|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  22 / 12 / 2016                                 عبدالله حبة                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 وثيقة بيلوفيجسكويه ... جريمة أم مأثرة؟

عبدالله حبه - موسكو
(موقع الناس)

جرى في 10 كانون الاول عام 1991 توقيع اتفاقية بيلوفيجسكويه حول تأسيس رابطة الدول المستقلة بدلا من الاتحاد السوفيتي. ووقعها رؤساء ثلاث جمهوريات سوفيتية بدون معرفة رئيس الاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف. وحدث ذلك في حمام الساونا في القصر الريفي لرئيس بيلوروسيا في غابات بيلوفيجوسكويه بوشا حيث اجتمع الرئيس الروسي يلتسين والرئيس البيلاروسي شوشكيفتش والرئيس الاوكراني . وكان المقرر ان يشارك فيه نزاربايف رئيس كازاخستان الذي اعتذر عن المجئ في آخر لحظة. وصدر القرار بتوقيعها بعد أن قصف الرؤساء وأولموا وطبعا مارس تأثيره في احتدام حماس المجتمعين شرب الفودكا أكثر مما يجب.فقد كان الرؤساء الثلاثة من هواة الشرب.

ويقول المؤرخون في روسيا الآن ان الرؤساء المذكورين لم يتمتعوا بالحق في توقيع مثل هذه الاتفاقية حيث لم تكن لديهم صلاحيات قانونية بدون موافقة البرلمان السوفيتي وبرلمانات الجمهوريات. وكان قد جرى قبل هذا استفتاء في الاتحاد السوفيتي وافق الناخبون فيه على بقاء الاتحاد السوفيتي. وكان الجميع بإنتظار توقيع المعاهدة الاتحادية التي اقترحها غورباتشوف.

وجاء في الاتفاقية الثلاثية المبتسرة:" نظرا لأن المفاوضات حول المعاهدة الاتحادية الجديدة قد دخلت في طريق مسدود، لذا اصبحت العملية الموضوعية لخروج الجمهوريات من قوام الاتحاد السوفيتي حقيقة قائمة فعلا. وبما ان سياسة المركز القصيرة النظر قادت الى تدهور الانتاج ، وانخفاض مستوى المعيشة بشكل كارثي لجميع فئات المجتمع عمليا . وأخذا بنظر الاعتبار تنامي حدة التوتر في كثير من المناطق مما أدى الى حدوث نزاعات بين القوميات وسقوط ضحايا بشرية.وإدراكا لمسؤوليتنا حيال شعوبنا والمجتمع الدولي ، نعلن عن تأسيس رابطة الدول المستقلة. وستكون الرابطة مفتوحة لكي تنضم إليها جميع الدول الاخرى الاعضاء في الاتحاد السوفيتي".

وكانت هذه الاتفاقية بداية تفكك الاتحاد السوفيتي ولم يستطع الرئيس غورباتشوف عمل شئ وحتى عجز عن اعتقال الرؤساء الثلاثة لأن قوات الجيش والامن كانت خاضعة في ذلك الوقت الى كل من يلتسين وغورباتشوف الذي عرف بانه قائد يفتقر الى الحزم.وفور نشر نبأ توقيع الاتفاقية اعلنت عدة جمهوريات استقلالها ومنها جمهوريات البلطيق واقاليم صغيرة مثل ابخازيا وجمهورية الشيشان وبريدنيستروفيه وغاغوزيا . وكانت عدة اقاليم قد اعلنت الاستقلال أيضا من قبل حين جرت محاولة الانقلاب في آب 1991 . ويقول الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف في كتابه " تأملات حول الماضي والمستقبل":" ان انهيار الاتحاد السوفيتي قد غير بصورة جذرية الوضع في اوروبا والعالم ، وأحدث خللا في التوازن الجيوسياسي ، ونسف امكانية تحقيق الكثير من العمليات الايجابية في السياسة العالمية. ولدي قناعة بان العالم كان سيحيا اليوم بشكل أكثر هدوءا لو استمر بقاء الاتحاد السوفيتي – طبعا بعد تجديده واجراء الاصلاحات فيه". وبرأيه ان تفكك الاتحاد السوفيتي لم يكن حتميا.

وقد مارست في انهيار الاتحاد السوفيتي عوامل عديدة يأتي في طليعتها فقدان النظام السوفيتي لشعبيته وتحوله الى نظام بيروقراطي- اداري وشمولي لم يكن قادرا على معالجة مشاكل الناس بل أدى الى تفاقها واحتدام سخط الانسان العادي. وأدت الفترة الستالينية الى الخروج عن المبادئ التي قامت عليها الثورة البلشفية في اكتوب عام 1917. ففي البداية طرح لينين مبدأ الاعتراف بحق الشعوب في تقرير المصير لحد الانفصال ، وتشكيل اتحاد من الجمهوريات المتساوية في الحقوق. وعلى هذا الأساس تكون الاتحاد السوفيتي في عام 1922. لكن الاتحاد تحول في عهد ستالين تدريجيا الى دولة موحدة ذات سلطة مركزية في الواقع وذات طابع شمولي. وكان الحزب"المركز " يتحكم بكل كبيرة وصغيرة في جميع انحاء البلاد من دون مراعاة رأي الجمهوريات المتعددة القوميات. وفي أيام ستالين ارغمت بعض الجمهوريات قسرا على الانضمام الى الاتحاد ومنها جورجيا واوكرانيا. وفي أيام الحرب العالمية الثانية تم تهجير تتار القرم والشيشان والانجوش من اراضيهم الى المنافي في سيبيريا وكازاخستان. كما ارتكب ستالين العديد من الاخطاء في معالجة المسألة القومية برزت نتائجها فور تفكك الاتحاد السوفيتي. وقد ظهرت في الاعوام الاخيرة من وجود الاتحاد مشاكل تتارستان وقره باغ وبريدنيستروفيه والشيشان واوسيتيا الجنوبية وابخازيا والقرم والاقاليم الروسية في اوكرانيا وغيرها. كما ان جمهوريات البلطيق ضمت الى الاتحاد السوفيتي بموجب اتفاق بين ستالين وهتلر لدى تقاسم مناطف النفوذ في الثلاثينيات من القرن الماضي، ولهذا كان اهاليها يصبون الى الانفصال عن الاتحاد السوفيتي. والطريف ان يلتسين قال في خطابه في أوفا عاصمة بشكيريا مخاطبا أهلها:" خذوا من السيادة قدر ما تستطيعون ابتلاعه ..". وكان موقف يلتسين هذا من الدوافع التي جعلت التتار والشيشان وغيرهم يرفعون راية الاستقلال.

كما مارس العامل الاقتصادي دوره في تفكك الاتحاد السوفيتي. فقد كانت عدة جمهوريات تعتبر نفسها " مظلومة" حيث تنتج من أجل اطعام الجمهوريات الاخرى الضعيفة اقتصاديا ، وتأتي في مقدمة الجمهوريات المنتجة روسيا الاتحادية وبيلاروسيا. بينما كانت جمهوريات أخرى مثل جورجيا وارمينيا واوكرانيا ومولدافيا تعتمد كثيرا على الدعم من جانب المركز الاتحادي ولا سيما من النفط والغاز والمعادن مجانا. من جانب آخر انهك سباق التسلح القدرات الاقتصادية للاتحاد السوفيتي حيث كانت الدولة تنفق نسبة كبيرة من ميزانيتها على الصناعات الحربية والجيش. وزاد من الطين بلة تورط الاتحاد السوفيتي في حرب افغانستان حيث واجه الولايات المتحدة وحلفاءها ودول الخليج العربي التي انفقت بسخاء لدعم المجاهدين من تنظيم " القاعدة" وجلبهم من الدول الاخرى الى افغانستان. ويعتبر بعض الباحثين ذلك احد العوامل الرئيسية في تفكك الاتحاد السوفيتي. وفي الواقع ان السلطة عملت في عهد غورباتشوف كثيرا من اجل معالجة المشاكل الاقتصادية والقومية والدينية بمنح شعوب الجمهوريات الحرية التامة في هذه الميادين.لكن لم يسعفها الوقت لأنها جاءت متأخرة.

ولعب الطابور الخامس من الموالين للغرب والمعادين للنظام السوفيتي دوره في انهيار الاتحاد السوفيتي، الذين كانوا يزودون وسائل الاعلام الغربية بالمعلومات التي تستخدم في التشهير بالنظام. علما ان الدول الغربية انفقت مليارات الدولارات في الحرب الاعلامية ضد الاتحاد السوفيتي ، واثمر ذلك عن نشوء شرائح في المجتمع بكافة الجمهوريات ترى ان سعادتها في المستقبل ترتبط بزوال الاتحاد السوفيتي. وكانت الولايات المتحدة تأمل في بلقنة وتحول الاتحاد السوفيتي الى دويلات ضغيرة يمكن التحكم بها ، كما تتم تصفية القوة العسكرية السوفيتية التي تشكل خطرا على هيمنتها في العالم حين تصبح وحيدة القطب. ووجدت في شخص الرئيس يلتسين وحاشيته اللبرالية خير نصير لها في مسعاها هذا . وفعلا فقدت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي قدراتها الاقتصادية باستيلاء الاوليجارشيين اليهود على حقول النفط والمصانع الاستراتيجية وبإنهيار الصناعة الحربية وفقدان الجيش الروسي لجبروته.

