|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 السبت  8 /  2  / 2014                                 هرمز كوهاري                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

من الذكريات المؤلمة
اليــــــــــــوم ألأســـــــــــود
(2)

هرمز كوهاري

إذاً هي مؤامرة .. إذاً سووها أولاد الشرموطة كما يقول اللبنانيون !....، ولكن كيف ؟ في وضح النهار .! . لم نسمع ولم نصادف مؤامرة أو إنقلابا بوضح النهار . وفي العطلة وكل الناس ، العمال والفلاحون والطلبة في بيوتهم وقت الراحة والإستجمام والحزب "والزعيم الأوحد" ينتظرونهم فجر كل يوم لينقضوا عليهم حتى لا يُتهموا بأنهم البادئين ! ويهيئ كادره ليكون على أهبة الإستعداد ولكن ليس في وضح النهار .... وكما قال عبد الناصر في حربه مع إسرائيل في حزيران سنة 67 " إنتظرناهم يأتوننا من الشرق ولكنهم أتونا من الغرب ..." وكان يقصد طائراتهم .

نُقل عن المرحوم محمد حديد وزير المالية والشخصية الثانية في الحزب الوطني الديمقراطي ، رأي عبد الكريم قاسم : أنه لا يريد أن يكون البادئ بضربهم بل يريد أن يمسك بهم بالجرم المشهود !! كذلك الحزب كانت خطته أنه لم يكن هو البادئ ، كما كانوا يقولون لنا ونحن صغار : إذا وضعتم تراب على العصفور فلا يطير وتمسكون به !!! ولكن لو يكون البادئ هل يزيح عبد الكريم أولا أم يتركه ثم ينتظر لأن يقطف ثمار النصر كما فعل في مؤامرة الشواف ويعود يضربهم بتهمة التجاوز على السلطة !؟ ولكن متى كان صاحب الدار يعرف بتاريخ سطو اللصوص على داره .؟؟

نعم كانت مباغتة غريبة وعجيبة بل وذكية جدا ، قطعوا ( كيبل ) الإذاعة وبدأوا يذيعون من أحد الجوامع أمسكوا بباب المعسكر وأعتقلوا كل طيار شيوعي حاول التسلل الى طائرته وأعدموه ، وقيل ان عبد الكريم قاسم كان قد هيأ قائمة بإعتقال كثير من الضباط المشكوك فيهم ومنهم العماش تنفذ يوم السبت فعاجلوه بيوم الجمعة ..!

تمكنوا من أصطياد كل القادة كصيد الحمام ! في بيوتهم أو أثناء التسوق ومنهم في ملابس النوم وفي مقدمتهم الشهيد جلال الأوقاتي قائد القوة الجوية العراقية وأمل الجيش والحزب بقدرته وإخلاصه وهذا العملاق لم يحتاجوا للتخلص منه سوى بعض الأنفار وبدم بارد من زعاطيط البعث بدون معركة أو مقاومة أو .. وكذلك الشهيد جورج تلو وغيرهم .

في السبعينات تعرفت على أحد أولئك القتلة (عدنان داوود القيسي) وكان من الصدف أن نكون في دائرة واحدة (كلانا مدير قسم) كان بيننا نوعا من الإحترام المتبادل بحكم الوظيفة ، وكان أنسانا رزينا لمّحتُ له يوما بالموضوع ، لم ينكر التهمة بل قال لي بكل صراحة : "الأخ هرمز كنت ملتزم بتنفيذ أوامر الحزب ولو أمرني الحزب بقتل والدي أو والدتي لما ترددتُ لحظة "!!

لا أعتقد بامكاني أن أصف حالتنا في تلك الساعات وكيف قضينا تلك الليلة بطولها وثقلها ولم أعرف هل نمنا أو بقينا ساهرين . وأعتقد لو كان مكاننا الكاتب الفرنسي أناتول فرانس أو أغاثا كريستي الإنكليزية أو تولستوي الروسي لما تمكنوا من تصوير شعورهم وقلقهم وحالتهم تلك لقرائهم ، فكيف لي أن افعل أنا ولا أملك لغة قصصية أو روائية !!

ولكن بمن افكر ب .. ألياس القائد النقابي والشيوعي الخطر وأحد الموقعين على طلب تأسيس الحزب الشيوعي أي أنه مستهدف في كل الأحوال . هل يمكنه أن يختفي أو يهرب .. كيف ؟ ولكنه رفض الهرب وقال لمن وفروا له امكانية الهرب والإختفاء قال لهم هذا يوم العمل !، القيادة لا تهرب من المسؤولية والجندي لا يهرب من المعركة ! علمت بهذا بعد خروجي من المعتقل .

وهم قلقون على سمير شقيق زوجتي المهندس وضابط الإحتياط خرج من البيت للإلتحاق بالمقاومين ولم يعد الى البيت هل أعتقل أو.. و سلوى أخته طالبة في كلية الطب لم تلتزم بالإضراب البعثي وشيوعية أو صديقة للشيوعيين معرضة للإعتقال .. وعبد الرحيم أسحق ( أبو سعد ) عديلي الذي اتهموه على صفحات جرائدهم بأنه أحد " ابطال " حوادث كركوك وهو موضوع حقدهم..

كان الشيوعيون قديما يختفون أياما وشهورا في بيوت الأقارب أو الأصدقاء أما اليوم فلم .يجرأ أحدهم أن يلتجئ الى اقرب المقربين اليه ليكون سببا في إعتقالهم وربما قتلهم تنفيذا للبيان المشؤوم رقم [ 13 ] الذي تجاوز كل القوانين والأعراف الدولية ب (إبادة الشيوعيين ومن يأويهم) ! وهكذا إعتقل الياس في بيته الحزبي مطمئناً بأن أحدا لا يعرفه إلا القادة .. والقادة كيف يمكن أن يعترفوا .؟

ولكنهم إعترفوا وجاء احدهم مع الحرس القومي لأن التعذيب كان بصورة لا يحتمل ، قد يحتمل الإنسان الموت رميا بالرصاص أو شنقا و لا يتحمل نوعا من التعذيب الوحشي عليه أو على زوجته !! بدليل أن بعضهم كان يتوسل بأولئك الذين تجردوا من كل ما يتصف به الإنسان والبشر ان ينهوهم ويرتاحوا من ذلك التعذيب الجسدي والنفسي ولكن ليس قبل أن يحصلوا منهم الى آخر معلومة عن رفاقه ... ولهذا قال لهم الياس: لن تحصلوا مني على اي شيئ كفوا عن التعذيب وابو سعد اعتقل في بيته مع أهله ، علمت هذا بعد خروجي من الموقف .

صباح اليوم الثاني لم نعد نفكر بوعينا ولا بعقلنا لم تعد لنا القدرة على التفكير ، بالماضي والأخطاء أو الحاضر كيف ستتطور الأوضاع ومن سيبقى ومن سينتهي أو يقتل أو يسجن ، لم نعد نفكر بالمستقبل ألا باليوم وغدا وبعد غد وأصبح التفكير بالمستقبل شيئاً من العبث حيث لم نتصور أن يبقى لنا مستقبل !!!

يوم السبت مساءا كانت نهاية " الزعيم " نهاية مأساوية مع الشهيد المهداوي ومن كان معهما ، لم نتمكن من مشاهدتهما لبشاعة المنظر ، يوم السبت لم أداوم بالرغم من توجيه نداءا لكل الموظفين للإلتحاق بدوائرهم للقبض على كل شيوعي أو صديق للشيوعيين أو كل ديمقراطي يساري ومنهم من يريدون إحتلال موقعه الوظيفي ليس الا ..

صباح يوم الأحد توجهت الى بيتنا في الجادرية لوحدي وبقيت زوجتي في بيت أهلها .. لأطمئن على الوالدين المسنين المساكين الذين أوصلناهم الى حالة لا يحسدون عليها سألتْني الوالدة ما القضية ؟ ماذا عن أخوك ؟ ووووو أما الوالد فكان يمتلك أعصابا حديدية لآنه مر ( بسفر بلك ) وذاق ويلاتها وسيق عدة مرات كجندي إجباري ورأى امام عينيه إعدام الجنود بالجملة لمجرد مرضهم أو تعبهم في الطريق !!! ومع هذا كان أحيانا يبكي في داخله دون أن يشعر أحدا به. ..

بدأت أحرق بعض الأوراق والكتب ولكن دون جدوى من كثرتها ... ذهبت الى بيت صديق قريب علينا وعلى بعد خطوات ، المرحوم الإستاذ جورج حبيب الخوري ، كان مدير مصفى الوند فصله الزعيم الأوحد لأنه ديمقراطي يساري !! سألت عن أبن أخيه حارث ...الشاب الشيوعي المتهور ... قال .. عندما سمع بالمؤامرة خرج ولا نعرف مصيره  الى الآن ! ، .وبعد أن تناولنا القهوة .. رجعت الى البيت ولم تمر دقائق ألا وسمعت طرقا على الباب الخارجي وعرفت حالا فرأيت أحد الموظفين من القسم الذي كنت مسؤولا عنه وهو " أحمد الحلي " رجعي أسلامي متخلف . وكنت أتصوره قد جاء ليدعوني الى الدوام لإلقاء القبض عليّ هناك ، وصاح  :

" استاذ هرمز فد لحظة رجاءا .." خرجت اليه وفور وصولي الباب أنتفض بوجهي شرطيان وصوبا رشاشتيهما نحوي : " لا تتحرك .. " !!

قلت فقط امهلوني لالبس الجاكيت .. قالا لا .. اطلب من الذين  في الداخل ان يجلبوها لك ... أنت لا تتحرك من مكانك .. وفيما بعد ، إعتذر الحلي لي وقال أنا جئت إحتراما لك لكي لا يجلبونك بسيارة المساجين . علما بأن البيت كان معروفا لدى الموظفين لأني مستأجره من معاون المدير العام .

خرجت الوالدة وجلبت لي بلوز وجاكيت وقلت لها دقيقة وسأرجع !!!

وضعوني في الوسط والى جانبي شرطيان شاهرين الرشاشات نحوي ضحكت مع نفسي قلت هذولا وقسم من موظفي الدائرة يتصورون إني قائد حزبي كبير وخطير لآنهم قرأوا يوما أسم ألياس من الموقعين على تأسيس الحزب الشيوعي ! ولم يعرفوا أو يصدقوا إني خارج الحزب منذ بداية الخمسينيات .

ذهبنا مباشرة الى مركز شرطة العبخانة في شارع الرشيد في السنك مقابل سينما الزوراء ، ووجدت مديرنا العام منكس الرأس مهموم ، وكان من الحزب الوطني الديمقراطي و معين من قبل محمد حديد وزير المالية ، ويظهر عليه الغباء من أول نظرة !!. وكثير من موطفي القسم ومنهم المرحوم سعدون الصفار ، وسعدون كان يحب الحوارات والنقاشات السياسية في الدائرة لم يتمكن من الأمساك بإبتسامته حال ما رأني وهمس بأذني  : زين أستاذ تأخرت بعد إنتهاء الحفلة !! وقال : هذا بصفك ويقصد المدير العام " أكل راشدي .." . وهو الذي ملأ الدائرة بالبعثيين والقوميين والأمن ، و كنت أقول له من باب العلاقات بيننا أن هؤلاء لا يمكن الوثوق بهم ، فكان يقول : " د اسوي التوازن بينكم ...انتم الشيوعيين سيطرتم على الدائرة "

ولكن من المتوازنين الذين أتى بهم كان التعس جميل الخشالي والذي دخل عليه وأمسك بياخته وقال له " كوم كواد هذا مو مكانك " قالها لي المدير العام بنفسه ونحن في الموقف !!!!

لم يوجه اليّ أي كلام في المركز سوى التأكد من الأسم والعنوان ، ثم أخذونا بسيارة السجناء وتجولوا بنا بدءا بالأمن و بمعتقل المثقفين وغيرهما من السجون ومن حسن حظنا كانت كلها " فول هاوس " للآخر ولا يعوزهم ولا نفر واحد !! فتوجهت السيارة بنا الى مسقفات "بنكلات " خلف السدة والتي كانت يوما كلية ضباط الأحتياط التي أقمنا فيها .

وكنا أول مجموعة تدشن تلك القاعة ثم توالت الوجبات ، جاءوا  بوجبة فيها بعض من الذين أعرفهم سابقا مثل الدكتور حافط التكمجي .. كنا معا مرشحين في قائمة مجلس إدارة جمعية الإقتصاديين العراقيين ضد قانمتهم ، و الدكتور نوري جعفر أستاذ في دار المعلمين العالية تعرفت عليه في جمعيات الصداقة بين الشعوب ! والمرحوم محمد سعيد الصفار مدير أحد فروع مصرف الرافدين وتعرفت عليه في تأسيس وإدارة الجمعية الإستهلاكية لموظفي البنوك والشركات في الخمسينيات وأعتقد كانت أول جمعية أستهلاكية تؤسس في العراق ، خرج من التوقيف ثم سمعت أنه أعتقل وأعدم من قبل المجرم عماش شخصيا ، ثم بعد فترة جاءوا بالدكتور الطبيب عبد الصمد نعمان وكنت قد تعرفت عليه بداية الستينات وأصبح صديق وطبيب العائلة ، وتهمته خطيرة .. لأنه كان يعالج المرضى الفقراء مجانا إذاً لابد أن يكون شيوعي خطر !!! وشقيقه الذي اصبح مختار القاعة ! الحقوقي عبد الحكيم أبو نهرو ثم الدكتور محمد سلمان حسن العالم الإقتصادي ورئيس قائمتنا في جمعية الإقتصاديين العراقيين المار ذكرها أعلاه .. وعندما كنت اتحدث معه كان يقول : أخويا لا أسمع بإذني هذه لأن الحرس ضربني عليها وقال : مو أنت صديق إبراهيم كبة !!. وغيرهم وغيرهم من مختلف الفئات والطبقات والثقافات ..

وفي المساء أزدحمت القاعة " بالضيوف " حتى لم يبق لنا مكانا لمد أرجلنا للنوم " المريح " الذي إفتقدناه لأجل غير معروف .


8 /شباط / 2014
 

من الذكريات المؤلمة - اليــــــــــــوم ألأســـــــــــود (1)
 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter