|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  25  / 8 / 2016                       علي بداي                                كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ثمن فقدان إحترام الذات

علي بداي
(موقع الناس)

إفترض لغرض إكمال هذا المقال، أن القضاء العراقي قد إلتقط خيوط الفساد وتابعها فأنزل العقاب بالسارقين ، وإفترض أكثر (فقط لكي تشعر ببعض الفرح) أن هذا القضاء قد تنزه فعلاً، و حكم بحل الأحزاب التي تقف وراء الفساد ، وهي كل الأحزاب التي تقود دفة السفينة المنهوبة منذ 2003 ، كيف ستسير الأمور؟ لاطريق غير التحضير لإنتخابات جديدة، وقبلها تأسيس أحزاب جديدة. ولكن من سيبني الأحزاب الجديدة ويفوز بالجلوس في عش الصقور؟ أنها ذات القوى المتخلفة التي سرقت فأضحى بأمكانها شراء كل شيئ ضمن أخلاق مجتمع/ سوق لا يعترف الا بمن يدفع أكثر....

تلك هي نتيجة طبيعية لا يمكن توقع غيرها، تصنعها عوامل موجود مثل قوانين الفيزياء فلايوجد مايفسر تغلغل الفساد أفقياً وعمودياً في مجلس النواب العراقي ذي الأغلبية الإسلامية المؤمنة المنتخبة من قبل الأغلبية المسلمة المؤمنة، وفي الحكومة التي تسندها المرجعيات الدينية والعشائر ، سوى أن هذا المجلس وهذه الحكومة هما تمثيل إجمالي لواقع شعب يتعامل مع الفساد من رشوة وتحايل على القانون كمسلمات طبيعية . ليست تلك مسبة ولا هو إكتشاف جديد، لكنه حقيقة مرة متجاهلة رغم أنها الأكثر سطوعاً في حياة العراق فتعرض نفسها بوضوح في باب كل مؤسسة وعلى وجه كل موظف. الرشوة والعمولة بشكل التحايل على قانون الضرائب ، وشراء الشهادات الدراسية، ودفع براطيل التسجيل بالكليات وللحصول حتى على أصغر الوظائف في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، وغلق كافة الأبواب أمام أية محاولة للقيام بمشاريع تطويرية مالم يفتحها مفتاح الرشوة ، ومايرافق ذلك من إتفاقات وتاكتيكات مرسومة بحرفية عالية هي حقائق يومية تشكل ملامح العراق منذ أكثر من عقدين. و الفساد نشاط وعرف يومي إجتماعي محترم ومقدر في العراق الحالي ومعترف به من قبل مجلس النواب، والحكومة، ويحظى بتأييد عام من قبل الأغلبية على كل المستويات من رئيس البرلمان وحتى آخر فرّاش في أصغر مستوصف صحي ومن أصغر مرجعية دينية الى أكبرها .

كيف حدث ذلك؟ هل هي ظاهرة إجتماعية جديدة؟ ولمَ يشكو الجميع منها ويمارسها بذات الوقت؟ من يحلها إذن إذا كان الكل مشترك بهندستها؟

الحقيقة أن المجتمع العراقي قد ولج مرحلة الديموقراطية من بوابة الحصار، وبأخلاقيات مرحلة الحصار  وتلك لم تكن سوى ثمرة ماغرس قبل أربعة عقود عندما بدأت رحلة فقدان إحترام الذات الطويلة ، من أيام دخول الناس في حزب البعث وجيشه الشعبي أفواجاً لأسباب إرتزاقيه خالصة لا علاقة لها بفكر البعث ولا بفلسفته. سنين طوال إنهمك العراقيون خلالها بإيجاد المبررات للأشتراك بابشع عملية سطو على كنوز مجتمعهم التي راكمها عبر كفاحه الطويل متمثلة بأخلاق نصرة المظلوم ومساعدته في كفاحه ضد السلطة الظالمة، وما أسموه بالغيرة العراقية ، فتحولوا في زمن البعث الى مطاردين له. وعندما تطوع الملايين ليتخلصوا من مخزون القيم التي تلقوها بالبيت والمدرسة فيتحولون الى شرطة سرية تكتب التقارير وتوقع بمن يراد الإيقاع به ، كان من الطبيعي أن يفضى بهم ذلك فيما بعد الى يوم يُؤخذ فيه أطفالهم لحضور حفلات رمي الرصاص ليمزق أجساد أقاربهم ومعارفهم، ثم ليجعلوا ذلك في اليوم التالي موضوع الأنشاء المدرسي. رفع العراقيون رتبة صدام من شقي وبلطجي محلي معروف، الى نصف إله وقائد قومي وهم يعرفون ما فعلوا،  فوجدوا أنفسهم مجبرين على الرضوخ لكل ما يطلبه منهم وأصبحوا بعدها عبيداً له بارادتهم، كلهم يعرفون أنه لا يتورع عن تحطيم حزب البعث والعراق كله من أجل نفسه، وكلهم يعرفون أن صدام عندما يقرر خوض حرب لايلتفت لخسائر ولا لعواقب مستقبلية على البلاد . لكن حالهم أصبح حال من ينسج كذبة ليسوقها على غيره ثم تدور الدورة فيجد نفسه مرغماً على تصديقها والتنظير لها.

بعد عقود من خداع النفس، و بعد مران طويل من أجل تحطيم آخر الفواصل بين العيب واللاعيب، الجائز وغير الجائز، المشروع واللامشروع، المخجل وغير المخجل، فقدت قطاعات واسعة من الشعب إحترامها لنفسها. أضحى كل مايمكن الحصول عليه بأية وسيلة كانت مشروعاً، وورثنا مجتمعاً كاذباً مرائياً مريضاً بكل شيئ. مواطننا الآن يخرج للتظاهر ضد الفساد وهو قد عاد للتو من  تسجيل إبنه في كلية الامام الكاظم دافعاً ثلاثة آلاف دولار ثمن تزوير شهادة المحروس الذي لم يجتز الإعدادية، وبعد بضع سنين سيدفع مثلها لكي يُعيّن محروسه محامياً ويتدرج في سلم الغش و الكذب فيدخل إن قدر له الله ذلك مجلس النواب فيرفع رأس أبيه و عشيرته ويقود مسيرة هذا الشعب التائه ! هو يرفع يده ضد الفساد الذي لم ينل حصته منه! ذلك هو السر الذي يديم حركة مجتمع "شيلني واشيلك" الذي يجعل السراق قادة لا قدرة لأحد على التحارش بسلطتهم. من أين سيأتي الحل إذن؟ ربما يتعين علينا إنتظار جيل نقي لم يتلوث بجرثومتي البعث والطائفية ، وذلك بعد أن يتقدم علم الوراثة ويلج آفاقاً جديدة أبعد من إستنساخ الخروف دوللي...

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter