|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  23 /  9 / 2017                                 فرات المحسن                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز
(
1)

لقاء وتحرير : فرات المحسن
(موقع الناس)

يفغيني بريماكوف رجل يعرف من أين تؤكل الكتف

بعد عملي الطويل ومشاركاتي العديدة في فعاليات وأبحاث معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية في السنوات الممتدة من 1970 ولغاية 1975. سنوات العمل في المعهد أعطتني تجربة ومعرفة غنية في مجالات عمل مختلفة وأيضا في أمور الحياة ومتعلقاتها، وأهم ما في ذلك الإطلاع على طبيعة الوقائع ومجريات التعامل والصراع بين الأطراف والمؤسسات العلمية والسياسة السوفيتية، فتعرفت واطلعت على أسرار كثيرة زاخرة بالحوادث والوقائع الضخمة جدا والمرعبة في بعضها. وكنت في البعض منها أمثل صداع وقلق أو شخص غير مرغوب فيه لدى بعض الأوساط والنخب السياسية، لكوني أجنبي وضعت وسط الحومة وداخل دائرة تلك الصراعات وحشرت فيها حشرا. وكان لي رأي واضح وصريح في واحدة من المسائل الشائكة المعقدة في العلاقات السياسية السوفيتية مع أطراف خارجية، ويمكن تحديد هذه الموضوعة، بالنظرة السلبية والاستصغار الذي يحمله بعض قادة الحزب الشيوعي السوفيتي للأحزاب الشيوعية في العالم الثالث. وكان على رأس هذه المجموعة يقف السيد بناماريوف مسؤول مكتب العلاقات الخارجية عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي وبطانته ومنهم السيد يفغيني بريماكوف. كان جميع هؤلاء ينظرون للأحزاب البرجوازية الحاكمة في تلك البلدان بعين الرضا ويروجون لفكرة، أن تلك الأحزاب قادرة على تبني طريق التطور اللا رأسمالي والوصول إلى الاشتراكية دون حاجة للشيوعيين وأحزابهم. وبسبب موقفي غير الإيجابي من هذا الطرح وتلك الآراء، وتزامن ذلك مع دراستي وطبيعة أطروحتي التي أكدت في جانبها السياسي على إن الوقائع في مصر العربية كمثال، ومن مجريات السياسة والعمل الحزبي والمؤسساتي هناك، أظهرت جميعها بأن لا علاقة لها بتبني التطور اللا رأسمالي أو البناء الاشتراكي لا بل العكس، وإن ما يتبناه مكتب العلاقات الخارجية السوفيتي والسيد بريماكوف لهو على خطأ كبير وخداع بالسياسة . لذا سبب لي الموقف هذا الكثير من المشاق التي واجهتني منذ اليوم الأول لوصولي القاهرة لإعداد أطروحة الدكتوراه في الصحافة.