ويعتقد بعض الباحثين في روسيا ان عوامل انهيار الاتحاد السوفيتي وجدت منذ تأسيسه، حيث تأسس الاتحاد بصورة قسرية وبقوة السلاح عندما استولت مجموعة البلاشفة القليلة العدد على السلطة . هذا بينما كانت كافة الفئات في المجتمع تصبو الى اقامة نظام ديمقراطي. وقد أراد لينين في البداية تغيير مسار الثورة بعد ان حذره بليخانوف وآخرون من مخاطر اعلان الاشتراكية قبل الاوان لعدم وجود القاعدة لها في روسيا ، وكذلك بسبب الوضع المضطرب في البلاد في فترة الحرب العالمية الاولى. وكتب لينين فيما بعد".. ان ثورتنا كانت ثورة برجوازية لحد كبيرحتى صيف وكذلك خريف عام 1918 ".(المؤلفات الكاملة، م 38 ، ص 143). ومقصده ان الثورة في عام 1917 هدفها تحقيق مهام الثورة البرجوازية بالذات. ويتضمن ذلك تغييرهيكلية وطابع السلطة وتغيير طابع الملكية الفردية ومعالجة المسألة القومية. وبدون ذلك وبدون وجود " المستوى الثقافي " اللازم وتقبل الناس " للمثل العليا للديمقراطية"لا يمكن المضي قدما الى الامام نحو تحقيق مهام الثورة الاشتراكية. وكانت أولى خطوات السلطة السوفيتية في تلك الفترة اعلان برنامج كهربة البلاد والنهوض بالصناعة ، وكذلك اعلان الخطة الاقتصادية الجديدة (نيب). وتراجع البلاشفة عن تطبيق مبادئ الشيوعية مباشرة الذي ادى الى تمرد كرونشتادت وانتفاضات الفلاحين في مقاطعة تامبوف وغيرها. عندئد قال لينين مقولته الشهيرة: " لا يمكن القفز على الشعب".

لقد حدثت الانتكاسة بعد وفاة لينين وجرى الصراع حول زعامة الحزب حيث سيطر في البداية تروتسكي بنظريته حول "الثورة الدائمة " وفرض " الشيوعية العسكرية" وافتتاحه معسكرات الاعتقال للبرجوازيين بغية استخدامهم كعمال بالسخرة. وهكذا ألغيت السياسة الاقتصادية الجديدة التي سمحت بعمل البزنيس الصغير وتم التخلي عن التعاون مع الاحزاب الاخرى على أساس التعددية وفق الاسلوب الديمقراطي وتم التعسف في التعامل مع القوميات. وبعد فشل تروتسكي في احتلال موقع الزعامة في الحزب جاء ستالين لكي يحول النظام في البلاد الى نظام شمولي خاضع لسلطته الفردية ويفرض فكرة "الزعيم الأوحد" الجدير بالعبادة. واستمر هذا الوضع حتى بعد وفاة ستالين حيث جرى مجددا الصراع على السلطة في الحزب والدولة ، واصبح الزعيم الحزبي يقرر كل شئ. ان التراجع عن افكار ماركس وانجلز ولينين في بناء الدولة الاشتراكية وجه ضربة قوية الى فكرة الاشتراكية نفسها. وهذا بالذات ما جعل النظام ينخر نفسه بنفسه وينهار.

ويشير الباحثون أيضا الى دور الصراع على السلطة بين يلتسين وغورباتشوف في انهيار الاتحاد السوفيتي. فقد كان يلتسين يطمع في شغل مقعد الرئاسة مهما كان الثمن بعد ان طرد من الحزب الشيوعي ومن المناصب التي شغلها سابقا . وقد استغل ضعف غورباتشوف الذي اعتمد على تأييد مجموعة صغيرة في قيادة الحزب. لكن يلتسين استغل الجماعات اللبرالية وتأييد الغرب له . والطريف انه إتصل بالرئيس بوش فور توقيع الاتفاقية الثلاثية بدلا من الاتصال بغورباتشوف لكي يبلغه بالنبأ. وكان السفير الامريكي على اتصال مباشر بيلتسين طوال تلك الفترة. وفيما بعد أحاط بيلتسين فريق من السياسيين المعروفين لولائهم الى الولايات المتحدة مثل الكسندر ياكوفليسف وادوارد شيفاردنادزه وبوربوليس وغيرهم.

والآن وصف الرئيس بوتين انهيار الاتحاد السوفيتي بانه " اكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين " ، ويتفق معه في الرأي فريق كبير من الباحثين. ويسود الرأي في المجتمع الروسي ، الذي اصبح يميل الى "الفكرة الوطنية" واسترجاع روسيا لمواقعها كدولة عظمى ، وذلك لمواجهة التيار اللبرالي، بان الرؤساء الثلاثة ارتكبوا جريمة حين وقعوا الاتفاقية في حمام السونا في منتجع بيلوفيجسكويه البيلاروسي ، وتجب ملاحقتهم في المحاكم. لكن اللبراليين يرون ان انهيار الاتحاد السوفيتي كان حتميا بسبب افلاس النظام وقد اجترح يلتسين ورفيقاه مأثرة في توقيع الاتفاقية وتجنيب البلاد الحرب الأهلية المدمرة التي عانى منها الشعب بعد ثورة اكتوبر.


 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter