام العطلة واوصى اقرب زملائهما بان يخبّروا كليلة اذا ما صادفوها بانه مسافر الى خارج بغداد .. قام بمثل هذا التصرف لانه يدرك كم تتأثر لغيابه غير المبرر لديها، كما انه صاغ هذا العذر لبساطة الغائه باية لحظة حينما يطفح الشوق لديه، ولا يتمالك نفسه بالبقاء بعيداً عنها. ظلت تعاني طيلة تلك الايام وكانت تحسب نفسها وكأنها تقضي عقوبة ابعاد قسرية، وكادت تقع فريسة ظنون واوهام تصب في ان" الحبيب الشافي " قد تركها دون عودة، مما جعلها تعيد حسباتها وتلوم نفسها على ما ارتكبته من هفوات، ووصلت الى قناعة بانها كانت بتلك، توجه طعنات مؤلمة لتجليات حبهما الجميلة. اذ تطعن قلبها وتدميه قبل اي شيء اخر، كما انتابتها حالة من فقدان التوازن... وماذا تفعل ؟ . فاندفعت وهامت على وجهها للبحث عنه ولم تجد سبيلاً لذلك. انقضت ايام العطلة الربيعية وهي عشرة ايام حسبتها كليلة عشر سنوات او اكثر، وخلالها غدت تستجير من نار فراق الحبيب بالذهاب الى اماكن لقاءاتهما لعلها تخفف من قيظ عشق متفجر. حتى الذهاب الى المدرسة المغلقة راحت وبتشتت ذهني تسأل الحارس " جبر "عن موعد افتتاح المدرسة. ولما خلصت الايام العشر العجاف. جف قلبها وكاد عقلها ان يرحل الى المجهول.
الجلوس المشترك على مقعد الدراسة والحضور المبكر قبل غيرهما الى قاعة الصف بعد انتهاء العطلة، واللقاء المحمل بوزن لا يقدر من الشوق الملتهب، وحديث القلوب المنبعث من الصميم، وقبل كل هذا وذاك، ما رسمته بلورات الدمع التي انهمرت على وجنتيها وكأنها ترسم لوحة اعتذار جميل حيث استمد جماله من تورد خديها وانبعاث بريق عينيها الذي يبعث في كيانه قوة نافضة لكل عوالق الخلاف. كل ذلك كان كفيلاً بتفكيك طغيان الغيرة القاتلة الذي اصاب بلاسم على اثر حادث ساحة كرة القدم. كان غيابه عنها امراً قاسياً ليس عليها فحسب انما على بلاسم ايضاً. ولولا العطلة المدرسية لما طال الغياب على ذلك النحو. فهي على استعداد للحاق به حتى الى اخر الدنيا، حيث الح خاطر ببالها مفاده الاهتداء الى بيته بواسطة بعض زملائهم وباي عذر كان، وهذا ما قررته فعلاً .
غير ان قرارها قد جمده حدث حصل لبلاسم، على اثرانتقام مديرة المدرسة منه، اذ اتهمته برسوم تسيىء الى النظام الملكي وبالتحديد الى " نوري سعيد" ، وبتحريض من قريبها الوغد "حارث " الذي له خصومة مع بلاسم. وكانت وجدت تلك الرسومات في ذات صباح على اكثر من سبورة في صفوف المدرسة. اخذت المديرة تلك الحادثة في سياق ردة فعل لما جرى لقريبها في الرحلة المدرسية... مما ادى الى استدعاء بلاسم الى مركز الشرطة واوقف، وجرى التحقيق معه... ان وقع ذلك الحدث كاد يؤدي الى اصابة كليلة بالجنون. لكون الغياب هذه المرة لا يدع مجالاً للامل بالعودة السريعة اذا ما ثبتت عليه التهمة، الا انها لم تستطع عمل اي شيء سوى انها قامت وهي مقطوعة الانفاس وناشفة الريق، بمناشدة زملائه للعمل في سبيل انقاذه. فجرى التحرك بمادرة قريبه ستار مع زميله هاشم ، والاخير قريب لحارس المدرسة " جبر" ، والذي اخبره ذات مرة بان اشخاصاً يتسلقون ليلاً جدار المدرسة ويرمون فيها بعض المنشورات، وكان قد جلب بعض منها الى قريبه. غير ان هاشم قد اوصاه حينها ان يخفي ذلك الامر على مديرة المدرسة، خشية من ان تنصب الشرطة كميناً لؤلئك الاشخاص . فراح الاثنان الى الحارس" جبر" ، واقنعاه لكي يشهد في مركز الشرطة لصالح بلاسم، حيث لقناه افادة مرتبة ليس فيها اية مسكة ضده، وفي ذات الوقت تنقذ بلاسم. ومفادها، ( انه في بعض الاحيان يأتي اشخاص ليلاً ويتسلقون جدار المدرسة ويدخلون الصفوف التي لا تقفل بالعادة، ويرمون فيها بعض الرسومات وقصاصات الورق ) ، وبما انه رجل امي لا يعبأ بما تنطوي عليه، فيتعامل معها بالاتلاف.
وافق الحارس جبر وذهب مصحوباً برفقة المعلمة مرشدة صف بلاسم بالذهاب الى مركز الشرطة، لغرض تكفله بعد تقديم افادة الحارس، وعليه تم اطلاق سراحه لعدم وجود الادلة الكافية. الامر الذي ازعج المديرة وحصلت مشادة بينها وبين المعلمة، ولم تكتف بذلك، انما راحت تصب جام غضبها على الحارس" جبر"، وهددته بالطرد من وظيفته اذا ما اخفى عنها مثل تلك الاعمال.
زاد ذلك الحدث من تمحور التلاميذ حول بلاسم من كلا الجنسين. بيد انه ترك لدى كليلة شعوراً مزدوجاً. فمن جانب قد وضع حبيبها في سمو عال لديها، ومن جانب اخر اثار هواجس الخشية عليه. ليس من مخاطر السياسة الممنوعة فحسب، وانما من مخاطرالاعجاب الممنوع ببلاسم حسب عرفها، الذي غدا مسموعاً، ويطلق بلا تحفظ على السن العديد من التلميذات المراهقات اللواتي غالباً ما يعجبن بالشاب الشهم والشجاع وذي الشخصية المتزنة، وتلك الصفات متوفر جميعها لدى بلاسم.يتبع
ابجدية حب في مدرسة العصافير (3-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (2-9)
ابجدية حب في مدرسة العصافير (1-9)