|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  21  / 10 / 2005                                 يوسف أبو الفوز                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

أوراق عائلية ـ 1

أنا وزوجتي والبرتقال

يوسف أبو الفوز
(موقع الناس)

بشكل عام ، قليلة جدا هي المرات التي يعترف بها الرجل الشرقي بجهله وكونه بحاجة لمن يساعده في معرفة هذا الأمر أو ذاك ، فرجالنا المعروف عنهم ادعائهم الدائم معرفة كل شئ ، وهم دائما في أتم الاستعداد للإجابة على أي سؤال سواء كان في الفيزياء أو الكيمياء ، في أسعار البورصة أو في الأزياء ، هنا سأثير غضب معارفي من الرجال حين اعترف ومرة واحدة بأني اجهل الكثير وفي أمور عديدة ، ومنها أمور الطرب والغناء ! باعتقادي ان سبب جهلي هنا معروف عندهم جيدا ، فالسياسة وتعاطيها أيبس عندي ومرة واحدة كل الحواس . مرارا كانت زوجتي تردد القول وأمام كل معارفنا ، بأنه لو لم تكن شقتنا صغيرة ولا تحتمل سوى جهاز تلفزيون واحد ، نضعه في الصالة الصغيرة ، لكان وضعت لي جهاز تلفزيون خاص بي وحدي ، لأشبع نفسي من متابعة نشرات الأخبار ، التي صار القاصي والداني يعرف انها تجعلني ساهيا عن كل شئ ، في حمى البحث عن خبر جديد أو تفصيل جديد في خبر ما . ولم اكن أعارض فكرة تلفزيون ثاني في سكننا الصغير ، لاعتقادي بأن ذلك ربما ساعد في إنهاء معاناتها الدائمة من كوني لا امنحها الفرصة المناسبة والكافية لمشاهدة برامج أخرى غير نشرات الأخبار والبرامج السياسية ، واحمد الرب كثيرا ان زوجتي تقرف من المسلسلات المكسيكية وأمثالها وإلا فلربما كان التلفزيون سببا لطلاقنا . وعلى ذكر الطلاق هنا ، فلأعترف أيضا ، وأقول أنى يوما ما فكرت بانه ، لا سامح الله ، لو طلقتني زوجتي ، واقول لو طلقتني ولم اقل لو طلقتها ، وذلك لاني اعشقها حد الموت ولا يمكن تصور حياتي بدونها ، ولذا لا اعتقد أنى ساكون البادئ يوما بأبغض ما عند الله من الحلال ، واعود لاقول لو ان زوجتي لجأت الى طلاقي فان ذلك سيكون مؤكدا بسبب التلفزيون وليس لسبب غيره . ولاعترف اكثر فأقول أني لطالما جلبت وجع الرأس والقلب لزوجتي الطيبة والصابرة ، وكادت ان تكفر بي مرارا جزاء للمواقف المحرجة التي أضعها فيها ، ففي كل مرة وأمام الضيوف أسأل وبكل بساطة سؤالا يغيض الحجر، وألان صرت اعرف كم ان سؤالي كان يبدو غبيا وساذجا عند الحاضرين ، وهذا بالطبع يسبب غضب وزعل زوجتي التي تعتد بي أمام صديقاتها بكوني رجل واسع الاطلاع والمعارف ، ففي كل مرة ، وفي كل جلسة بعد حفل عرس أو لقاء عائلي أو زيارة بعض المعارف لنا ، وما ان يحتدم النقاش بين الجالسين عن مطرب أو مطربة ما ، ويصادف في تلك اللحظة ان يكون موجودا على شاشة التلفزيون يرقص ويتلوى والألوان والأضواء تتفجر من حوله ، ومحاولة مني للمشاركة حتى لا أبدو فعلا كما يقال عني رجل ايبست السياسة ذوقه ولا يجيد الكلام سوى فيها وعنها ، فأتقدم لأقرب الجالسين الي بسؤالي الساذج :
ـ من هو هذا الذي يغني ؟

ويتطاير الشرر من عيون زوجتي ، ونظرات الاستغراب من بعض الحاضرين ، وربما لمحت زوجتي نظرات التشفي في عيون صاحباتها وهن يكتشفن دجلي وادعاء زوجتي بسعة معلوماتي. وما ان ينطقوا باسم الفنان أو الفنانة ، حتى أتذكر ان زوجتي المسكينة كانت مرارا قد أجابت عن هذا السؤال وذكرت لي الاسم مع بعض المعلومات الإضافية لمحاولة ترسيخ الاسم في ذاكرتي الرثة التي لم تستطع يوما ان تحتفظ بشئ ما عن نانسي عجرم أو روبي أو عمرو دياب ، ولكن ما انا فاعل والواحد من هؤلاء المطربين والمطربات وفي كل مرة يبدو شكلا اخر وصوت اخر ، والاغاني عندهم تتشابه في إيقاعها وكلماتها . وفي كل مرة وللفرار من شجار ربما يشتعل مع زوجتي ، كنت الجأ إلى خندقي الدائم ، واقول لها وبثقة عالية :
ـ ولماذا لا املك هذه المشكلة في التعرف على صوت وشكل فيروز أو وديع الصافي أو ناظم الغزالي أو فؤاد سالم ؟

والان جاء دور اعترافي المهم وربما الأهم ، والذي مهدت له بهذه المقدمة الطويلة . اعترف هنا بكوني ، وربما مثل كل عراقي عانى كثيرا من سنوات نظام صدام حسين ، واضطر لان يهجر كل شئ ، وطنه وأعزاءه من اجل الحفاظ على كرامته وحياته ، لأقول اني هذه الأيام ، ممتن كثيرا ، بل وأدين كثيرا جدا إلى أغنية ظهرت مؤخرا عن البرتقال وتتغزل بالبرتقال وهو على أغصانه . فهذه الأغنية بالذات نجحت في حل مشكلة زوجتي من كوني رجل لا يطيق الطرب ولا يقدره ولا يعطيه حقه ، وأنقذتني من احتمال ان تلجأ زوجتي لطلاقي ، وان تتهدم عائلتنا بسبب كوني غشيما وجاهلا بالطرب والمطربين . أغنية البرتقال أعادتني سريعا إلى عالم الطرب وجعلتني أراقب شاشة التلفزيون واتابع الفضائيات التي تعرض وبدون أنقطاع هذه الأغنية ، بحيث وجدت نفسي في الأيام الأخيرة اسأل زوجتي عن اخر الأخبار. اشد ما يعجبني في هذه الأغنية تلك اللحظات التي أجد نفسي فيها منغمسا تماما وأنا أراقب بإعجاب منقطع النظير الراقصات وهن يجسدن بإبداع وفن عملية قطف البرتقال ، هذه الفاكهة التي انعم بها الرب علينا ، ولم نكن نعرف قيمتها كمثال للمحبة ، لولا هذه الأغنية . أحيانا أجد نفسي أكاد التصق بشاشة التلفزيون وأنا أتابع فن حركة أجساد الفنانات الراقصات ، وإيماءات أجسادهن وهي تتثنى مجسدة حركات قطاف البرتقال بحركاتهن الإيقاعية الساحرة . لاعترف هنا أيضا ان هذه الأغنية بالذات قدمت لي خدمات كبيرة في فهم أشياء عديدة كنت غافلا عنها في حياتي ، فهل تصدقوا مثلا أنى لم اكن اعرف شكل البرتقال كيف يكون قبل ذلك ، رغم انه باستمرار متوفر على مائدة طعامنا ، ليس فقط لرخص ثمنه بل ولان زوجتي تؤمن تماما بأن افضل طريقة لمحاربة ميل جسدي إلى السمنة مؤخرا بسبب الأدوية وخصوصا الكورتزون هو منعي من مقاربة النشويات والإكثار من أكل الفواكه مثل البرتقال ؟ أقول فنحن أهل الشرق كثيرا ما تكون عيوننا لا تبصر الحقائق رغم كونها أمامنا ، حتى يأتي من يصدمنا بقوة لننتبه إلى الحقيقة العارية ، تماما مثلما نفعل مع شعرائنا وفنانينا وكل مثقفينا ، فقط صدمة موتهم ورحيلهم عنا تنبهنا إلى أهميتهم وإبداعهم ، بينما خلال حياتهم لا نعرف شيئا عن همومهم ومصاعب حياتهم في السعي وراء اللقمة ، ولا نعرف المرض والديون وسوء السكن وغير معاناتهم مع ذلك ، وهكذا فان هذه الأغنية علمتني ومن خلال حركات المطرب وراقصاته الحلوات حقيقة بأن ثمر البرتقال يكون كرويا تماما ، وعليه ومن شدة إعجابي بالأغنية رحت بيني وبين نفسي ومغافلا زوجتي اقف أمام المرآة المنصوبة في ممر البيت مرارا وتكرارا وكرشي يهتز يمينا وشمالا وأحرك أصابعي يدي بتلك الحركة المتناظرة الفذة والعبقرية التي اعتقد أنها هبطت كالوحي على المطرب أو مخرج شريط الأغنية في التلفزيون ليبينوا لنا كروية ثمر البرتقال . لا يهم ألان كل هذا ، ولاقول وأنا أتابع أصداء هذه الأغنية بين الناس ، اكتشفت كيف يمكنها ان تؤثر ليس على مزاج الناس بل وأيضا على حركة السوق التجارية ، إذ قال لي أحد معارفي ان أنباء الصحف ذكرت ان القماش ذو اللون البرتقالي نفذ من أسواق بعض الدول العربية في الخليج بعد شيوع الأغنية ، ولا ادري هنا ، هل ان هناك ثمة نسبة من الأرباح تقدم كمكافئة للمطرب وراقصاته من قبل التجار الذين لو كنت مكانهم لنصبت شاشات كبيرة لاعرض هذه الأغنية على مدار الساعة لأحقق المزيد من الأرباح .

بهرني جدا نجاح هذه الأغنية ، وبين لي أهمية هذا النوع من الطرب ، وعقم السنين التي مرت من عمري وانا منشغل بأخبار السياسة ، هذا النجاح المثير للأغنية كانت له تأثيرات لم تخطر ببال أحد ، ولا حتى صانعي الأغنية ، فحسب ما همس لي به أحد معارفي بان صديقا قريبا اليه سره بتطورات غريبة في حياته ، فمنذ ظهور الأغنية تخلى عن استخدام حبوب الفياغرا ، إذ بمجرد ما تظهر الأغنية ، حتى يجد نفسه يقفز على زوجته ليهصرها ويعصرها ويقشرها ويلتهمها دفعة واحدة وهي غير مصدقة ما يجري مع زوجها الذي كانت تظن ان عوده جف وانتهى . ان نجاح الأغنية قادني أيضا إلى التوقف بغضب عند بعض الكلام الذي راح يكرره بعض المعارف حول ان هذه الأغنية تهزأ من مصائب الشعب العراقي ، فحسب أقوالهم ان مطرب الأغنية وبعد ان شبع هو وأفراد عائلته من الغناء والتصفيق لصدام حسين والتغزل بعيونه وصدره وذراعه وسيفه وبطولاته ، لم يحاول وبعد زوال صدام حسين ان يعتذر للشعب العراقي ولو بكلمة ، وانما بدل ذلك راح يعرض لهم أجساد راقصاته الغجريات اللاتي ألبسهن اخر صيحة من ملابس الرقص والإكسسوارات ، بينما تجلس الأمهات العراقيات مجللات بالسواد في انتظار المجهول وبعضهن لا زلن يواصلن البحث عن فلذات أكبادهن الذين فقدوا في سجون وحروب صدام حسين ، كنت أقول لمعارفي ، ردا على كلامهم الذي أرى فيه شئ من حسد معيشة ، بان الحياة يا اخوتي يجب ان تستمر ، ووسط الانفجارات والأعمال الإرهابية والانقطاع الدائم للتيار الكهربائي من الجيد إدخال السرور الى قلوب الناس بالغناء عن البرتقال والتفاح والـ ... ، فيضحكون مني ، ويقول كل منهم ، هذا اخر الزمان أنت من صار يتحدث عن الطرب ، أولا عليك ان تحفظ اسم المطرب وتعرف تاريخه ثم تدافع عنه. مالي وتاريخ المطرب ، وماذا كان يفعل زمن المجرم صدام حسين ، ان كان مطرب الأغنية صفق وغنى لصدام حسين كما يقولون ، فغالبية المطربين العراقيين غنوا للديكتاتور صدام حسين وطبلوا له سواء بالإكراه أو عن رغبة وإيمان ، وهاهم كل يوم يظهرون على الفضائيات يطلقون النكات ويغنون ويتحدثون عن كونهم كانوا من ضحايا صدام حسين والحصار ، دون ان يفكر أحدهم بالاعتذار عن أغانيهم التي سقمت الناس وطبلت للحرب وللفكر الواحد والقائد الأوحد ، ومع ذلك أقول مالي ومالهم ، انا معني هنا بكون هذه الأغنية استطاعت ان تقتحم عليّ هذا الجفاف المحيط بي ، واستطاعت ان تلفت انتباهي إلى عظمة الرقص الشعبي العراقي ، سواء كان الهجع أو الربع هجع ، اما كون الراقصات حقا كن غجريات وظهرن بثياب اخر صيحة ابرز مفاتن اكثر مما سترها أو ان هذا افتراء من مغرضين ، فهذا الأمر لا يعنيني ، الذي يعينيني كيف ان مخرج الأغنية للتلفزيون وبفن جذاب جعلهن يرقصن وأجسادهن تتلوى باللون الفضي الحليبي للقماش اللامع وكأنهن الملائكة ، بحيث ...

ختام هذه الحكاية عليّ الاعتراف بحقيقة ما جرى حين جاءت زوجتي ، ووقفت حاجزا بيني وبين التلفزيون في الصالة ، لتخبرني بحزم بأنها وضعت لي تلفزيون خاص في جانب من غرفة النوم ، اشترته من مدخراتها الخاصة ، من محل الأجهزة المستعملة ، وطلبت ان اذهب لمتابعة نشرة الأخبار متى اشاء ، وهو تدردم :
ـ يبدو أنكم الرجال لا تصدقوا أنفسكم حين تحصلوا على فرصة ما ؟ في البدء فرحت بأنك صرت تهتهم بالطرب والغناء ، على الأقل حتى لا تتعرض إلى نوبة قلبية جديدة بسبب نشرات الأخبار فإذا بك تنقلب إلى ثعلب تبحث عن البرتقال والطمأنينة بين سيقان الراقصات وهن يردحن !




3 آب 2004
سماوة القطب


 



 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter