| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عامر صالح

 

 

 

الثلاثاء 15/6/ 2010

 

انعكاسات الفكر الجدلي في سيكولوجيي نشأة القدرات العقلية للإنسان

 د.عامر صالح
 
"
العلم كالأرض, لا يمكننا أن نمتلك منه سوى القليل القليل " - فولتير

لقد تركت النظرية الماركسية أثرا كبيرا في مناهج العلوم المختلفة من خلال المساهمة الكبيرة في تأسيس طرائق البحث التجريبي والنظري عبر إحكام أصول البحث فيه وتقنين خطواته العلمية, بعيدا عن التأمل الخرافي في طبيعة الظواهر, إلى جانب إضفاء الصفة الإنسانية في تطبيق نتائج الأبحاث وشيوعها من خلال رؤى ديالكتيكيه تضمن رؤية الظاهرة في ظروف ارتباطاتها المتداخلة والمتبادلة في ضوء معرفة العلاقة بين الأسباب والنتائج التي تقود إلى فعل محدد,وجعل مكانة الإنسان في المقدمة باعتباره الهدف الاسمي للنشاط المعرفي والعلمي,وكما يقول ماركس" الإنسان أثمن رأس مال ", ولصالحه أيضا توظف كل الوسائل المتاحة لخدمة نموه العقلي والمعرفي وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي وتحسين ظروفه المعيشية وبالتالي أداءه في مختلف المجالات.

وعلى الرغم من تعثر القراءة الستالينية السوفيتية وازدواجية القراءة الصينية وغيرها من القراءات للفكر الماركسي التي اقتربت من الفهم الرتيب الذي وصل بها إلى درجة الابتذال أو الفهم الميكانيكي الجامد للنص الماركسي,إلا أن هذا لا يعطل من قيمة الفكر الماركسي ونظريته في فهم الظواهر الإنسانية باعتبارها منهجا في العمل,فالطبيب الفاشل في عمله لا يعبر مطلقا عن فشل المنهج العلمي في الدراسات الطبية,بل يعبر عن مدى استيعابه واستخدامه للمعارف والعلوم في نطاق عمله,أو قد يعبر عن عجز المؤسسة التعليمية في توفير فرص النجاح لترجمة المنهج الطبي ورفده بالإمكانيات اللازمة لخلق الكادر الجيد.

ومن العسير علينا اليوم أن نرى العلوم الاجتماعية والطبيعية دون تأثير المنهج الديالكتيكي فيها بشكل مباشر أو غير مباشر باعتباره احد المناهج والنظريات في تفسير الظواهر الإنسانية والطبيعية,أي الكون الطبيعي بتفصيلاته والمجتمع بمعلوماته ومعارفه المتنوعة وأنماط العيش فيه.وعلم السيكولوجي "علم النفس " من العلوم التي تأثرت هي الأخرى بحظ موفور بالمنهج الماركسي,وخاصة في ميادين الأداء العقلي والفكري للإنسان وتعديل سلوكه وتكيفه مع البيئة المحيطة.وقد ركزت بشكل كبير على الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتربوية المحيطة بنمو الإنسان في مراحل عمره المختلفة باعتبارها شروطا لازمة لتحسين الأداء العقلي والمعرفي بصورة عامة وفي مختلف مجالات الحياة : الأدبية والعلمية والاجتماعية والتكيفية, شريطة توفر الأساس الدماغي " المخي بشكل خاص "السليم الذي تشترك فيه كل أبناء الخليقة باختلاف ألوانها " اسود,ابيض,أشقر,حنطي " وباختلاف أمكنتها الجغرافية والقارية,وفي إطار البلد الواحد " ريف,مدينة,مدن كبرى ,مدن صغرى,الخ ".

أن هذا الفهم ينطلق قبل كل شيء من أن الطفل يولد ضعيفا من الناحيتين الفسيولوجية والاجتماعية في مجتمع يضم منجزات النوع الإنساني المادية والفكرية عبر التأريخ مع تفاوت مفزع بين المجتمعات العالمية وداخل المجتمع الواحد في مستوى تقدمها المادي والثقافي,ويبدأ الطفل بالتفاعل معها وينمو باستعمالها ويعبر عن نشاطه باستعمالها على نسق ما يفعله الكبار والمحيطون به,فتتكون لديه بالتدريج قدراته العقلية الخاصة مثل القدرة الرياضية والقدرة اللغوية والقدرة الفنية والقدرة الميكانيكية وتتطور باعتبارها ظواهر اجتماعية جديدة نشأت لديه لا قوى فكرية فطرية كامنة في طبيعته البيولوجية. ويبدأ الطفل بالسيطرة والاستحواذ على الأدوات المادية والفكرية المتوافرة في الأسرة التي يترعرع فيها, ويبدأ اختلاف المواهب أو القدرات الفكرية الخاصة عند الأطفال بالظهور بفعل اختلاف مستوى تقدم أسرهم ثقافيا ومن الناحية المادية.ثم ينتقل الأطفال إلى المجتمع الأكبر بما فيه المدرسة فيزداد تنوع قدراتهم الخاصة ويتفاقم اختلاف مستوياتها.

معنى هذا بلغة الفسيولوجي أن الأطفال يستثمرون مقادير متفاوتة من رصيدهم المخي المتماثل وفي ضروب مختلفة من النشاط الاجتماعي من جهة أخرى,عندئذ تبدأ الفروق الفردية الفكرية بينهم بالتبلور والتباين,فالأقل أداء هم الذين يستثمرون الحد الأدنى من رصيدهم المخي الذي نتهمهم في البلادة فيه " طبعا نستبعد هنا حالات التخلف العقلي وحالات اضطرابات النمو التي يعاني منها بعض الأطفال والتي تكون سببا مباشرا في تخلف أدائهم العقلي ",ويحدث العكس لدى المراتب الفكرية والعقلية الأخرى من الإفراد الذين يستخدمون أقصى قدراتهم الدماغية والتي تتخذ خطا تصاعديا قد يصل بها إلى أقصى درجات العطاء والابتكار والتفوق الدراسي,ولابد من الإشارة هنا إلى أن الصفات الفكرية ـ العقلية نسبية وليست مطلقة,فليست هناك غبي في جميع الموضوعات أو الاختصاصات " باستثناء الحالات المرضية " كما أن من يدرس تاريخ العباقرة يفزعه تفكيرهم الضحل وحتى البليد أحيانا في الموضوعات التي تقع خارج دائرة اختصاصهم وتركيزهم الشديد,بل أن الكثير منهم اعتبروا في مقاييس مدارسهم ونظامهم التعليمي أغبياء ويستحقون العقاب المدرسي,لأنهم لا يستجيبون للظروف التعليمية التقليدية التي تمليها عليهم مدارسهم و لا يستطيعوا التكيف معها. وقد قام العلامة العراقي الفقيد الدكتور نوري جعفر( 1914 ـ 1991 ) بتخصيب هذه الآراء مستفيدا من انجازات المدرسة الروسية ـ السوفيتية في ميدان فسيولوجيا الجهاز العصبي,ولعل أبرز مؤلفاته في هذا الميدان : "اللغة والفكر", " الفكر طبيعته وتطوره ", " الجهاز العصبي المركزي الأساس المادي لمشاعر الإنسان وانفعالاته " ,طبيعة الإنسان في ضوء نظرية بافلوف بجزئيين " وغيرها من المؤلفات, وكذلك تطبيقات ذلك على الأرض العراقية في ميدان رعاية الموهوبين ومعالجة مشكلات التخلف الدراسي في النظام التعليمي العراقي.

كما أكد الكثير من العلماء أن ثمة علاقة بين المستويات العقلية للأطفال وأعمار الوالدين وعند تكرار التجارب على أطفال من أولاد الطبقات الاجتماعية ذات المستوى الاقتصادي ـ الاجتماعي الأعلى اختلفت النتائج وتبين أن الأطفال والشباب القادمين من طبقات ذات مستوى ذات مستوى اقتصادي واجتماعي أعلى يتفوقون على القادمين من طبقات فقيرة محرومة,واستنتج العلماء أن العلاقة ترتبط بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي للأسرة وليس بأعمار الوالدين,ناهيك عن تفاوت غنى البيئة المحيطة الأكبر خارج المنزل بما فيه المدرسة والنظام التعليمي.أن هذه الأبحاث تعطي زخما مضاعفا للفكر الماركسي في دعواته المستمرة لتحسين ظروف العيش الكريم في تطوير وتحسين الخدمات التربوية,وتحسين أوضاع الأسر اجتماعيا واقتصاديا بما يساعدها على تحسين أدائها المعرفي والعقلي.

وقد كشفت بحوث " فرنون " بأن عدد أطفال الأسرة له علاقة بمستوى ذكاء الأطفال,فأطفال الأسر الكبيرة اقل مقدرة ذهنية من أطفال الأسر الصغيرة,ومبرر ذلك قد يكون هو أن وجود عدد كبير من الأطفال في الأسرة يقلل من مقدار الاستثارة الذهنية والمعرفية التي يتعرضون لها من لعب وكتب وصور ونقصان التفاعل بين الوالدين والأبناء وضمور النمو اللغوي باعتباره الشرط اللازم لنشأة القدرات العقلية.ودراسات أخرى ترى بأن حجم الأسرة ومكانتها اقتصاديا واجتماعيا هي العامل المؤثر في " الذكاء ",فأبناء الطبقات الغنية يميلون أن يكونوا أعلى في نسبة الذكاء وكذلك أطفالهم,وهم يفضلون أن يعيشوا بحجم صغير على العكس من الطبقات الفقيرة المعدمة.ورغم ما تحمله هذه الأبحاث من مسحة تحيزية صوب الأسر الغنية في تقديري الشخصي مغفلة عوامل الطموح والتعويض الكبيرين في أوساط الكثير من الأسر الفقيرة, إلا إنها تخفي في طياتها بعض الاستنتاجات الضرورية والهامة للتطبيقات العملية للفكر الماركسي في هذا الميدان,لعل أبرزها هو أن التخطيط الأسري والتوزيع العادل للثروات يسمح بتنوع وغنى ثقافي أفضل في البيئة التربوية المحيطة مما تشكل عوامل استثارة ذهنية تشكل بدورها استجابات عقلية نوعية تضفي على العمليات المعرفية بعدا أكثر تعقيدا يدفع باتجاهات ايجابية نحو تحسن الأداء العام,وتوفر فرصا أفضل لحوار الطفل مع البيئة,باعتباره مصدرا أساسيا لتشكيل قدراته العقلية.

يتضح أذن ووفقا للمفهوم الديالكتيكي في علم النفس أن القدرات العقلية الخاصة كالوظائف العقلية العليا "التفكير,اللغة,الانتباه, التخيل,الذاكرة " ليست قوى فطرية مسجلة بطريقة متحجرة في القشرة الدماغية,بل هي تنشأ وتنمو وتتكامل في مجرى حياة الفرد على أساس الإمكانيات الفسيولوجية المخية المتماثلة لدى جميع الأفراد الأسوياء,غير أن هذا النشوء والتطور لايحصلان دفعة واحدة بل يمران بسلسلة من المراحل التحولية على هيئة أعضاء مخية وظيفية أو حلقات فكرية مترابطة,لكن بعضها لا يتكون أطلاقا لدى بعض الأطفال منذ مراحل نشأتهم الأولى وحتى في مراحل التحاقهم في المدرسة لأسباب ثقافية واجتماعية واقتصادية وتربوية ـ تعليمية,وقد يتكون بعض أخر بشكل ناقص أو ممسوخ تتضح أثاره السيئة في عرقلة النمو الفكري ـ العقلي اللاحق.والأطفال الذين يفتقدون إلى المقدرة الوظيفية ـ المخية في موضوع معين يعزفون عنه ولا يبذلون فيه الجهد الفكري المطلوب,أي أنهم بعبارة فسيولوجية يستثمرون الحد الأدنى من إمكانياتهم المخية فتبدوا عليهم ملامح " البلادة " ذات الأصول الاجتماعية ـ التربوية.

واليوم حيث تنتعش أبحاث الوراثة لتحديد مستويات الاختلاف في ذكاء الإفراد وقدراتهم العقلية,والتي تمتد بجذورها الأولى إلى اليونانيين القدماء,فعلى سبيل المثال كان تصور أرسطو وقبله أفلاطون بان هناك حقائق نفسية وفوارق بين الناس لا بد من مراعاتها في التربية,وقد جاء في الكتاب الثاني لجمهورية أفلاطون بأن الناس على يده ينقسمون إلى ثلاثة طبقات : طبقة المفكرين وتأخذ الدور القيادي,وطبقة العاملين وتأخذ دور الإنتاج والعمل, وطبقة الجنود وتأخذ دور الدفاع والحرب,كان هذا التقسيم نابعا من السمات الفردية التي تتميز بها طبقة عن طبقة جسديا وفكريا ونفسيا حسب ما يراه إدراكا منه بأن الإفراد ليسوا متشابهين,وكذلك أرسطو عند حديثه عن الانفعال وخصائص بان الفروق بين الإفراد وداخل الفرد ذاته ثابتة وقائمة ولكل من الناس مجال معين كالفنون,والعلوم,والملاحة ,الرياضة,والطب,والهندسة,وفي التراث العربي ذكر الفارابي في كتابه "المدينة الفاضلة" حين تحدث عن خصائص الخلق أن كل مستمر يقبل القسمة,فيه زيادة ونقصان وتوسط وطبق ذلك على المستويات العقلية والمجالات النفسية,وقال الأصمعي : " لن يزال الناس بخير ما تباينوا,فإذا تساووا هلكوا".

أما أبحاث الوراثة التي نشطت في القرن العشرين والقرن الحالي لتحديد النسب المختلفة للذكاء والقدرات العقلية,وكان معظمها يعتمد على أسلوب المقارنة ودراسة العلاقات بين التوأم المتناظرة "من بويضة واحدة ",وغير المتناظرة " من بويضتين مختلفتين ",والآباء,والأبناء,والأشقاء,وغيرها من احتمالات القرابة,واقترابها أو ابتعادها عن الخصائص الوراثية للأفراد,ويؤكد أنصار الوراثة انه من الطبيعي أن تتشابه التوائم المتناظرة في صفاتها الوراثية وبالتالي "في نسب ذكائها" بحكم الوراثة.وكانت دراسات "هيرندون" من ابرز الدراسات التي حاولت عام 1954 إثبات المحددات والحتميات الوراثية للذكاء بطريقة إحصائية لحساب العلاقة القائمة بين درجات القرابة ومستوى الذكاء,واستنتج بأن اثر الوراثة في الذكاء يصل إلى 75%,وهذه النتائج تتلاقى مع دراسات بيركس عام 1928 التي وجد فيها اثر الوراثة في الذكاء يصل إلى 75% ,وكذلك ما أكدته دراسات أيزنك وبريل التي قاما بها عام 1951 أن سمات الشخصية تخضع لنفس النسبة من التأثير الوراثي.

واستنادا إلى هذه الدراسات فأن الوراثة تحدد المستويات العليا للصفات المختلفة التي يمكن أن يبلغها الفرد عندما تتوفر له البيئة المناسبة لظهور تلك المستويات,وحين لا تتوفر له البيئة المناسبة فأن تلك " البذور " لا تصل بنموها إلى حدودها العليا التي ورثتها عبر " السلالة " التي انحدرت عنها حسب تصورهم,أما الأبحاث اليوم فتركز على الحامض النووي " دي.أن.أيه " الحامل للصفات الوراثية الآتية من الأب والأم,وصولا إلى تقنيات العلم الحديث في عمليات الاستنساخ الحيواني والتي قد تطال البشر لاحقا لإيجاد مخلوقات من نسخة طبق الأصل بالتوالد اللاجنسي,قد تتجاوز حدود الملامح الرسية " الشكل واللون والطول وغيره " إلى محاولات الحصول على مستويات ذكاء مختلفة وأنماطا من الشخصية عبر الاستنساخ !!!.

إلا إننا نؤكد هنا وليست من باب دحض نظريات الوراثة إلى أن ما يجري إلى اليوم من دراسات في هذا الميدان يقيس نتائج تفاعل البنية الفسيولوجية ـ المخية بعد وقوعها تحت تأثير التنوع البيئي الاجتماعي والثقافي والاقتصادي,أي تقيس القدرات العقلية بعد تشكلها ولا تقيسها " كقدرات خام " قبل أن تتأثر بعوامل البيئة والتنشئة الاجتماعية لكي تقف على تفاوتها لدى الأفراد,ولأن ذلك غير ممكن أصلا لأن الوظائف العقلية لا تتشكل إلا عبر عملية التماس المباشر والتفاعل مع المخزون الثقافي داخل المجتمع ,وبما أن الظواهر النفسية كالقدرات العقلية مثلا تتشكل بفعل منظومة معقدة من المتغيرات لا يمكن بسهولة عزلها وتثبيتها والتأكد من ما هو وراثي وما هو بيئي,ولا توجد إلى اليوم دراسة واحدة تقف على الذكاء باعتباره قدرة خام منذ الولادة لانتفاء ذلك باعتبار أن القدرات العقلية صور ذهنية لواقع موضوعي ينشأ بفعل عمليتي الإحساس والإدراك الحسي.

ومن هذه المنطلقات واستنادا إلى تعقيد نشأة العمليات العقلية والأسباب المؤدية لها فأن الفكر الماركسي يركز على تحسين ظروف البيئة المستديم والتركيز على تحسين ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من تربية وتعليم باعتبارها مدخلا لازما لتسهيل استثمار أقصى ما يمكن من القدرات الفسيولوجية ـ الدماغية بعيدا عن تأثيرات الوراثة فيه " عدا حالات التخلف أو الأمراض العقلية ",وهو هدفا إنسانيا بحد ذاته يضمن توفير قدر كافي من تكافؤ الفرص للجميع مهما تنوع الأداء لاحقا.وان ما يجري اليوم من عمليات النهوض بمستويات الحياة العامة وتحسين ظروف العيش من صحة وتربية وتعليم وتحديث للبنى التحتية في بقاع العالم المتمدن ما هو إلا استجابة للتأثيرات العميقة للفكر الماركسي كجزء من مسيرة الفكر الإنساني بصورة عامة !!!.




 

free web counter