| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي ثويني

 

 

 

                                                                                   السبت  5 / 7 / 2014


 

كركوك الإنكليزيه ولورنس العربي وبرزاني الكردي

د.علي ثويني

رغم مقتنا لمشعان الجبوري، لكننا نعترف بأن تصريحه الاخير، ينم عن نضوج وبعد رؤيا، حينما شبه نهاية مسعود برزاني بصدام، ويبدوا أن رجل المخابرات السابق قد قرأها هذه المرة. ومن الطريف أن مشعان كان صديق حميم لمسعود مثلما كان يعمل بأمرة صدام، فنهاية صدام علمته كيف تنتفخ الفقاعات البشرية وتنفجر بفعل وخزة واهية، بعدما يحركها هاجس الغرور والخيلاء والشعور بالعظمة الى حتفها ، بعد أن تقحم نفسها في مغامرة لا مخرج من ورطتها إلا بعنق مشنوق ودم مسفوك ولعنة سرمدية خالدة.

لقد عزى مشعان نهاية مسعود القريبة على أثر دخوله كركوك مثلما دخل صدام الكويت 1990، فثمة المتشابهات العجيبة بين المكانين، مشتركها لعنة النفط الدائمة، فلم يقدر الإنكليز إنفصال كركوك من أرض العراق لوسطيتها، بينما تسنى لهم فعل ذلك في الكويت، ذات الموقع المثالي، فهي رأس الخليج و نقطة إنقضاض صحراوي على السهل العراقي، وهذا كان وراء تحالفهم مع مبارك 1899م . لكن تبين لاحقا ان النفط المكتشف بها مهم كذلك، فتشبثوا بها وأسقطوا كل من نافسهم عليها ومنهم الزعيم عبدالكريم ثم صدام. والأمر عينه ينطبق على كركوك (النفاطه)، فقد شمها الإنكليز منذ بدايات القرن بعنايتهم وجابوها جواسيسهم سائحين راصدين ، وتابعوا الإمتياز الذي أشتراه كولبنكيان الأرمني من "الخليفة" العثماني ، رغم ان وجود النفط فيها كان ظاهر للعيان ، ولا يحتاج إلى سبر أو حفر. وهكذا امسى العراق كله كوم وكركوك كوم . اي أن كركوك مكثت منذئذ محمية إنكليزية غير معلنه داخل التراب العراقي، سكانها (غالبيتهم تركمان) ضيوف عليها.

يتذكر المسنون من أهل مدينة كركوك ممن عاشوا عقود الثلاثينات حتى الخمسينات من القرن الماضي ، بان ثمة رجل غريب الاطوار "زرع" بعناية وعاش ردحا في تلك المدينة ويعرفه الناس سطحيا. كان إنكليزيا يدعى (جابمان) يتابع أحداث المدينة والمنطقة بحذر وبتكتم تام، ولديه عيون مبثوثه ترصد له الأخبار، يقيم الليل (ليس تعبدا) بل يكتب ما يرصده، ويراسل ، وينام بعض النهار . طبعه مستهجن ، متقد الذهن ، لامع العينين الزرقاوين، كريم النفس هداياه صناديق من الويسكي الإنكليزي والخرفان السمان.

حدث ان عيّن في كركوك ببداية عقد الأربعينات مهندس كهرباء إنكليزي من مولدي الهند، قدم مع القوات الإنكليزية المحتلة عام 1914، يدعى سيرل (1889-1967)، حيث أسس لكركوك منظومة الكهرباء، وتعرّف بالصدفة على (جابمان)، وحاوره ونادمه، والتقط معه صور تذكاريه، أرسلها إلى اخته (تيودورا) المستأنسة بمراسلات أخيها وهي تعيش في بنكلور بالهند، فأكتشفت بحصافتها ، و بعيون إمراة تميز وتفرز، وتقارن التفاصيل وتربط الصور بالصور، فأكتشفت وهي المتابعة للفضائح على صفحات الصحف الإنكليزية، بأن (جابمان) ماهو إلا (لورنس) الجاسوس المشهور، مؤلف كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) وصاحب القصص الأسطوريه في أحداث الحرب العالمية الأولى ، وخلال المرحلة المفصلية التي تغيرت فيها ملامح الشرق القديم ،وتأسست على اثرها دول وممالك وأضمحلت فيها إمبراطوريات كالعثمانية. وقد ورد كل ذلك في الرسائل التي كان يتبادلها مع أخته ونشرت قبل أعوام، وقدمت شخصيا لها.

وهكذا فإن الشخص الذي كان يقابل (سيرل) ليس إلا لورنس وقد أبدل اسمه. وفي الحقيقة هو لم يبدله ، فاسم (توماس ادوارد لورنس) مصطنع ، و(جابمان) هو أسمه الأصلي . ويبدو ان المخابرات الإنكليزية، هي التي فبركت وأختلقت قصة موت لورنس (العربي)، في حادث إنقلاب الدراجة النارية في 19\آيار\1935، فالدفين لم يكن لورنس البته ، وأن ثمة حادث وضحيه، دفن ووضع شاهد على قبره بأنه لورنس، لكن لورنس أرسل لمهام اخرى أهم من حرب الصحراء وتتويج الملوك، انه حراسة الثراء الأسطوري، الذي لولاه، لا يمكن ان تستمر الحياة في جزر محدودة الموارد مثل الجزر البريطانية. وهكذا فإن ثمة شخص تعينه بريطانيا حتى في أحلك الظروف، وسط جعجعة وعنتريات الحكام العراقيين كصدام ، يدير الأمور من كركوك ، مثلما الحال في الكويت ، بشكل مستور وغامض .

ويبدو أن لورنس الحقيقي الكركوكي عاش حتى العام 1954، وطلب ان تحرق جثته بعد موته ، وينثر رماده على ربى جمجمال التي كان يأمها ويحبها. وهذا ما نقله خادماه التركماني والكردي اللذان عاشا معه وأحتفظا بسره وأختفيا بعده. ومنذئذ وثمة من يسيّر حسابات النفط للإنكليز، حتى أن توصيل حزب البعث بالقطار الأمريكي كان ضمن صفقته، ترك كركوك دون المساس بثابتها الإنكليزي، وان حصتهم فيها لا تمس أو تخدش. والأمر عينه يذكرنا بوضع الأردن التي لها حصة في نفط العراق ، حيث توالت الحكومات وأختلفت السلطات ، من ملكية إلى جمهورية إلى شمولية، وبقي هذا الواقع قائم حتى اليوم، فما السر في ذلك إلا بإملاء وتسيير من أولياء الأمر المحركين لبيادق من يحكم هذا البلد المغلوب على أمره.

وهكذا فإن مسعود برزاني أقدم على خطوة غير مسبوقه منذ باباكركر 1927، حتى اليوم، بان يستولي على "ملك الغير"، ويدخل كركوك الإنكليزية، طامعا كأي بدوي شره وقجقجي (مهرب) طماع لضمها، ظانا في ذاته القوة بالدفاع عن كيانه المهلهل. لذا فإن ما قاله مشعان هو عين الصواب ، على مبدأ "خذ الحكمة من أفواه السفهاء"، فمسعود اقترب من نهايته وحتفه، وهو يعلم علم اليقين، ان الحرب القادمة تنهيه ، ولا يتطلب الأمر جهدا و جلجلة، فيكفي ان تقصف مولدات الكهرباء في المدن الثلاث (أربيل والسليمانية ودهوك) وكذلك قصره ومطاراته ، وبعض معسكراته ، وقطع الطرق المؤديه له ومنه، لينتهي في يوم او يومين. وهذا السيناريو كان قد قاله مالكي نفسه، في جلساته الخاصه، فهو لم ينطق عن الهوى حتما، بل هذا ما سمعه من الأمريكان او الإنكليز دون ريب.

لم يتجرأ مصطفى برزاني الاب يوما أن يتقدم خطوة نحو كركوك حتى في اكثر الأوان والهوان التي مرت بها الدولة العراقية ، حينما تحالف مع المخابرات الأمريكية وإسرائيل وجمال عبدالناصر وحكام الكويت تارة، ثم مع شاه إيران في السبعينات تارة أخرى، وكانت قوته يوما في أواسط السبعينات ضاربه قبل معاهدة الجزائر 1975، لكنه كان يعلم علم اليقين ان كركوك خطا أحمر ، وأن المطالبة بها هو من باب ذر الرماد بالعيون أو طلب الكثير ، من أجل الحصول على اليسير المعقول، وهكذا فقد مات الرجل في أمريكا وهو يحلم بحكم ذاتي معقول، كونه يعلم حدود إمكانياته، وأن دولته لو اعلنت سيكون مصيرها الفناء . حتى إسرائيل لها حظوظ البقاء ما دام لها منفذ بحري وظهرها محمي ومسند من قبل بلد الأردن الذي اصطنع خصيصا لهذه الغرض. أما ما يدعى (كردستان) فليس لها ظهير ولا صديق ولا عضيد، والكل من أضلاعها الاربع يناصبوها العداء (إيران وتركيا وسوريا والعراق)، وحتى الأمريكان والروس، يعلنون إمتعاضهم ، تماشيا مع تحالفاتهم الآنية و الإقليمية.

إن دولة لاتستطيع ان تصرف رواتب موظيفها لشهر، أو توفر البنزين لسياراتها، هي أبعد عن ان تكون مشروع راسخ ، ومصيرها سيكون مثل (لوسوتو) في جنوب افريقيا، حيث تأسست نزولا عند رغبة احد مشايخها بالإستقلال ، وهيئتها على شكل دائرة داخل أرضي جنوب افريقيا، وإن حدث ولم يخرج القطار الناقل للعمال من لوستو إلى داخل جنوب أفريقيا، فسوف ينفق سكانها من الفاقة. وهكذا فإن برزاني بمغامرته، سوف يؤذي أهلنا الأكراد الماسوف عليهم في صراع أناني لا يكسبون من وراءه إلا الويل والثبور. و عسى ان ينتبه النابهين منهم إلى مغبة التصفيق والزعيق القومي ، فهتلر أجج روح النعرة القومية الألمانية واضاع المانيا وصدام اجج العراقيين بقادسياته، حتى أضاع العراق، وكل هؤلاء موضع لعنة من شعوبهم، فلا نريد أن يسفك دم عراقي كردي، ونصيحتي لمثقفي (البيشمركه) ومدبجي المقالات والراقصين على جراح العراقيين ، أن يتقوا الله في هذا الشعب المسكين والمغلوب على أمره، فلا تغرقوا ما بقي عائما من سفينة العراق.
 

free web counter