تمتد معرفتي وعلاقتي بالسيد بريمالكوف منذ الأيام الأول من عام إعدادي لأطروحة الدكتوراه في القاهرة. فقد ترافق بحثي في أطروحة الدكتوراه خلال فترة تعاوني مع مكتب وكالة نوفوستي في القاهرة، وكان يتواجد هناك في الكثير من الأحيان السيد إيكر بلاييف مندوبا عن جريدة الأزفيستيا وكذلك يفغيني بريماكوف عن جريدة برافدا، وقد تعرفت على الاثنين خلال حضورهما إلى الوكالة. كانت طريقة بريماكوف باللقاء جيدة وودودة وبترحاب حار وفي العديد من اللقاءات وكانت بيننا أحاديث في مختلف المواضيع. أحدى المرات وقبل خروجه من الوكالة عرض علي الذهاب معه إلى بيته فوافقته وذهبنا حيث استقبلتنا السيدة زوجته وهي امرأة طيبة كريمة من أصل جيورجي. جلسنا في غرفة الاستقبال نتناول الشراب، وبعد حديث قصير سألني عن طبيعة ومحتوى أطروحة الدكتوراه التي أعدها، فأخبرته عنها وكنت أحمل صفحتي ورق طبعت عليها خطة البحث لذا قدمتها أليه فراح يطالعها، وكنت أشرح له كيف تم تغيير خطة البحث والمساعدة والعون الذي قدم لي من قبل الإخوة المصريين، بعدها طلبت رأيه بخطة البحث وعموم موضوعة الأطروحة. فقال أني أنبهك لمسألة حساسة يجب أن تأخذها بالحسبان وهي الواقع السياسي المصري الذي يجب أن يأخذ حيزا كبيرا وواضحا في الأطروحة فأكدت له بأن هذا موجود بشكل واضح في مقدمة الأطروحة وسوف يأتي في المتن أيضا. فقال برد سريع وواضح، إن ما أعنيه أن تذكر في أطروحتك مصر كمثال لطريقة الانتقال نحو الاشتراكية وإن التوجه السياسي للسلطة في مصر يتخذ مسار الانتقال السلمي نحو بناء الاشتراكية، فأجبته بأن ما يتوفر من معلومات ومن واقع حال يشير لعكس ذلك، فرد بسرعة بأن علي الأخذ بما أخبرني به دون الأخذ بغيره وهذا ما ينفع العلاقات السياسية مع بلدنا الاتحاد السوفيتي.وكان من الصفات التي يتصف بها يفغيني بريماكوف شخصيته المتعنتة المغرورة، وفي الغالب لا يود الاستماع لغير ما يعتقد ويفكر به لذا تراه يطلق الأحكام المتسرعة.

كان هناك ما لا يقل عن أربعين مراسلا للصحف والمجلات السوفيتية في القاهرة من مثل كمسمولسكيا، ترود، برافدا، أزفيستيا وغيرها. وأغلب هؤلاء المراسلون لهم علاقات مع بعض ويعقدون حفلات وتجمعات في العديد من المناسبات وفي أحد المرات قدمت لي دعوة لحضور حفل يحضره أغلب هؤلاء المراسلون، لم أمانع وقررت الذهاب إلى الحفل وشاركت الجميع الطعام والشراب والأحاديث العامة والسياسية خاصة، ودارت أحاديث كان بعضها انتقادا للسياسة المصرية ومثلها لبعض السياسة السوفيتية. فجأة دار لغط بين الحضور وهمسات بأخذ الحذر والصمت لقدوم السيد يفغيني بريماكوف فسألت البعض من القريبين مني وهم من العاملين معي في الوكالة عن سبب هذا الهمس، فأخبروني بأن السيد بريماكوف واحد من عملاء المخابرات السوفيتية وهو رجلهم في القاهرة ولكن ورغم حصولي على هذه المعلومة، فلم يؤثر ذلك على علاقتي الشخصية ببريماكوف وقد دعاني إلى بيته عدة مرات وكالعادة كانت تدور بيننا أحاديث كثيرة نختلف في كثير منها ونتوافق بالبعض. كان من عادة بريماكوف في البيت أن يجلس في صالة الضيوف مرتديا فقط ملابسه الداخلية وأمامه منضدة كبيرة وضعت عليها مجموعة الصحف المصرية ومثلها السوفيتية . في أحدى المرات سألني عن الذي جلب انتباهي في الصحافة المصرية هذا الصباح فحدثته عن بعض المقالات والمانشيتات التي حوتها الصحافة وأخبرته بأني أقرأ صباح كل يوم جميع الصحف المصرية ، فسألني إن كنت قرأت هذا الذي حدثتني عنه الآن، فأجبته بنعم، فأخبرني بأنه يعمل يوميا ومنذ الصباح الباكر على كتابة تقرير عما يعرض ويكتب في الصحافة المصرية ثم يرسله إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ووكالة تاس السوفيتية وجريدة البرافدا، طلبت أن أطلع على محتوى ذلك التقرير فقدم لي نسخة مطبوعة منه وكان معنونا ( ماذا قالت الصحافة المصرية اليوم ) .

في أحدى المرات ذهبت لمقابلة مدير دائرة الإعلام في وزارة الإعلام المصرية ودار بيننا حديث عن الصحافة فأخبرته بأن السيد بريماكوف يجهد يوميا ليعد تقريرا مفصلا عن الصحافة المصرية ويرسله إلى مراكز القرار في الاتحاد السوفيتي فقال المدير بأنهم يقومون وبشكل يومي بأعداد تقرير عن الصحافة المصرية ويرسل عند الساعة الثامنة صباحا إلى عدة جهات وأشخاص ومنهم السيد بريماكوف الذي بدوره يرسله إلى هيئات ومؤسسات في الاتحاد السوفيتي. دهشت من هذه المعلومة وذهب تفكيري بعيدا خاصة في تحديد وقت أعداد التقرير وإرسال بريماكوف تقريره الصباحي إلى موسكو. في مرة أخرى زرت مبكرا بيت بريماكوف وخلال الحديث طلبت منه التقرير اليومي الذي يعده كي استفاد من كيفية إعداده. عندها قدم لي نسخة مطبوعة، بعدها ذهبت إلى مكتب مدير دائرة الإعلام في وزارة الإعلام المصرية وطلبت التقرير اليومي عن الصحافة المصرية الذي تعده الوزارة فوجدت تقرير بريماكوف نسخة طبق الأصل من تقرير الوزارة المصرية، لا يختلف عنه بحرف واحد سوى بعنوان التقرير، فتقرير وزارة الإعلام المصرية لا يتطرق لأي نوع من السلبيات في عموم الوقائع التي تحتويها الصحف المصرية وتشير لها، لذا يمكن القول بأن موسكو كانت تحصل على معلومات مخادعة أو غير حقيقية بسبب نسخة مراسل البرافدا السيد بريماكوف من التقرير.

كانت المرة الأولى التي أكتشف فيها واحدة من أكثر مساوئ بريماكوف بالنسبة للسياسة بعموم توجهاتها، وقد أصبت بخيبة أمل وعدم ثقة بواحد كان يعتبر من أنجح الصحفيين السوفيت آنذاك. ورغم هذا كنت ألتقيه بين فترة وأخرى ويدور بيننا حديث طويل وبالذات حول موضوعة علاقة السلطات المصرية بمسمى التحول نحو الاشتراكية أو طريق التطور اللارأسمالي وكان رأيي واضحا ولم أكن لأخفيه عنه، رغم يقيني بأنه يرتبط رسميا بجهة مخابراتية سوفييتية ما. فأمامي كانت تتضح يوميا الكثير من الحقائق والوقائع التي تشير بما يؤكد نزوع القيادة المصرية لخليط من القومية والتدين وأن ليس هناك علاقة لها بالاشتراكية حتى ولو بقدر الإدعاء الذي يثار عن ذلك، ولكن بريماكوف كان يستفزه هذا الرأي ويصف آرائي واستنتاجاتي بالخاطئة وغير الواقعية وأن مصر سائرة بالطريق الصحيح لبناء الاشتراكية في نهاية المطاف،ويؤكد بأن ناصر والقيادة المصرية سائرة بشكل حثيث وواقعي وممنهج ووفق تصور القيادة السوفيتية لمسيرتها. ودائما ما شكل هذا الموقف نقطة خصومة وخلاف بيننا، وقد حدثته كثيرا عن وقائع تجري في مصر يوميا تشكل ظاهرا خلاف رأيه، وفي أحد المرات حدثته عن صديق من مجموعة الخبراء السوفييت الذين يخدمون في مصر،وهو عنصر مخابراتي سوفيتي أسمه كَينيا كان تلميذا معي في نفس الكلية التحق بالمخابرات السوفيتية بعد التخرج، والذي حدثني عن معاناتهم من المراقبة اللصيقة والمضجرة للمخابرات المصرية وباتت تسبب لهم الكثير من المشاكل والمعاناة وكأن الخبراء السوفييت أعداء لمصر وليس عملهم خدمة لصالح مصر والمصريين.

بعد عودتي إلى موسكو بفترة ليست بالطويلة بدأت كتابة أطروحة الدكتوراه وفي ذلك الوقت عاد يفغيني بريماكوف أيضا ليعمل في أقسام جريدة البرافدا ثم نقل ليعمل في معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية ، وهذا المعهد وغيره من معاهد الأبحاث يعد الدراسات والبحوث ويقدم خدماته وخبراته للسلطات السوفيتية العليا .

