|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الجمعة  28  / 11 / 2014                                 حازم كوي                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

غرامشي يُوصي...
إعمال العقل المُستمر

ترجمة واعداد : حازم كويي


أنا اكره اللامبالاة ،واعتقد ان الحياة تعني الانحياز الى التحزب ،اللامبالاة هو عدم الاحساس كالطفيليات ،كالجُبن وهو ضد الحياة ،انا اعيش فأنا مُنحاز ولذلك اكره الشخص الذي لايتدخل في امور الحياة وأكره اللامبالاة.

كتب غرامشي هذه الكلمات الغاضبة عام 1917، والبالغ في حينها 26 عاماً في مدينة تورينو عندما جاءها للدراسة ، كان قبلها يعيش ببيئة فقيرة في جزيرة سردينيا.

في تورينو تعرف على مجموعة من الاصدقاء ،منهم باليرمو تولياتي ،انجلو تاسكا ، وإمبرتو تيراسيني ،وانتظم بعدها في منظمة الشبيبة التابعة للحزب الاشتراكي الايطالي .

النص الذي كتبه خص به البرجوازية ،الذين لايملكون البدائل ،لكنه وفي نفس الوقت قدَرَ الجيل الجديد داخل الحركة العمالية وبموقفهم المناهض للميكانيكية .

يقول غرامشي ،لكي تكون أشتراكياً ،عليك ان تكون نشطاً ومُنظماً ولاتترك المجتمع دون المشاركة في العمليات المرتبطة بالمادية التأريخية والتي ستجلب السقوط للرأسمالية إن عاجلاً ام آجلاً.

في صيف عام 1919 أضرب عمال المصانع في تورينو ،الذين طالبوا بالتنظيم الذاتي للانتاج حيث كتب غرامشي في صحيفة (النظام الجديد) ،والذي لعب دوراً في تأسيسها مع رفاق آخرين من انه (يمكن تطوير منظور الاشتراكية فقط من الخبرات ونضالات العمال والبحث عن نماذج للتنظيم الذاتي البروليتاري والقريبة لما حدث في الثورة الروسية وكأساس للديمقراطية الجديدة )

وقد لاحظ ذلك عندما اتسعت نضالات العمال في تورينو وتكوين اشكال جنينية من قوة العمل الناتجة من تجارب المُضربين في البحث عن اشكال جديدة للتنظيم الذاتي ومن خلال لجان داخلية ،القريبة من من مصالحها الرئيسية .

ومن موجات الاضرابات تكونت مجموعة ثورية قادها غرامشي في مدينة تورينو ،والتي كانت المحرض حيث استمرت حتى خريف عام 1919،هذا الذي أغنى وزاد من تجربته السياسية والحيوية التي امتلكها ،اضافة الى التزامه الفلسفي .

وتطوع فيها نشطاء ومُنظرون لمخطط استرتيجي للحركة العمالية،ولم يكن الامرمقتصراً بالمشاركة ،بل الخبرة التي امتلكها غرامشي رغم الانتكاسة المُرة التي حدثت في خريف 1920،حيث هوجمت هذه الحركة من عصابات مدعومة بعسكر الدولة في شمال ايطاليا ،اضافة للعجز في الحصول على دعم تضامني من اجزاء اخرى من الطبقة العاملة الايطالية وخاصة العمال الزراعيين.

وادركت مجموعة تورينو وعلى رأسها غرامشي ،أن النضال في الحزب الاشتراكي اصبح ميؤوساً منه وموقف قيادة الحركة التي تَحدت قاعدة الرأسمال ،لهذا قرر غرامشي ورفاقه ترك الحزب الاشتراكي وتأسيس الحزب الشيوعي الايطالي في 21 كان
ون الثاني عام 1921 وبإتفاق مع تيارات يسارية حيث أُنتخب غرامشي في قيادتها وقرروا الانضمام الى الحركة الشيوعية العالمية .
وحضر غرامشي ممثلاً للحزب في موسكو آيار عام 1922والتي شهدت فيها مناقشات ساخنة حول البناء الثوري في الاتحاد السوفيتي .

وكتب غرامشي من ان نجاح الثورة قد احدث رد فعل رهيب للطبقة المالكة الحاكمة والتي ستحاول وبلا هوادة سحق ومكافحة المنظمات السياسية للطبقة العاملة .

