|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  27 / 8 / 2017                                فارس كريم فارس                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

العراق ما قبل الدولة الحديثة
(
4) الأخير

فارس كريم فارس
(موقع الناس)

الا ان الاحداث كشفت عن خيبة امل مريرة, من خلال التوجهات التي اعتمدها الاتحاديون وحرصوا على تطبيقها, والمتمثلة بالنهج العنصري ومحاولة تذويب القوميات في الطورانية التركية, مما حدا بالنخبة المثقفة الى ادراك اهمية المواجهة الحضارية مركزين على احياء التراث العربي وتعليم اللغة العربية....حتى شهدت مدينتا البصرة وبغداد عام 1908م, تأسيس مدرستين هما: تذكار الحرية ومدرسة الترقي الجعفري العثماني . والتي كان لها الدور الهام في تحفيز الوعي القومي, وتخريج دفعات من المتعلمين اسهموا بشكل فاعل في رسم معالم الحياة الفكرية والثقافية في العراق.

لقد رافق الفشل مساعي الاتحاديين في الاجراءات التي اتخذوها في العراق, فلم يتمكنوا من فهم واستيعاب المحيط الاجتماعي العراقي المحافظ فشعارات الاصلاح لم يلمس منها الناس سوى التجاوزات التي تمس مشاعر العامة واحاسيسهم وعواطفهم الدينية واما التطبيقات التي اعتمدوها قد افصحت عن الخلل الفاضح في وعيهم لمفهوم الدستور والديمقراطية فلم يتورعوا عن التدخل في سير الانتخابات وتوجيهها وفق ما يرغبون وجعل الانتخابات مقصورة على بعض مراكز المدن واهمال العشائر.

وعموما مثل العام 1908م نقطة انطلاق في تاريخ الاحزاب السياسية العراقية, اذ تم افتتاح فرع لجمعية الاتحاد والترقي في بغداد, كما ان العام 1909م شهد افتتاح فرع لحزب الحرية والائتلاف في بغداد, وهذا التطابق بين المنظمات السياسية العراقية والتركية لم تدم طويلاً, ذلك ان خيبة الامل المتعاظمة مهدت الطريق امام ظهور تجمعات عراقية مرتبطة بمنظمات عربية.

حيث  نشأة في تلك الفترة نوعين من التكتل الحزبي بين الشباب العربي المثقف والذي مثل بوادر الوعي القومي: الاول علني وهي على التوالي: جمعية الاخاء والمنتدى الادبي والكتلة النيابية العربية وحزب اللامركزية والجمعيات الاصلاحية والمؤتمر العربي في باريس والتكتل المختلط العلني. اما الجمعيات السرية فكانت: الجمعية القحطانية والجمعية الثورية العربية وحزب العهد وجمعية العلم الاخضر وجمعية العلم وجمعية العربية الفتاة وجمعية الجامعة العربية. لقد عبرت المرحلة عن سلوك سياسي موحد من لدن المتنورين العرب...وقد وجدوا ضالتهم في شخص عزيز علي المصري الذي استقطب العناصر القومية من ضباط عرب وعراقيين في الاستانة اضافة الى نفر من الموظفين المدنيين, وكان يوم 28 اكتوبر 1913م تاريخا لتأسيس حزب العهد الذي سبق ذكره, والذي اكد على استقلال البلاد العربية مع ارتباطها مركزيا مع سلاطين ال عثمان, ومشيرا الى الوقوف ضد سياسة التتريك, وتغيير الاوضاع التي ترزح تحت ظلالها البلاد العربية . وهذا ما اكده المؤتمر العربي الذي عقد في باريس ضمن اهدافه, الذي توافق عليها اربعة وعشرون مندوب عن الجمعيات العربية في المهجر وسوريا ولبنان ومصر والعراق.

 ومثل التحدي الاوربي الذي تمثل بالمحاولات المستمرة للتدخل في شؤون العراق لا سيما في المجال الاقتصادي, مجالا اخر لتنوير الاذهان, حول ما يحيط الاوضاع العامة من امور, حتى بدا التساؤل حول الامتيازات الاجنبية والمشاريع الاوربية وجدواها وحقيقة امرها والاهداف الخفية لها, فيما توجه المثقفون نحو رصد النفوذ الاجنبي في المصالح الوطنية, وانتقاد تلك الاوضاع بشدة. منبهين الى الاسلوب الذي تعتمده الدول الكبرى في تطويق البلدان وربطها بعجلة اقتصادها والسيطرة على مقدراتها وإمكانات, تمهيدا للسيطرة المباشرة عليها . 

فقد شهد الربع الاخير من القرن التاسع عشر والاعوام التي سبقت الحرب العالمية الاولى سير العراق التدريجي في طريق التبعية الاقتصادية  للغرب ولاسيما لبريطانيا. فقد ارتفعت قيمة الصادرات الاجمالية الى ثلاث اضعافها في الفترة ما بين 1878م و1913م. وكان يمكن ان يكون اكثر من ذلك لو كانت طرق المواصلات قد تطورت بشكل افضل وقلت نفقات النقل, ومنذ ذلك الحين خضعت تجارة التصدير الى هيمنة الشركات البريطانية . اما تجارة الاستيراد فقد زادت قيمته بأكثر من اثنتي عشرة مرة خلال الفترة ما بين 1864 و1913م. وكانت حصة بريطانيا من تجارة الاستيراد العراقية تعادل 49% في الاعوام 1909-1911, بينما حصة الهند المستعمرة آنذاك 33%, وظلت الحال على هذا النحو حتى الاحتلال البريطاني خلال الحرب العالمية الاولى.

 وظلت البلاد على تخلفها من حيث تطور القوى المنتجة في الريف والمدينة على السواء, في مجال الزراعة بلغ عدد المضخات الزراعية في عام 1900 اثنتي عشرة مضخة , واستخدمت الى جانب المضخات النواعير ذات الدواليب المسننة التي تديرها الحيوانات. وفي مجال الصناعة جرى التقدم ببطء شديد كان يوجد معمل نسيج واحد يدار بالبخار لسد حاجة الجيش من الالبسة والخيام, ومعملا ميكانيكيا للطحين, واستوردت اول ماكنة لصنع الثلج عام 1881م, واسس معملان للمشروبات الغازية في البصرة بعدها بسنوات, وفي عام 1889 أسست شركة لنج وشركة اندر وير مكبسين لغسل وكبس الصوف في البصرة وتلتها مكابس عرق السوس وفي نهاية القرن التاسع عشر تزايد نصب المطابع.

اما من ناحية التعليم ظل من نصيب الميسورين, ويجري التعليم فيها باللغة التركية وبأساليب متخلفة تربويا, وعلى العموم كانت توجد في العراق 160 مدرسة ابتدائية في عام 1913م تضم ستة الاف طالب. وكان حظ المستشفيات من عناية الدولة بائسا, فحتى الاحتلال البريطاني لم يبن سوى اربعة مستشفيات, وعموما لم يكونوا يولون البنية التحتية للبلاد اي اهتمام الا فيما ندر, لقد ظلت بغداد تستقي الماء من دجلة مباشرة بواسطة السقاة حتى انشئت اول مضخة لنقل الماء وتوزيعه على الدور المحيطة بسرايات الحكومة عام 1907 ايام الوالي حازم بك.

وعموما فان التغلغل الرأسمالي الاجنبي في العراق وتزايد نفوذ بريطانيا السياسي من جانب, والسياسات العثمانية في اضطهاد السكان في المدينة والارياف من جانب اخر, لم تقابل حتى ذلك الحين برد فعل شعبي قومي يمكن ان يوصف بحركة وطنية مضادة, ولم يكن هناك مظهر بارز كحركة وطنية حقيقية في العراق , ولكن كان هناك فعلا فئات وطنية صغيرة ورواد قلائل حملوا افكار قومية تنطوي على مناهضة الحكم العثماني والاحساس بتغلغل المصالح البريطانية, ولكنها لا ترتقي الى امكانية ايجاد راي عام يدعوا الى الاستقلال ويقاوم التغلغل البريطاني, اما المقاومة التي ابداها العراقيين في البدء حين انزلت القوات البريطانية في البصرة من بعد, جرت في الاساس تحت راية العداء للكفار الذين يريدون خراب الدين كما كان يقال.

ويمكننا القول انه: خلال كل تلك الفترة ولحين دخول القوات البريطانية بغداد بقيادة الجنرال مود 1917م, لم تنشأ معالم دولة وطنية بالمفهوم السياسي الحديث في العراق او حتى كيانا سياسيا متماسكا واحدا, لان الناس كانت تنازعهم ولاءات مختلفة ومتقلبة احيانا, وتبعا لذلك كانوا ابعد من ان يوحدهم شعور وطني جامع. وهذا يمثل احد الاستنتاجات الرئيسة لما سبق ذكره في هذا الجزء من البحث, حيث ما بعد سقوط دولة المدينة والحضارة البابلية سنة 521 ق.م, وما عدا فترة الخلافة العباسية التي اتخذت من بغداد مقرا لها, كان العراق طلية تلك الفترة خاضعا للإمبراطوريات الاخرى, ولم ترسى فيه معالم التحضر او المؤسسات في الادارة والتنظيم, وبالتالي لم تترسخ فيه تقاليد الدولة الراسخة, وذلك لأسباب كثيرة ومختلفة مرت بالعراق, حاول البحث الوقوف عند ابرز محطاته في الصفحات السابقة وذلك قد يفسر لنا بعض الاحداث اللاحقة, الحالية والمستقبلية.

ولم يمنح التاريخ فرصة للعراق كما حدث في مصر بولاية محمد علي باشا عام 1805م, الذي اسس مصر الحديثة وجعلها من الناحية الحضارية والثقافية ارقى البلاد العثمانية جميعا واكثرها استقلالا خلال مدة حكمه التي استمرت اكثر من اربعين عاما. وذهبت مساعي داود باشا الذي تولى الحكم في بغداد عام 1817-1831م, في تقليد محمد علي باشا والي مصر, للنهضة والعمران والتعجيل بالاستقلال الفعلي الذي شرع فيه عن الدولة العثمانية وللحد من النفوذ البريطاني وبظهور كيان عصري جديد نحو الفشل, الا ان مشيئة القدر لم تتح تحقيق حلمه, وتعاونه مع محمد علي باشا لانزال ضربات ماحقة بالسلطان العثماني, ولربما تغير من جراء ذلك مجرى التاريخ في العراق وبعض البلاد العربية الاخرى وصدق من قال "يقدّرون وتضحك الاقدار".

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter