علي عرمش شوكت
الأثنين 4 / 6 / 2007
الظهيرالحلقة التاسعة
علي عرمش شوكت
اشتعلت الحرب مع ايران ، واتخذت السلطات من ذلك ذريعة لتشديد الاجراءات البوليسية ، وعسكرة البلد من شماله الى جنوبه ، واصبح في كل منعطف حاجز تفتيش ،وذلك بحجة الهاربين والمتخلفين عن الخدمة العسكرية ، الامر الذي بات فيه من الصعب على المرء تمرير الوثائق المزورة ، ففي احدى المرات تعرض حميد الى التوقيف في حاجز تفتيش بسبب شك في وثيقة الخدمة العسكرية التي كان يحملها ، الا ان ضابط الموقع الذي جاء متأخرا وقبيل ترحيل حميد الى اقرب مركز للشرطة قد انقذ الموقف حينما دقق في الوثيقة وتبين له بأنها صادرة من محافظة الانبار ، وكان ذلك الضابط من ذات المحافظة ايضا فأمر بأخلاء سبيله ، بل وكتب له رسالة تعريف يستطيع بواسطتها الذهاب الى محافظة الانبار دون ان تعترضه حواجز التفتيش .
كانت تلك الحادثة بمثابة تحذير لحميد الذي اهمل الى حد ما مستجدات الوضع ، فدفعته الى البحث عن ذلك المزور المحترف ( شلش ) الذي كان قد تعرف عليه عام 1962 عندما كان معتقلا في اقبية مديرية الامن العام ، حيث كان شلش موقوفا هناك بتهمة تزوير وثائق الخدمة العسكرية وجوازات السفر ، وبعد مرور سنين تصادفا اكثر من مرة وعرض شلش على حميد خلال احد اللقاءات خدماته المعروفة ، لانه كان معجبا به كرجل شجاع ويكتم السر، وذلك حينما شاهده على بعد امتار من زنزانته يجلد بكل قسوة وهو مربوط على جذع شجرة تتوسط مجموعة من الزنزانات كانت ابوابها من قضبان حديدية تطل على باحة المعتقل ، غير ان المهم في الامر كان حميد ورغم الجلد المستمر يرفض سب ( الطبقجلي اوعبد الناصر ) ويرفض سب ( فهد وستالين والبرزاني ) لكون تهمته كانت هي المشاركة في حملة السلم في كردستان، مما ادى ببعض البعثيين المعتقلين هناك وكانوا يشاهدون عملية الجلد و بعد ان رمي في زنزانتهم بتوبيخ احدهم وكان منهارا ومقارنته بهذا الشيوعي الذي رفض سب رموزهم !! .
تشعبت مهمات حميد بشكل تعدت فيه قاعدة العمل السري، حيث استطاعة ربط عدد واسع من تنظيمات بغداد التي تبعثرت نتيجة للهجوم الشرس من قبل اجهزة الامن ، الامر الذي تطلب منه ان يتحرك ويتنقل بصورة دائمة ، ومع ما تفرزه اجواء الحرب من صعوبات كان بحاجة الى مزيد من التمويه وتضليل الاجهزة البوليسية لذا كان البحث عن ( شلش ) ضرور ملحة وغاية في الاهمية ، وبعد جهد اهتدى الى مكان وجوده من خلال صديق له بائع خرداوات في سوق الهرج ، غير ان الوصول اليه لم يكن سهلا ، فقد كان في مدينة العمارة والطريق الى هناك يعترضه اكثر من ستة عشر حاجز تفتيش .
لجأ الى ابن خالته ( زكي ) صاحب تلك الشاحنة المرخصة بالمرور دون تفتيش لكونها تنقل الحصا من مدينة سامراء الى مدينة الكوت لحساب مقاول من رجال السلطة واصحاب النفوذ !! ، ولكن رخصة الشاحنة لاتتعدى مدينة الكوت ، ومع ذلك اضطر لمرافقة ابن خالته في رحلة ليلية ، هناك على جانب الطريق بقعة غير مزروعة اختارها الغجر ليخيموا عليها ، وقد غدا ذلك المخيم بمثابة نادي ليلي لسائقي الشاحنات على وجه التحديد ، وكان زكي واحدا من رواده ، فاصطحب ابن خالته حميد معه ، بحث زكي مع بعض سائقي الشاحنات عن امكانية ايصال حميد الى مدينة العمارة والعودة به سالما فلم يفلح ، فلجأ الى شيخ الغجر ( عجاج ) الذي وافق دون تردد واصطحبهم الى احد اقاربه من (غجر المياه ) اي من الغجر الذين يعيشون على زوارق متنقلة ، وهؤلاء تختلف سبل عيشهم عن الغجر الاخرين ، اذ يعتمدون على كدحهم في صناعات يدوية بدائية تقريبا مثل الخناجر والسكاكين والمواقد الحديدية وترميم الاواني الفخارية ، واينما رسا زورقهم الذي يسمونه ( المركب ) ينصبون لهم خيمة للعمل، وعادة ما يتعاملون مع القرى والمدن الصغيرة المحاذية لشواطئ النهر ، لكون بضائعهم غير رائجة في المدن الكبيرة .
تم الاتفاق بين زكي وشيخ الغجر عجاج وصاحب المركب ( دلف )على رحلة عبر النهر ونحو الجنوب ، وتحديدا الى مدينة العمارة والعودة بحميد الى ذات المكان ، كان ( دلف ) صاحب المركب ذي المحرك الديزل الذي تعيش عليه اسرته المكونة من زوجته (جمرة ) وابنه الضرير( كمر ) عشرون عاما ، وابنته ( غاية ) تسع عشر عاما ، وكلهم يكدحون ليل نهار من اجل العيش ولا يهمهم غير ذلك .
وصل المركب الى مدينة العمارة فجرا ، وبعد تأني حتى الضحى ذهب حميد الى العنوان الذي يقصده في جو ملبد بالرعب والحذر والعسكرة التي طالت كافة اوجه الحياة في هذه المدينة، وبعد بحث ليس بالسهل التقى مع (شلش) الذي اصابته الدهشة من وصول حميد اليه في مثل تلك الظروف المكهربة بطاقة القمع،وبعد ان اتضح له سبب ذلك اعتذر عن تقديم خدماته الى حميد لكونه لايستطيع انجازها وهو في مدينة العمارة ، فلابد له من ان يذهب الى بغداد لاتمامها ،وذلك من غير الممكن الا بعد اسبوعين ، حيث انه يقضي فترة حكم بالمراقبة ، يتطلب منه ان يذهب الى مركز الشرطة صباحا ومساء ، وسوف تنتهي فترة حكمه بعد اسبوعين، وعلى ذلك اتفق مع حميد على لقاء في بغداد لتحقيق طلباته بتزوير وثائق شخصية ومن اخر طراز!! .
عاد حميد الى المركب سالكا الطرق الملتوية لكي يخفي على (شلش ) الوسيلة التي وصل بها الى مدينة العمارة ، كانت عائلة دلف كلها بانتظاره .
استغرقت رحلة العودة عشرة ايام ، وذلك بسبب التعاكس مع مجرى النهر كما كان المركب يتوقف في بعض المدن والقرى الصغيرة كالعادة للتزود بالوقود وكذلك لبيع بعض المنتجات التي كان حميد مساهما نشطا في صنعها ، وقبيل عبور سد الكوت طلب ( دلف ) من حميد النزول الى البر وتجاوز السد مشيا على الاقدام تجنبا للتفتيش الدقيق الذي يتم عادة للسفن والمراكب القادمة من الجنوب بصورة خاصة ، نفذ حميد الطلب وقبل منعطف النهر اي قبل الجسر الجديد توقف المركب ونزل ونزلت معه (غاية ) ابنة صاحب المركب بعد اصرارها على ذلك ، وكانت تلك فرصة جميلة وممتعة لدخول مدينة الكوت وشراء بعض الحاجيات ووجبة غداء من الكباب للجميع وبعض الهدايا الى ( غاية ) التي كانت شبيهة بغزالة تتبختر في روضة آمنة و هي في غاية السعادة ، وربما لوجود حميد برفقتها،غير ان ثقل همومه جعله غير متجاوب مع عواطفها الجامحة نحوه .
سارا على الاقدام ساعة ونصف من الزمن كانت وكأنها لحظات حتى وصلا الى المكان المتفق عليه ، فوجدا المركب راسيا هناك بعد ان مر بجولة تفتيش دقيق حينما عبر السد من جزئه المتحرك ( اللوك ) وخلال تلك الرحلة كان حميد مهتما بسماع الاخبار من جهاز راديو صغير والاستمتاع بالمناظر الخلابة التي تحتضن النهر ، كما ان غناء ( الابوذية ) بصوت الضرير ( كمر ) ذي الحنجرة الذهبية كان وسيلة للتخفيف عن همومه الى حد ما ، غير ان تعليم ( غاية ) القراءة والكتابة كان يأخذ الوقت الاكبر ، حيث علمها الحروف وربطها لتشكل كلمات وكانت اولها اسمه واسمها، وكذلك الارقام حتى المئة وما بعدها كما اكسبته مساهمته في عمل العائلة احترامها واعتزازها البالغ .
استغرقت الرحلة اكثر من اسبوعين ذهابا وايابا ، وعندما وصلوا الى المكان الذي انطلقوا منه نحو الجنوب ، ذهب - دلف - الى شيخ الغجر(عجاج ) وعاد به ليسلمه حميد سالما حسب الاتفاق واعلن تنازله عن باقي المبلغ المتفق عليه ، ولكن حميد اصر على دفع المبلغ كاملا .
وعند الوداع ، تلك الدقائق التي كان حميد يكرهها دائما بل وتجعله تعيسا ، لأنه قد ودع العديد من الاحبة والاعزة من رفاق الطريق واصدقاء العمر في رحيل لم يأت بعده لقاء ، وبعضهم رحل عن هذه الدنيا قبل الاوان ، ضحايا البطش السلطوي الفاشي .
تعانق دلف مع حميد بحرارة وقال له لقد عرفت بأنك هارب من الذئاب وليس هاربا من الخدمة العسكرية ، فأحترس منها لأنها لا اخلاق لها ، وهويقصد البعثيين العفالقة ، وفي هذه الاثناء داهمه الضرير (كمر ) دون ان يتأكد من موطئ قدميه معانقه بحرارة ، الام زوجة دلف ودعته وقالت له بوجودك شعرت وكأنني قد رزقت بولد اخر، اما ( غاية ) فقد رفضت توديعه وانزوت في داخل المركب واجهت بالبكاء ، وربما تلك اللحظات اقسى لحظات مرت بحياتها ، اقترب منها حميد وحدثها ببضع كلمات كانت بمثابة البلسم الشافي لقلبها المجروح ،طمأنها بانه سوف يعود اليهم قريبا ولكن بشرط ان يجدها قد واصلت تعلم القراءة والكتابة ، وربما علمتها الى افراد اسرتها الاخرين من اجله طبعا ، ولكنه لم يعد .
انتهت تلك الرحلة وكأنها الحلم، عندما استيقظ منه في بيت الشيخ عجاج شعر بان قلبه قد انشطر فاراد ان يطرد ذلك الحلم لكنه آثر ان يحتفظ ببقايا طيف جميل وبقايا دموع لم تنهمر .يتبع