وهذا ماحدث حين استلمت الفاشية الحكم في ايطاليا وحاولت فيها سحق الحزب الشيوعي الايطالي والحزب الاشتراكي والنقابات العمالية.

وفي عام 1924 عاد غرامشي الى ايطاليا والذي كان يملك الحصانة البرلمانية ،في 8 تشرين الثاني 1926 أُنتخب رئيساً للحزب الشيوعي الايطالي ،ومع ذلك أُعتقل بتهمة الخيانة العظمى وحُكم عليه بالسجن لعشرين عاماً ،والتي أُعتبرت هزيمة سياسية للحركة العمالية الايطالية ومأساة لشخصية كبيرة في الحركة الشيوعية ،وكان قرار الحكم الفاشي هو عدم إستعادة غرامشي لحريته ،حيث أمضى بقية حياته في السجن وتوفي في 27نيسان 1937في روما عن عمر ناهز 46عاماً،نتيجة للوضع السئ الذي عاشه في المعتقل.

من خلال التحقيقات التي اجريت مع غرامشي ،تحدث محامي الدولة الفاشية عن هدف هذا الاعتقال بكل وضوح (يجب علينا منعه من أن يُفكر ولمدة عشرين عاماً)

واليوم وبعد هذه السنوات الطوال اي بعد 77 عاماً من وفاته ،فإن افكار ونظريات غرامشي تناقش في المحافل السياسيةوالحركات والنقابات والجامعات ،ويجري التواصل في تطوير تنظيراته ،فهو وللمفارقات ورغم العزلة في سجنه ،الا انه قرر ان يواصل كتاباته مستغلاً ذلك من خلال انعكاسات فهمه النظري والخبرة السياسية التي امتلكها.

وبدأ في كتاباته وملاحظاته بالتحري والتقصي وإملاء الشروط وفي عدة مجالات من المواضيع والتي عرفت فيما بعد (بدفاتر السجن.
فقد كتب قليلا او كثيراً عن التأريخ ،الثقافة،السياسة ،الفلسفة والاقتصاد،تتضمن فيها الاسئلة البحثية وبحدود 3 آلاف صفحة وبكتابة يد توزعت على 32 كراس.

والملاحظات التي كتبها في السجن كانت في ظروف إستثنائية حيث كان يستعين على ذاكرته في التوثيق وإستشهاد النصوص إضافة الى اللغة التي اختارها كي يتخلص من السجان الرقيب ،وبعد وفاته نشرت الاعمال الكاملة على دفعات (عدة مختارات) الى ان ُنشرت جميع اعماله عام 2002 والمسماة (دفاتر السجن) المتواجدة الآن في الاسواق ومنها كاملة باللغة الالمانية.
وأُعتبر ذلك كنزاً حقيقياً للتحليلات الماركسية الحيوية والتكوين النظري ، واكتشافات جديدة لليساريين الناشطين والمُنظرين الجُدد.

إن حيوية تحليلات غرامشي التي كتبها في السجن واستمرارية طرحه للاسئلة وخاصة بعد فشل تجربة تورينو ،منها السؤال الذي طرح : كيف نفهم استقرار النظام الرأسمالي ،كيف يمكن إعادة انتاج العلاقات الرأسمالية في المعارك والانتفاضات الثورية .

وأجاب غرامشي في دفاتره من ان سلطة المجتمع الرأسمالي الحديثة لايمكن ان تمارس العنف والقمع فقط ،فهي تقود قطاعات واسعة وتدمجهم من خلال سلطتها ،التي اشار اليها غرامشي ،المرتبطة بالتوافق بين الاكراه والاجماع والتي تحاول ان تخلق التوازن فيها وباشكال عديدة بحيث ان الاكراه لايتجاوز الاجماع ،فسلطة الرأسمال نُظِمت بشكل ، أن اجزاءاً اساسية من الفئات الاجتماعية تكون تابعة لها ومكفولة.

فكيف يجرى تنظيم التوازن بين الاكراه والاجماع؟
في كتاباته يؤكد على عدة مستويات ،الاول هو ان الفئات الاجتماعية تحاول صيانة مصالحهم المكتسبة كمصالح عامة للجمهور،ففي مبدأ المنافسة من أجل الربح والتي تجري يومياً في المجتمع نفسه والذي يصبح مفهوماً من خلاله وكجزء من الفهم اليومي لهم فيصبح احد أوجه الاستغلال .

والثاني ان الطبقة القائدة تضطر احياناً الى تقديم التنازلات للعمال والفلاحين والتي يمكن ان تكون جزءاً من الحلول الوسط وفي مراحل مختلفة في النظام الرأسمالي المتطور وكما حصل في المرحلة (الفوردية) في اميركا بعد الحرب العالمية الاولى عندما دخلت الحلول الوسط التوفيقية بشأن سياسة الاجور واشراك النقابات او الهياكل الاساسية لدولة الرفاه كجزء من سياسة عالمية تشارك فيها المؤسسات السياسية لضمان مصالحها.

ويحاجج غرامشي من ان الدولة المدنية الحديثة نظمت تضاريس هيمنتها في العاصمة وكل المؤسسات بأن تكون متوازنة كدولة فيها المكتبات ،المدارس ، الدوائر ،النوادي وما يتعلق بالهندسة ،كالاعمار ونظام الشوارع ...الخ

غرامشي يستخدم الترابط بين الدولة بمعناها الضيق المسمى (المجتمع السياسي) والدولة بمعناها الاوسع (المجتمع المدني) وإعطاءها طابع (الدولة المتكاملة).

وهو يرى ان الدولة رغم اضفاء الطابع العالمي لها فهو يبقى تنظيم سلطوي ولايعني هذا ان الاكراه والتسلط لايلعب دوراً في الراسمالية ،فالبوليس ،الجيش ،السجون ،مشافي الامراض العقلية ،المدارس ودوائر العمل واخيراً وليس آخراً ،الاكراه المصحوب بالصمت ،فالاكثرية في المجتمع مجبرة على حمل قوة عملها كجلودهم الى سوق العمل كما يقول ماركس ،وكل علاقات الاكراه هذه هي احداث يومية حقيقية وكما يجادل غرامشي ان الهيمنة هذه تكون محمية بوسائل العنف سواءاً من خلال حرس الحدود ،الشرطة والمشرفين على ابقاء التوافق الاجتماعي والتي قد يمكن ان تكون هشة كما هو الحال عند حدوث العصيان المدني ،ولهذا فالسلطة لاتتورع باستخدام العنف المخزي المتمثل بالبطرياركية الابوية .

كما يسلط غرامشي الضوء على الهيمنة في مجال الثقافة (النظريات)والذي يعتبره احد الجوانب المميزة.

ففي مجال الثقافة والادارة السياسية تحتاج الدولة الى لاعبين مثقفين واذكياء جداً ،وان يكونوا جزءاً من تنظيم المهام سواءاً في مجال الانتاج بمكونات مديري الادارات والمهندسين ،معلمين ،صحفيين وكُتاب ،الذين يقومون بتنظيم الحياة اليومية من خلال وسائل الاعلام بدخوله وسط المجتمع المدني داخل وخارج البلد.

علينا كأشتراكيين كما يقول غرامشي ان ننتج مثقفين كأستراتيجية سياسية لليسار ولايكفي تعبئة الناس للمظاهرات وتنظيم الاضرابات ،فعناصر هذه الاستراتيجية يجب ان تستكمل بالجهود الطويلة من خلال الممارسات اليومية .

فالحرب ،وحرب الخنادق يمكن ان تدخل نجاحات ،لكنها جزئية ،انتقائية ،فالمنظمة عليها ان تنجح للتحرر الحقيقي طويل الامد.

والتحدي هو كما أن الرأسمالية تخلق مثقفيها ،علينا ايضاً ان نخلق مثقفينا وناشطينا ومنظرينا الخاص بنا ،مهمتهم التحريض ضد السياسة السلبية والتبعية بحيث نشرك فيها اكبر عدد من الناس بإدخالهم جميعاً في العمل والنشاط في كتابة تأريخنا من خلالهم.

فكراهية غرامشي الشاب باللامبالاة تشكلت في دفاتر السجن ،والتغلب على اللامبالاة يأتي من العمل الجماعي في المنظمات الاجتماعية ومشروع الاشتراكية جدير بهذا الاسم ،كي تكون مستقلة فكرياً لتنظيم انفسهم سياسياً.

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter