|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  28  / 7 / 2015                                 عبد جعفر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

صباح مرعي
حياة لم تعكرها التناقضات

عبد جعفر

صباح مرعي الذي ودعنا الى الأبد صباح 16-7-2015 رجل مختلف، ليس في إناقته المفرطة رغم سكنه لأكثر من عشرين عاما، في صناديق بائسة ضيقة، ماعدا شقته الاخيرة، بل أيضا في جمعه متناقضات تبدو أنها لا تصلح سوى له، ولكنها تبدو مفهومة من يقترب كثيرا من شخصيته، ولا يجد فيها ما يثير الإستغراب.

هذا الرجل، ظل ملتصقا بالحزب، رغم ما تعرض له جراء نصيحة رفاق من مناصري (الجبهة الوطنية) حين شجعوه على الذهاب الى الوطن في منتصف السبعينات، فكان جلاوزة النظام بإنتظاره، فأخذ من المطار وجرى تعذيبه بقسوة، ليرجع الى بلغاريا على نقالة من دون أن يرى ذلك الوطن (السعيد) الذي فارقه دهرا! ترك ذلك آثارا لا تمحى على روحه وجسده، وكانت واحدة من الإسباب موته اللاحق بسبب التكلسات في رقبته نتيجة التعذيب وإنتشارها لاحقا في قفصه الصدري مما عطل عمل رئتيه.

وصباح يبعثر ما لديه يمنيا ويسارا، لا لأنه لا يخاف من المستقبل و الأفلاس بل لأنه يجد ذلك قوتا لغده، وسعادة لمواجهة كآبة ما تأتي به الأيام، ومن أخبار الوطن، أذ لايمر يوما بدون حزن أو وجع.

وكان يحرص على التبرع في كل مناسبة وخصوصا للمقهى الثقافي العراقي في لندن، ويحمل نفسه بشكل لا يطاق كي يجهز الطعام في حفلات الحزب، ليس هذا فقط بل تحمل الوقوف للساعات طويلة للمساهمة في المطبخ.

ومن يدخل بيت صباح فهو بالتأكيد سيكون آمنا من الجوع، فمائدته عامرة ونفسه كريمة في تقديم ما يرغب ضيوفه. وفي الفترة التي كان يشرف على تحرير صحيفة (المنتدى) كان بإنتظارنا مائدته العامرة بكل شيء، ولا يقبل بإكتفائنا بتحرير المواد مهما كانت الأعذار. ويرجع له الفضل في تحويل (المنتدى) من كراس بائس الى شكلها الحالي.

وهو لا يداهن قول الشاعر اليوم خمر وغدا أمر، بل يعمل على إتصال النهار بالليل ويجعله واحدا في سماء لا ترده حين يرتفع، وأرضا تحتضنه بالدفء مادام فيه صحبة الأصدقاء. وربما يحاول أن يكتب واحدة من قصائده الشعبية، رغم أن شيطان الشعر لم يعد يزوره، ربما لأنه أغلق كل الأبواب أمام كل الملائكة والشياطين.

صباح مرعي الدكتور الطبيب، لا يراعي ما تعلمه مع صحته وجسده، فهل كان يمشي عكس التيار، أم أن الرغبة بالحياة والتمتع بأيامها وأن قصرت، أفضل بكثير من حياة طويلة ومملة، ما دام الموت قادما لا مفر منه؟ وكما يقول الشاعر:

إن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدفعني أبادرها بما ملكت يدي

حمل صباح سره المفضوح وذهب، فهو يعرف كيف يرد على لائميه، بجواب قاطع وشاف: إنه طبيب ويعرف ما عليه. وحين نعترض، يدعونا للإشتراك في الشرب والأكل كي نسهم معه في تحمل ثقل اللوم وزر ما يفعل.

وصباح مرعي يحرص رغم متاعبه الصحية ومرضه، على حضور الفعاليات، وحين يغالبه الألم والتعب يغفو، ربما كان يحس براحة الطفل حين يغفو بين أحضانه أمه، وكلما تسأله ما الذي جاء بك، وهل تشعر أنت بخير؟ يبتسم، ويقول كمن يرد عن نفسه تهمة، أنه ممتاز! ولكنه سرعان ما يغفو، تاركا فمه مفتوحا من أجل تمتلأ رئتيه المتعبة بالهواء أو تخلصيها من كربونها.

لا أعرف لماذا يحرص على الجلوس في المقاعد الخلفية، فهل جاء للإستماع حقا أم أنه ليؤكد لنا أنه مسترخي ويبتسم أذن هو موجود؟

ورغم ذلك فهو يهب واقفا ليوضح رأيه أو إعتراضه على قضية تم طرحها، بشكل جريء غير مداهن، ليعلن أنه كان متابعا لما يطرح. ولا يخلو من الإنفعال والصراخ والصراحة حديثه مع الأخرين ، وحالما يهدأ يرجع لطبيعته بدون أن يحمل إحقادا على الأخر.

وصباح في المستشفى كان يعرف أكثر من غيره أن أيامه معدودة، ولكن لا يكل ولا يمل بالحديث عن السياسة، ومعرفة أخبار الحزب، وبث الشكوى من ممارسات قوى الظلامية والمتنفذة في الدولة. ربما فكر أن يضاف لبداية أسمه حرف ميم ليصير مصباحا، ينير طريق الملايين الذين تمارس عليهم عمليات غسل الدماغ بأسم الدين تارة وبأسم خطب أمراء الطوائف مرة أخرى. وربما رغب لو أن لديه أداة سحرية لتغيير الواقع، ولم يسكت أحلامه ألا وجعه و حاجته لوضع كمامة الأوكسجين على وجهه.

صباح مرعي رحل في العيد وفي ذكرى ثورة تموز، لا ليقلب فرحنا حزنا، أو ليوجعنا بفقده، أو يقول نكتة ثقيلة الدم، بل أراد أن يؤكد أن الحياة نهايتها الطبيعية الموت، كلنا نحيا ونعيش ثم نمضي ولن يبقى لنا فيها كمناضلين سوى الذكر الطيب.

هكذا أعلن صباح مرعي رحيله ثانية، ورفع غطاء الأرض الرطبة يوم 24-7-2105 في مقبرة نائية شمال لندن الممطر رغم وجود العديد من رفاقه وأصدقائه وزوجته و إبنته، دخل تاركنا في حيرة لا نعرف ماذا نعمل؟ هل نلموه على هذه الخيانة لأنه تركنا مبللين تحت المطر ؟ قلنا كلمات كثيرة تمدحه وتشجعه وجلبنا باقات الورد ولكنه لم يلب دعوتنا ليأتي معنا، رغم أن بكائنا وحزننا زاد عن حده.

ترك صباح مرعي لنا سيرة الرجل الطيب، الكريم، المناضل، الشيوعي الذي رأى الكثير وعانى زمنا من الأوجاع والأحزان وقامر على سعادة لم تأت ولكنه لم ينكسر، مؤمنا أن الإنسان يتحطم ولكن لن يهزم.


 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter