| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عامر صالح

 

 

 

الأربعاء 26/1/ 2011


 

بعض ملامح العالم العربي بين الإحصاء و الإخصاء
" مدخل مفاهيمي ومؤشرات رئيسية على ضوء تقرير اليونسكو للعلوم 2010 "

 د.عامر صالح

قد يبدو للوهلة الأولى هذا التناقض وسوء الفهم بين علاقة الإحصاء بالإخصاء, فالإحصاء كما نعرف هو احد فروع علم الرياضيات, وهو مجموعة من المناهج الكمية المستعملة للتمكن من الوصول إلى الحكم الجيد والرأي السديد الأقرب إلى الصواب المقابل للظن, أو هو عبارة عن مناهج يسلكها الباحث فردا أم منظمات بغية الوصول إلى الحقيقة في مختلف المجالات, العلمية والأدبية والثقافية, من خلال التعبير عنها بالحقائق الرقمية التي خضعت للمعالجة الإحصائية, وقد عرفه الآخرون بأنه العلم الذي يهدف إلى جمع وتنسيق الوقائع العديدة بغية الحصول على العلاقات الرقمية المستقلة نوعا ما عن شواهد الصدفة, أو بإيجاز هو دراسة أرقام الحوادث وعلاقاتها.

أما الإخصاء فيعني في اللغة أن تنتزع خصيتي الدابة أو الإنسان, وذلك يقتضي أن يفقد الإنسان أو الدابة القدرة على الإنجاب فيعجز عن إنتاج ذرية من صلبه. يقول العرب: خصي الفحل خصاء: سل خصيته, ورجل خصي , مخصي. ويستخدم العرب الخصاء مجازيا للدلالة على الهزيمة والفشل والذل والهوان.

والإخصاء اليوم يستخدم استخدامات كثيرة منها شائع ذو طبيعة مجازية أو رمزية, ومنها واقعي, فالواقعي منها كما في دلالته اللغوية, يشار به إلى العملية الجراحية التي يتم من خلالها إزالة الخصية والهدف منها:ـ

ـ إنهاء قابلية الحيوان على التكاثر
ـ اختزال الفعالية الجنسية
ـ الحد من ميل الحيوان للتجوال والمعارك
ـ خفض المستوى العام للعدوانية
ـ معالجة سرطان الخصيتين بالاستئصال
ـ الشفاء من أمراض غدة البروستات

وترتبط بكلمة الإخصاء الكثير من المعاني السلبية في الاستعمال كما اشرنا, لأنها ترتبط في الأذهان بهول الإخصاء الواقعي, أي بقطع خصيتي الرجل أو قطع جزء من الجهاز التناسلي لدى الرجل وحتى المرأة, أما بالنسبة للإخصاء الرمزي السيكولوجي النشأة والذي لا يستدعي الإخصاء الواقعي, فيمتد بجذوره إلى مدرسة التحليل النفسي الفرويدي, حيث نجد المصطلحات مثل: " حصر الإخصاء " و " عقدة الخصاء", والإخصاء الرمزي هنا هو مكون أساسي من مكونات " عقدة أوديب " حيث تعبر عن المسار الذي يدرك فيه الطفل انه ليست مركز العالم كما كان, حيث ينشأ الخوف من الخصاء, ذلك الخوف اللاشعوري من فقدان عضو التناسل عقابا على ما يستشعره الطفل الذكر من دوافع لبيدية تجاه موضوع محرم. كما يعزو فرويد للفتاة أيضا مركب خصاء كالذكر ينشأ على خلفية ملاحظتها للفروق بينها وبين مغايرها في الجنس, والتفاصيل هنا اتركها لمحاولة أخرى في هذا المجال, حيث تقع خارج أهداف هذا المقال !!!.

أن ممارسة فعل الإخصاء الحقيقي على الإنسان يتطابق تماما بنتائجه عند ممارسته على الحيوان, حتى وان غابت أبعاد ذلك عن ذهن منفذيه, وأرتبط فقط بمفهوم الاهانة الكبرى, بعيدا عن الإجراءات الطبية, ففي إحدى نتائجه المهمة على الإنسان المتمثلة " بالحد من المستوى العام للعدوانية " والذي يعني اليوم أكثر بكثير ما تعنيه لغويا كلمة " العدوان " في المفهوم الدارج والذي يعني الاعتداء على الآخرين وإلحاق الضرر بهم أو سلب ممتلكاتهم وأرواحهم, فهي تعني في السيكولوجية المعاصرة تلك القدرة الخام التي يمتلكها الإنسان في تركيبته الفسيولوجية والتشريحية, وتحمل في طياتها بعدي المنافسة " العدوان " السلمية والعطاء في مختلف ضروب الحياة من اجل البقاء وفي ظل قوانين تنظم ذلك, وبعد الشراسة والتجاوز على حقوق الآخرين وانتهاك حرمتهم وسرقة ثرواتهم بما في ذلك الحروب الداخلية والإقليمية والدولية, "فالعدوانية" لدى الإنسان بشقيها الرحيم والخبيث أشرس بكثير مما نجده في عالم الحيوان, وقلما نجد أن حيوانات من ذات الفصيلة تتقاتل لحد الإبادة الجماعية كما هو شائع لدى بني الإنسان, ولعل في ذلك إحدى المبررات السيكولوجية الكبرى لنشوء الديمقراطيات في العالم والتأكيد على التداول السلمي للسلطة منعا لإراقة الدماء وتعزيز الحياة السلمية, وفي ضوء ذلك نستطيع القول أن الإخصاء يؤدي إلى خفض وتدهور الفعالية الذهنية في بعدها الايجابي كما هو في السلبي أيضا !!!!!!!!.

وقد اطلع كاتب السطور على بعض الكتابات التي تؤكد أن الشرقيين لم يجدوا عيبا في إخصاء الأعداء في المعارك, فقد سجلت حالات كثيرة من تشويه وقطع الأعضاء التناسلية أثناء المذابح التركية للأرمن أوائل القرن الماضي, كذلك قامت المليشيات اللبنانية بفعل مشابه أثناء مذابح صبرا وشاتيلا, وأخيرا قام الصرب بأفعال مشابهة أثناء الحروب الأهلية في يوغسلافيا القديمة في تسعينيات القرن الماضي, وان هذه الأفعال تثير الانتباه والدهشة باختلاف عقيدة منفذيها, ربما أريد بها " ومن دون وعي " الى جانب الاهانة العظيمة, إيقاف قدرات الإنسان العقلية على العطاء وخفض مستوى فعاليته الذهنية !!!!.

ويتداخل المفهوم المجازي مع المفهوم الفعلي للإخصاء ليشمل توقف الإنسان عن العطاء العلمي والمعرفي وضعف كفائتة الإبداعية , وتدهور مكانته الاجتماعية, وتعثر دوره في مختلف الميادين, العلمية والأدبية والثقافية, ويمتد الحديث في الكثير من الأدبيات ليشمل مفهوم " الإخصاء المجتمعي " بما يعنيه من توقف وتدهور الحياة في حياة مجتمعاتنا العربية, والقائمة على عوامل " الإخصاء " الآتية:

1 ـ حالة الفقر العامة في اغلب المجتمعات العربية, فالفقر بطبيعته التي تجبر الإنسان على التفكير بلقمة العيش فقط, فهي تحصره في ضيق الأفق والتقليل من مساحات الإبداع والحد من استثمار القدرات العقلية.

2 ـ هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي, ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر, ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته, فيعتبر ما عنده هو صالح لكل زمان ومكان, وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

3 ـ الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة, ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا الى قمة النظم السياسية القمعية, التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه, وتحول الكيان الاجتماعي الى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية, تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا, حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته, وكما قال علي ابن أبي طالب ( ع ) " لو تساوى الناس هلكوا !!!!.

أن مؤشرات " الإخصاء " في العالم العربي يمكن قياسها بأداة الإحصاء باعتبارها وسيلة موضوعية بعيدة عن الاجتهاد وسوء الفهم, ومن هنا تأتي أهمية العلاقة النسبية بين الإحصاء والإخصاء في موضوعنا, باعتبار ان الأول يقيس آثار الثاني بالأرقام, وهنا نشير إلى ابرز ما ورد في تقرير اليونسكو للعلوم 2010 كالأتي:

لقد كشف تقرير اليونسكو للعلوم أن الدول العربية تقف في مؤخرة دول العالم في الإنفاق على البحث العلمي والتطوير, وطالبت المنظمة الدول العربية كافة بما فيها الخليجية ذات الموارد المالية بفعل عائدات النفط إلى بناء اقتصاد قائم على الابتكار والمعرفة, وقد أكد التقرير أن المعرفة هي الضمان الأكيد لأمن البلاد من الغذاء والمياه والطاقة, وخاصة في ظل ما تشهده أسعار النفط من تقلبات إضافة إلى التوقعات حول نفاذ الموارد النفطية.

وقد جاء في التقرير أن الإنفاق على البحث العلمي في البلاد العربية في اقل مستوى له في العالم, ففي الدول العربية الأفريقية وصل ما بين 0.3 و 0.4 في المائة, خلال السنوات ما بين 2002 و 2007 من جملة الناتج القومي, بينما وصل الإنفاق في الدول العربية الأسيوية 0.1 في المائة في الفترة نفسها, بينما وصل الإنفاق على البحث العلمي على الصعيد العالمي كمعدل 1.7 في المائة من جملة الناتج القومي, بينما تخصص البلدان التابعة لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي حوالي 2.2 في المائة من جملة الناتج القومي لأغراض البحث والتطوير, أما في إسرائيل فقد وصل الإنفاق ما بين 4.6 و 4.8 في المائة خلال عام 2006 .

وأشار التقرير إلى نقطة مهمة تتعلق بمناهج التعليم العالي والثانوي, فعلى الرغم من الثروة التي تتمتع بها الدول العربية, فأن هذه البلدان تفتقر إلى قاعدة متينة في مجال العلوم والتكنولوجيا, كما كفاءة نظمها وأدائها الخاصة بالتعليم العالي لا يزال ضعيفا فيما يتعلق بشكل خاص في توليد المعرفة, علما أن التراجع المؤقت الذي شهدته أسعار النفط عام 2008 كان بمثابة إنذار للدول العربية, تاركا انطباعه القوي عما سيكون عليه المستقبل من دون عائدات نفطية وشجع التقرير هذه الدول على الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا. ويضيف التقرير انه على الرغم من الجامعات المرموقة الموجودة في المنطقة العربية فأن الدول العربية تعد ما لا يزيد على 373 باحث لكل مليون نسمة, علما بأن العدد المتوسط على المستوى العالمي يبلغ 1081 باحثا, فضلا عن ذلك فأن الكثير من العلماء العرب يعيشون في نصف الكرة الغربي بفعل عوامل الهجرة والتهجير ألقسري ولا يسهمون بالتالي في الناتج القومي لبلدانهم. وتشير الأرقام إلى أن مصر قدمت 60 بالمائة من العلماء العرب والمهندسين إلى الولايات المتحدة.

كما تشير تقارير جامعة الدول العربية ومؤسسة العمل العربية والأمم المتحدة(عبر تقارير التنمية البشرية العربية) أن هناك أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنيين المهرة مهاجرون ويعملون في الدول المتقدمة, حيث تضم أمريكا وأوربا 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقرير مؤسسة العمل العربية. وأظهر تقرير حديث للجامعة العربية أن الدول العربية تنفق دولارا واحدا على الفرد في مجال البحث العلمي, بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن, والدول الأوربية 600 دولار. ويؤكد تقرير أمريكي أن الأطباء من الدول النامية خلال النصف الأول من السبعينيات إلى الولايات المتحدة يمثلون 50 بالمائة, والمهندسين 36 في المائة, وأن ثلاثا من دول الشمال هي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تستأثر بنسبة 75 في المائة من جملة التدفق في الكفاءات المهاجرة. وأوضح التقرير أنه خلال عام 2006 لم ينتج في الدول العربية إلا 0.1 في المائة من العدد الإجمالي لبراءات الاختراع المسجلة في المكتب الأمريكي لبراءات الاختراع والعلامات التجارية وفي المكتبين الأوربي والياباني لبراءات الاختراع !!!!.

ويشير تقرير معهد "استوكهولم" لأبحاث السلام أن حجم الإنفاق في الدول العربية على صفقات السلاح في عام 2009 بلغ 94 مليار دولار, ومقارنة بإنفاقها على التسلح من جملة إنتاجها القومي تأتي في مقدمة دول العالم في الإنفاق مقارنة بالناتج القومي, ويبدو أن النزاعات في المنطقة وسوء أدارة الصراعات مخطط له لأن يستنزف ميزانياتها بدلا من الإنفاق على البحث والتطوير.

ومما يزيد الأمر سوءا هو ارتفاع معدل البطالة في أوساط البحث والتطوير, وبخاصة في صفوف النساء الباحثات اللواتي يشكلن 35 في المائة من العدد الإجمالي للباحثين في الدول العربية وذلك وفقا لتقديرات صدرت عن معهد اليونسكو للإحصاء. إلى جانب ذلك فقد أوضح التقرير أن الأشخاص دون سن الخامسة عشر أكثر من 30 في المائة من سكان الدول العربية, وأن ذلك يعتبر أيضا بمثابة سيف ذو حدين بالنسبة لصانعي القرار في المنطقة العربية, ومع انه يمكن للشباب أن يدفعوا عجلة التنمية وأن يبنوا مجتمعات حيوية, وخاصة إذا كانوا حاصلين على تعليم جيد ويحصلون على الحوافز المناسبة. وأوضح التقرير أن عجز الحكومات العربية عن توسيع نطاق القدرات الإنتاجية اللازمة لخلق الوظائف قد يؤدي إلى خلل في النسيج الاجتماعي, وأن تقديرات البنك الدولي لعام 2007 أكدت بأن المنطقة العربية ستضطر إلى استحداث أكثر من 100 مليون وظيفة بحلول عام 2020 لاستيعاب الشباب الوافدين إلى سوق العمل.

تلك هي ابرز ملامح الصورة القاتمة كما وردت في التقرير الدولي لليونسكو 2010 , وهي تعني الكثير بالنسبة للدول العربية على مستوى محدودية الذهنية العربية في التخطيط للمستقبل, وأن المؤشرات الإحصائية تؤكد ما ذهبنا إليه في بداية المقال وهي تعبر عن حالات توقف العقل العربي في العطاء العلمي والنهضة المجتمعية, فهل يحق لنا بتسميتها بالإخصاء العربي في عالم مفعم بالدينامكية والعطاء والصراع من اجل بقاء أفضل !!!!.



 

 

free web counter