| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عامر صالح

 

 

 

                                                                                      الأثنين 22/8/ 2011


 

الدين بين جمال علم النفس وقبح السياسة

 د.عامر صالح 

أن العلاقة بين الدين وعلم النفس وخاصة العلاجي منه كانت علاقة سلبية, بل علاقة قطيعة مطلقة, ولو قال احد قبل خمسة عقود وحتى اقل من ذلك أن علم النفس العلاجي والدين سيلتقيان ولو في بعض من مفاهيمهما لعده الناس والأوساط العلمية بأنه مجنون, فرجال الدين كانوا ينظرون إلى علم النفس بصورة عامة والتحليل النفسي الكلاسيكي بصورة خاصة نظرة يشوبها الكثير من الغيظ والتشكك والحقد, فدراسة السلوك الإنساني التجريبي برأيهم ما هو إلا انحدار بالقيمة الإنسانية إلى مصافي الحيوانات كالقرود والفئران وغيرها, وكذلك النظر إلى تعميم بعض الحقائق العلمية التي تم الحصول عليها من ملاحظة سلوك الحيوانات على السلوك الإنساني, ما هو إلا محاولة للحط من قيمة الإنسان ومكانته كما يفهمها هم, وعلى خلفية ذلك تم تكفير الكثير من العلماء واستباحة دمائهم واعتبارهم خارجين عن تعاليم الدين, وكذلك الحال بالنسبة لعلماء النفس المتشددين وخاصة من رواد مدرسة التحليل النفسي الأوائل وخاصة سيجموند فرويد الذي لخص موقفه من الدين بطريقة حدية متطرفة, فقد اعد الدين بمثابة اضطراب الوسواس القهري الذي أصاب البشرية جمعاء, وقرر بأن الطقوس والشعائر التعبدية ما هي إلا صورة للأعراض العصابية لهذا الاضطراب النفسي العام.

كما فسر فرويد نشأة الدين بطريقة لم تلقى الاستحسان والقبول حتى من أنصاره في مدرسة التحليل النفسي’ بتأكيده: " أن هذه الاعتقادات التي تعرض في الدروس الدينية لا تنبع من الخبرات البشرية المتراكمة’ وليست هي نتاج للتفكير المستقيم إنما هي نوع من الهذاءات, بل هي إشباع لأقدم وأقوى وأشد رغبات الجنس البشري إلحاحا .... أن الإحساس بالتهديد والخوف والشعور بعدم الأمان لدى الطفل لا يقدر على مواجهة ظروف الحياة أيقظ لديه الحاجة إلى الحماية والحب في الوقت نفسه, وهو الأمر الذي يتولاه الأب عادة..... ثم أن عجز الإنسان البدائي على مواجهة قوى الطبيعة وقلة حيلته جعلته في حاجة إلى حماية دائمة من هذه الأخطار التي تهدد حياته فتعلق " بأب " أكبر هذه المرة, أنه " الله ”..... لقد وجدت مشاعر القلق التي تنتاب الإنسان أمام عجزه على مواجهة أخطار الحياة هذه حلها في الدين في ظل الحماية الإلهية والتعاليم السماوية التي سنت القوانين الأخلاقية التي تنتظم العالم وتلبي حاجة الإنسان إلى العدل الأخروي الذي قلما تحقق في عالم الناس, وما يتبع ذلك من الإيمان بالحساب والإيمان بحياة أخرى هي في الحقيقة امتداد لحياة قلما استطاع الإنسان أن يشبع فيها كل رغباته ".

أن وجهة نظر فرويد هذه لم تطلق العنان لتأسيس علاقة سليمة بين الدين ومدرسة التحليل النفسي الكلاسيكي وخاصة في شقها العلاجي, وكان خلط فرويد بين ما هو إيماني فردي وشخصي بحت وما بين ما هو جمعي احد أسباب سوء الفهم في الاستفادة من العنصر الإيماني في الممارسة العيادية, مما أدى إلى إقصاء العامل الديني وإمكانية الاستفادة منه في أروقة منظومة العلاج المتنوعة. وقد كان ذلك من جانب آخر دافعا قويا لدى الكثير من العلماء الذين أتوا من بعده في البحث والتنقيب عن أمكانية الاستفادة من العامل الديني في العلاج النفسي في إطار النظرة إلى الدين باعتباره احد مصادر تشكيل السلوك الفردي الأخلاقي والقيمي في نطاق الثقافة السائدة.

وقد ظهر اتجاها ايجابيا, سواء من داخل مدرسة التحليل النفسي أو من خارجها يؤكد على أهمية هذه العلاقة بين علم النفس والدين والاستفادة من الأخير في تقنيات العلاج النفسي, فقد أكد عالم التحليل النفسي " كارل يونج " على ضرورة دراسة الدين وأثره في سلوك الإنسان, مؤكدا أن ارتباط الفرد بالدين وأيمانه به يزيد من صحته النفسية ويسهم في علاج الاضطرابات النفسية, وكذلك يؤكد العالم " فيكتور فرانكل " صاحب نظرية العلاج بالمعنى والتي تؤكد على أهمية الأبعاد العقلية والروحية للإنسان ومساهمتها في الصحة النفسية للفرد, ويؤكد انه قد تتعرض إرادة المعنى عند الإنسان إلى الإحباط وهو ما يعرف بالإحباط الوجودي وفقا لنظرية العلاج بالمعنى, وقد يتمخض عن ذلك الكثير من الاضطرابات النفسية, وبالتالي يشير إلى أن الشخص الذي لديه معتقدات دينية فانه من المفيد توظيفها في علاجه إذا كان مريض نفسيا, وكذلك العالم " ابراهام ماسلو " من علماء المدرسة الإنسانية في علم النفس والذي دعا إلى ضرورة أن تتحول الدراسات النفسية من التركيز على قضايا التحليل النفسي والوصف الآلي للسلوك إلى الدراسة الايجابية للسلوك الإنساني بما فيها من أخلاق وقيم ودين وغيرها, كما يؤكد العالم " جونز " أن هناك أربعة أنماط من التفاعل بين الدين وعلم النفس هي:

1 ـ تطبيق النظريات وطرق البحث النفسية لدراسة الخبرة الدينية.

2 ـ العديد من واضعي النظريات النفسية تعاملوا مع الدين بهدف تطبيق مفاهيمهم وأساليب بحثهم على الخبرة الدينية, وذلك من خلال الإطار المعرفي لعلم النفس.

3 ـ تطبيق النظريات والمعارف النفسية في برامج الرعاية المقدمة في المؤسسات الدينية.

4 ـ اعتبار الخبرة الدينية ومفاهيمها ومؤسساتها شركاء معتبرين في المناقشات الدائرة حول الخبرات الإنسانية. وتتفرع من هذه النقطة عدة ملاحظات أساسية أبرزها: على علم النفس كمنظومة علمية أن يطول لدى منتسبيه وعيا أكبر واحترام أكثر للإيمان الديني والتقاليد الروحية. وإيجاد تعاون حواري اكبر بين الدين وعلم النفس كعلم, بحيث يؤخذ في الحسبان المعتقدات الموجودة لدى الباحثين الدارسين. وأخيرا الفهم بأن الدين والتطبيقات الروحية تساعد في الشفاء وكذلك في مقارنة الأمراض وفي مراحل التغيير لدى الأفراد.

وعلى الرغم من أن طلائع البحث الميداني في علاقة علم النفس العلاجي بالعامل الديني بدأت منذ مطلع الخمسينات في القرن الماضي, إلا أن حجم الأبحاث في هذا الميدان لا تزال دون المستوى المطلوب, وعلى العموم فأن معطيات الأبحاث العلمية المتوفرة تؤكد العلاقة الايجابية بين العامل الديني ومظاهر مختلفة من السلوك الإنساني, وخاصة عامل التدين " الجوهري " وليست " الظاهري " كما يقرره علماء النفس, وهذه العلاقات الايجابية تتضح آثارها في علاقة التدين بالصحة النفسية, وعلاقته بتدني نسبة المنتحرين في أوساط المتدينين,كما انه يقي صاحبه من الإدمان على المخدرات, وانخفاض نسبة الانحرافات في أوساط الأحداث المتدينين, وانخفاض نسبة الضغوطات النفسية والقدرة على مواجهة الصعاب ومواجهة الأزمات, وانخفاض نسبة القلق, وتعزيز احترام الذات, والتدين الحقيقي أو الجوهري يسهم في التسامح أكثر من التعصب, ويشكل غطاء وقائيا في عدم الإصابة ببعض الاضطرابات النفسية, وكذلك تقبل الموت بشك أسهل والتكيف مع مشكلات الشيخوخة الصحية والنفسية بشكل ايجابي.

وإذ نسوق بعض من فوائد العلاقة بين الدين وعلم النفس العلاجي استنادا إلى المعطيات المتوفرة لدينا من الأبحاث العلمية, فلا ندعي بأن العصا السحرية لعلاج الاضطرابات النفسية تكمن في هذه العلاقة, ولكن استنادا إلى الأسباب المختلفة والمتنوعة للاضطرابات النفسية وطبيعة المريض يقع العلاج الديني ـ النفسي احد الاتجاهات العلاجية الواردة هنا, وهي في غالبيتها تقع ضمن حدود الاضطرابات التي تقع ضمن فئة " العصاب ", والتي لا يزال المريض يحتفظ بعقله ويعي حقيقة مرضه ويطلب المساعدة والعلاج, أما النوع الآخر الخطير من الاضطرابات العقلية والنفسية والذي نعني به "الذهان" والتي يكون في معظمها المريض مقطوع الصلة بواقعه وعالمه الواقعي " أي فاقد عقله " فيدخل هنا العلاج الطبي النفسي بقوة على خلفية التغيرات الفسيولوجية و الكيمائية والكهرودماغية التي تسببها هذه الأمراض !!!!.

وفي الوقت الذي تتضح فيه ملامح علاقة ايجابية راسخة بين علم النفس والدين قائمة على أساس فهم الدين كسلوك فردي وبالإمكان استثماره ايجابيا في بعث الصحة النفسية والاستقرار للأفراد ومن ثم الجماعات, ظلت علاقة الدين بالسياسة ضمن العلاقات الحرجة والضاغطة بقوة على عوامل الاستقرار الاجتماعي وبعث الصحة النفس اجتماعية. ففي الوقت الذي وجدت فيه الدول الديمقراطية العريقة حلولا لهذه العلاقة استنادا إلى خبرتها التاريخية إلى إشكاليات هذه العلاقة, ومستندة إلى فصل الشأن الفردي الديني عن الشأن السياسي العام بما يضمن احترام وقدسية الديني وجماليته وانطلاق الحياة السياسة والعامة على أساس حرية الدين والمعتقد, ظلت بقاع كثيرة من العالم تعاني من هذه الإشكالية ومنها العالم العربي.

وتنبع هذه العلاقات المتشنجة أصلا من جذور نفس عصابية, فما يعتقد فيه الفرد صحيحا ومقدسا لا يبقى في أطره الفردية الخاصة بل ينتقل إلى عدوى اتهام الآخر الديني بأنه اقل قدسية منه, وعندما تزج السياسة بالدين وبفعل جمعي منظم يصبح الحزب السياسي الديني هو الآخر أكثر قدسية من غيره, ويكون الآخر بالضرورة عديم القدسية وفي أحيان كثيرة كافر ويستحق الإبادة والقتل, والأخطر من ذلك عندما تؤسس السياسية ليست فقط على أسس دينية ولكن على أسس طائفية في إطار الدين الواحد, عندها يبدأ التكفير من داخل الذات الدينية الواحدة وصولا إلى الآخر الديني وبذلك نتوقع هول وحجم المأساة النفسية والنفس اجتماعية, فيتحول الدين من سلوك فردي مطمأن إلى سلوك جمعي شامل منتج للعصاب الاجتماعي والكراهية والحقد, وتلك ليس هي مهمة الدين الحق !!!!.

وفي منطقتنا حيث مكونها الاجتماعي من فسيفساء ديني ومذهبي ليست من الصالح للوحدة الوطنية والاجتماعية أن تتحول مجتمعات المنطقة إلى مراكز استقطاب للخندقة المذهبية والدينية السياسية, حيث يصبح الحديث عن المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية طموحات لا يمكن تحقيقها أبدا في ظل الاحتراب الديني والمذهبي. قد يفهم من هذا الحديث هو إقصاء لأحد أو وضع شروط للديمقراطية وطبيعة أحزابها أو الحد من سقف الديمقراطية, فأن ذلك مجافي لجوهر الديمقراطية الذي يقوم على أساس المشاركة غير المشروطة, ولكن المهم مستقبل الديمقراطية الناشئة أو التي سوف تنشأ, وكذلك المهم للديمقراطية عدم استخدام الدين غطاء يستخدم لحشد الجماهير وتخويف الخصم السياسي والديني وكسب الرأي العام ووسيلة للعبث في العاطفة الدينية الفطرية للجماهير وكسب تأييدها عن طريق دغدغة انفعالاتها بشعارات فضفاضة ليست ذات جدوى عملي في تحسين ظروف العيش وبعث الحياة الحرة الكريمة.

فهل تستطيع مجتمعاتنا صياغة علاقة جميلة بين الدين والسياسة على نسق علاقة علم النفس بالدين, وإذا كان الدين فلسفة حب وإيمان ومودة بين الناس فلماذا لا ننهل منه حبنا للآخرين باختلاف أطيافهم !!!!!.








 

 

free web counter