كنت وقتها أحاول تجنب اللقاء ببريماكوف رغم كوني أتقصى أخباره عن بعيد، وقد عرفت من خلال بعض الأصدقاء بأنه يتابع أخباري وأخبار بحثي وإعدادي لأطروحتي، وكان يحاول أن يجد فرصة مناسب للالتقاء بي. بعد انتهائي من كتابة الأطروحة وقد سمع بريماكوف بذلك فأرسل بطلبي وحين ألتقيته أبدى امتعاضه مما أنا فاعله ومن الأفكار والرؤية التي أبديها في أطروحتي، وقال بأنه ينصحني بالتخلي عن هذا، وأن ما أطرحه يخالف كليا سياسة الحزب الشيوعي السوفيتي ورؤاه عما يحدث في مصر، وبعد نقاش طويل ومتشنج قال بالحرف الواحد ودون مواربه. يوسف الياس (وكان هذا أسمي وقتذاك) لن تجري المرافعة ولن تحصل على نتيجة إلا من خلال المرور على جثتي. خرجت من عنده منزعج كليا رغم قناعتي بأن من يقف ورائي وبجانبي هو عميد كلية الصحافة الذي قدم لي الكثير من المساعدة في إنجاز الأطروحة.

التقيت بالصدفة بالسيد ميرسكي، وهو باحث يعمل في معهد الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية وسبق أن وضع كتاب حول دور الجيوش في البلدان النامية وعد الكتاب في وقتها أهم دراسة حول طبيعة العلاقات بين مؤسسات الدولة والحراك السياسي في العالم الثالث. كان السيد ميرسكي على النقيض من أفكار بريماكوف رغم أنهما يعملان في ذات المعهد. ومن حسن حظي أن كلية الصحافة قد اختارت ميرسكي ليكون المناقش الرئيسي لأطروحتي وقد اخبرني مباشرة وبعد لقائي الأول به ، بأن بريماكوف وجماعته يقفون بالضد من الأفكار التي دونتها في أطروحتي. فسألته عن هؤلاء الذين سماهم جماعة بريماكوف، فاخبرني بأنهم مجموعة من أعضاء في معهد الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية وكذلك أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في قسم العلاقات الدولية الذي يرأسه بناماريوف .لم اعر الآمر أهمية بقدر ما كنت أعطي ثقتي بأكاديمية ومهنية عميد كلية الصحافة.

بعد أن أنهيت كتابة الأطروحة تم طباعتها ووضع ملخص لها أيضا ولم يتبقى سوى الإجراءات التنظيمية المتعلقة بالمناقشة والدفاع . بعد أيام أرسل بطلبي عميد الكلية ليخبرني عن وجود إشكال سوف يسبب لنا مشاكل مع لجنة الحزب المركزية، وأنه شخصيا بغنى عن مثل هذا الآمر وغير مستعد للدخول بخصومة مع هؤلاء، وقطعا ليس له قدرة على ذلك. بدوري تساءلت عن العلاقة بين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وما ورد في أطروحتي، وهل ما أقوم به من دراسة يأتي في باب السياسة أم جانب البحث العلمي الخالص، فأجابني العميد بأن الأطروحة تحوي السياسة والعلم على حد سواء، وإن فيها ما يخالف سياسة الحزب الشيوعي.فطلبت وقتها أن يرشدني لطريق ينقذ الموقف، فأجاب بأنه حتما سوف يحاول إيجاد مخرج لذلك خلال اليومين القادمين، وكانت مدة الدراسة التي منحت لي قاربت الانتهاء دون أن أحصل على الضوء الأخضر لمناقشة الأطروحة.

في اليوم الثاني أخبرني المدير بأنه قد مددت لي مدة الدراسة والمناقشة لثلاثة أشهر أخرى وخلال هذه الأشهر علينا أيجاد الحل. فسألته عن طبيعة الحل المقترح، فقال لي بأن لا علم له في الوقت الراهن، ولكنه يعتقد أن الحل الصحيح يوجد عندي بالذات، فتساءلت كيف وما المطلوب مني؟. فقال أن علي رفع ما يتعارض ونهج قيادة الحزب من متن الأطروحة وكل ما يفند مسيرة المصريين نحو بناء الاشتراكية، فذكرته بما اتفقنا عليه قبل ذهابي إلى القاهرة فكيف تطلب مني الآن أن أحذف كل ذلك، ياترى هل المطلوب مني أن أكتب عن آلات الطباعة ونوعية الورق المستخدم والأحبار وكيفية توزيع الصحف وأعداد العاملين، وهل كانت الخطة التي وضعناها تتعلق بهذا الشيء دون غيره؟ لم نتفق على شيء وخرجت من عنده حائر ضجر لا أدري ما سوف يكون عليه الموقف في القادم من الأيام.

بعد مضي أسبوع أخبرني العميد بأن أتفاق قد جرى على إرسال الأطروحة إلى معهد الماركسية اللينينة لدراستها وإعطاء الرأي . في تلك الإثناء أرسل بريماكوف بطلبي مرة أخرى فقابلته، عندها وجه لي لوم حاد وكرر مرة أخرى بأني لن استطيع أن أنال النجاح في سعيي للحصول على الدكتوراه، وكان ردي جازما وبثقة متناهية بأني سوف أنال ذلك ولن يعيقني أحد.

لم أترك الأمر يمر دون أن أتابعه بحماس وأبحث عن أية طريقة تقربني من نيل حقي في الحصول على شهادة الدكتوراه لذا ذهبت دون موعد إلى معهد الماركسية اللينينية وقابلت اللجنة التي تقرر أن تدرس أطروحتي لنيل الدكتوراه وحاولت معرفة أذا كانت تتعارض مع سياسة الحزب حسب ما يقال.

استغربت اللجنة حضوري شخصيا دون موعد مسبق، ولكنهم وفي نهاية الأمر أخبروني بأن قرارهم سوف يصدر بعد الانتهاء من الإطلاع ودراسة الأطروحة وذلك سيكون بعد أسبوع من الآن. وفعلا ذهبت أليهم بعد أسبوع فأعلموني بأن الأطروحة ومن الناحية العلمية صحيحة وسليمة وتتوافق مع متطلبات البحث، ولكن ما جاء فيها من آراء سياسية وبالاستناد على خطابات وتصريحات وأدبيات القادة المصريين، لايتلاءم و الاقتناع السائد بأن مصر تسير نحو الانتقال السلمي لبناء الاشتراكية، وهذا الاقتناع يؤمن فيه العاملون في العلاقات الخارجية للحزب الشيوعي السوفيتي، لذا تقرر قبولها بشرط أن تتم المناقشة بشكل سري ودون الإعلان عن ذلك في وسائل الإعلام  .

كانت هناك قناعة عند بعض أعضاء اللجنة المركزية وأيضا بريماكوف بأن الأطروحة سوف لا تنال نصيبها من النجاح، وبصورة مؤكدة سوف تواجه الرفض من قبل اللجنة العلمية التي مهمتها مناقشة الأطروحة والاستماع لدفاعي. ولكن خلال النقاش نال الكثير من مواضيعها استحسان ميرسكي وكذلك عميد كلية التاريخ، وقد أشادوا بما عرضته لواقع حال الصحافة المصرية وما قدمته من تحليلات قالوا عنها بأنها جد صائبة وعلمية، وهذا هو المهم في الآمر. وقد عرضت للتصويت فوافق عليها بالإجماع وامتنع شخص واحد، وهذا الشخص وجه لي أثناء النقاش سؤال تهكمي قائلا هل للسيد بريجنيف رأي في العلاقة مع القيادة المصرية وطبيعة ومسار أفكارها وللسيد خليل عبد العزيز رأي مخالف في ذلك ؟، فهل من الواجب والعقل أن اصدق خليل عبد العزيز أم أثق بالسيد بريجنيف؟. فأجبته مباشرة كلا يا سيدي، عليك أن تصدق بما يقوله بريجنيف.عندها علت وجهه ابتسامة عريضة وقال، السيد بريجنيف كان يخاطب السيد الرئيس جمال عبد الناصر وكذلك الرئيس أنور السادات بكلمة رفيق، فكيف لي أن أصدق عبد العزيز وأنا عضو في الحزب الشيوعي منذ الحرب الأهلية ودافعت عن ثورة أكتوبر العظمى ولذا أعلن مباشرة وقوفي بالضد من الأفكار التي قدمها خليل عبد العزيز في أطروحته، وكان الوحيد في موقفه هذا دون باقي الأساتذة، الذي كان مجموعهم ستة عشر أستاذا.

بعد مضي أسبوعين ومن حسن حظي حدث الذي كنت قد توقعته، فقد قام الرئيس أنو السادات بطرد الخبراء الروس من مصر. عندها وبالصدفة التقيت هذا الأستاذ الممانع فسألني،أي هاجس كنت تحمله وكيف لك أن تتنبأ بالذي حدث؟ فأجبته بأن جميع الوقائع على الأرض كانت تؤشر لذلك، وإن سوء الأوضاع وتضارب الأفكار والمناهج وتذبذب السياسات وانعدام أي معلم علمي مقنع لمسيرة المصريين نحو البناء الاشتراكي، هذا ما كان سبب تحليلي للواقع المعاش في مصر وعلاقتهم بطريق التطور اللارأسمالي أو الاشتراكي، شكرني وقال لي بأن موقفي كان صائبا وأنه بالذات من صوت بالضد من أطروحتي ونيلي الشهادة.

بعد انتهاء دفاعي وحصولي على النتيجة الإيجابية تقدم مني أعضاء الوفد الذي أرسله السيد غفوروف مدير معهد الاستشراق وأخبروني بأنه يطلب حضوري صباح الغد إلى المعهد.وجدت في ذلك فرصة مناسبة جدا أن ألتقي بأحد رجال السياسة والقرار الكبار في الاتحاد السوفيتي والمسؤول عن واحد من أهم معاهد البحوث الإستراتيجية، وسبق أن كان السيد باباجان غفوروف سكرتيرا للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية طاقجستان السوفيتية وشارك في العديد من المعارك دفاعا عن الثورة الاشتراكية وعن الاتحاد السوفيتي ونال التكريم من القيادة السوفيتية.

منذ الصباح الباكر بدأت بالتحضر للزيارة بشكل مناسب. كنت مبهورا وأنا أدخل للمرة الأولى هذا الصرح العلمي الحيوي. أخبرت الاستعلامات بأن لي موعد مع السيد مدير المعهد فسألني الموظف عن أسمي وبعد أن أخبرته رحب بي ورفع الهاتف وأتصل ذاكر اسمي ثم أرشدني إلى غرفة المدير. طرقت الباب ودخلت فوقف السيد غفوروف وصافحني بحرارة وهنأني على نجاحي ونيلي درجة الدكتوراه في الصحافة، وقال أنت أبليت بلاءا حسنا وأنا قمت بواجبي، في تلك اللحظة لم يخطر على بالي أن أدقق جيدا بقوله هذا ولكن بعد عملي في المعهد عرفت دور السيد غفوروف في تذليل بعض الصعوبات والدفع لتسهيل مهمة دفاعي عن الأطروحة. بعدها سألني عن الذي أفكر به بعد نيلي الشهادة وما هي مشاريعي المستقبلية، فأجبته بأن ذلك يتعلق بموقف الحزب الشيوعي العراقي، فهناك قرار متخذ من الحزب بخصوص أعضاءه ممن ينهون دراستهم، حيث عليهم تطبيق شعار الحزب (التفوق العلمي والعودة إلى الوطن). رد غفوروف علي جوابي بالقول إن هذا لا يعنيني، وأنا أقترح عليك الآن العمل معنا هنا في المعهد، فهل توافق؟ لحظتها انتابتني مشاعر سعادة غامرة فلم أتردد بالجواب، نعم يسعدني ذلك جدا. ثم تداركت الآمر وقلت بأن المصادقة على شهادتي لم تصدر بعد فكيف لي أن أعمل عندكم، قال غفوروف أبعد ذلك عن ذهنك فليس له أهمية عندي وتعال غدا صباحا لتبدأ العمل في المعهد، فالموافقة على أطروحتك ستتم حتما في وزارة التعليم العالي السوفيتية.




 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter