| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. هاشم نعمة

 

 

 

السبت 1/5/ 2010



الفدرالية : المفهوم والتطبيق
(2)

د. هاشم نعمة

مسيرة الأنظمة الفدرالية

نحاول اللقاء نظرة فاحصة على الأنظمة الفدرالية في العالم للتوقف على صيرورة التطور الذي رافقها لا بهدف استنساخ ما طبق ولكن للتعرف على تعقد مساراتها ولأنها عملية سياسية، اجتماعية، اقتصادية،قانونية، ونفسية، فهي خاضعة للتطور، عبر الزمن، ويندر أن نجد نظاما فدراليا لم تواجهه الصعوبات في التطبيق حتى في الأنظمة التي قطعت شوطا كبيرا في إرساء دعائم المؤسسات الديمقراطية، فكيف ببلدان لا عهد لها بالديمقراطية مثل العراق. أقول هذا بقصد الإشارة إلى ضرورة الصبر في التعامل والتعاطي مع هكذا موضوع وينبغي عدم التطير واتخاذ مواقف قطعية بعدم صلاحية الفدرالية أو عدم صلاحية هذا النموذج أو ذاك من الفدرالية في واقع العراق.   

من الناحية التاريخية، في عصر دويلات المدن الإغريقية أسس عدد من الاتحادات أو التحالفات. بعض المؤرخين يصفها بأنها كانت تمثل فدراليات. وذهب برياستد أبعد من ذلك بوصفها نوعا من الولايات المتحدة الصغيرة جداَ. لكن في الواقع نحن نعرف القليل جداً عن بنيتها الدستورية ليمكن بالتالي تمييزها عن التحالفات الأخرى. وفي أوروبا في العصور الوسطى ظهر نوع آخر من الاتحادات كاتحادات المدن مثل هانسياتيك في شمال ألمانيا والكانتونات السويسرية المعروفة أكثر. هذه هل يمكن اعتبارها ملامح أساسية للنظام الفدرالي الحديث؟ يقول ساوير أن أول دولة فدرالية حقيقية حديثة كانت الولايات المتحدة الأمريكية. حيث أن الولايات التي حصلت توا على استقلالها من بريطانيا لم تكن كلها متحمسة في البداية للتخلي عن سيادتها إلى سلطة أخرى. ولشرح كيف يجب أن يعمل النظام الفدرالي وإقناع الولاية الحاسمة نيويورك بقبول الدستور الجديد كتب ونشر ثلاثة من الآباء المؤسسين هم الكسندر هاملتون وجيمس ماديسون وجون جاي مجموعة من المقالات التي أصبحت تعرف بالفدرالي. ومن ذلك الوقت، أعتبرها الأمريكيون كنوع من الإنجيل الفدرالي. لكن تبقى الحقيقة بأن النظرية السياسية للفدرالية بدأت مع هذه المقالات. حيث لعب هؤلاء الثلاثة دوراً رئيسياً في تطور الأفكار الفدرالية.([1]) وهكذا نرى أن تبني الكونفدرالية في البداية ومن ثم التحول نحو الفدرالية كان استجابة لواقع موضوعي تمثل ببناء قوة قادرة على الوقوف أمام القوى الأوروبية الاستعمارية ورغبة هذه الولايات بانتزاع استقلالها السياسي من هذه القوى.       

 لقد قامت بعد ذلك العديد من الأنظمة الفدرالية عبر العالم لكن كانت أعدادها قليلة فمثلاً كولومبيا، تحولت من النظام الفدرالي إلى النظام المركزي في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد ذلك، عادت إلى النظام الفدرالي في نهاية القرن العشرين. وكان قيام الإتحاد السوفيتي عام 1922 قد مثل واحدة من التجارب الهامة في هذا المضمار رغم فشلها فيما بعد ولكن هذه التجربة لم تدرس في حينها بعمق في الغرب على اعتبار أنها لا تمثل التجربة الأهم في هذا البلد إضافة إلى ذلك كان الفكر الغربي مشغولا  للتصدي للنظام الاشتراكي كفكر وممارسة لإبراز وتضخيم عيوبه ولإثبات عدم صلاحيته.

 كان الإتحاد السوفيتي يستطيع أن ينجو من خسارة بعض الجمهوريات الصغيرة مثل جمهوريات البلطيق والقفقاس ومولدافيا. لكن غياب التعامل الحاذق معها سوية مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، شجع جمهوريات أخرى أكبر مثل أوكرانيا على الابتعاد عم المركز. ولا ريب أن غورباتشوف تأخر كثيراً في صياغة علاقة دستورية جديدة بين الجمهوريات. وحين كان مستعداً لتقديم تنازلات، كان الوضع قد تجاوزها فبدت تلك التنازلات متأخرة ومرفوضة. كذلك كان إعلان الإتحاد الروسي نفسه أيضاً جمهورية ذات سيادة عاملاً حاسماً في انهيار الإتحاد. فعندما أعلن إقليم بهذه المساحة سيادته لم تكن هناك جدوى من بقاء الأقاليم الأخرى في الإتحاد، فسارت أوكرنيا وبيلوروسيا وآسيا السوفيتية في أعقابه على الرغم من أن ذلك كان ضد مصالحها بالكامل.([2])

 وتزايدت الأنظمة الفدرالية بعد الحرب العالمية الثانية وأهم نظام فدرالي ظهر بعد هذه الفترة هو ألمانيا الاتحادية حيث كانت هناك رغبة قوية من قبل الحلفاء في أن لا تبقى ألمانيا دولة مركزية موحدة خشية ظهورها من جديد كقوة تهدد السلم.

 في السنوات، التي تلت نهاية الحرب الباردة، فإن زيادة حدوث وقسوة النزاعات الداخلية المسلحة، والحروب الأهلية، عمقت المصلحة في الفدرالية، كإستراتيجية مؤسساتية لتسوية الخلافات الإقليمية والاثنية. وعندما يتفوق النزاع الداخلي على النزاع بين الدول، كمصدر أكثر شيوعا للعنف السياسي، في عالم اليوم تصبح الفدرالية خياراً مهماً بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن هندسة المؤسسات التي تستطيع توفير الأمن في بيئات ما بعد النزاع. حتى النزاعات الأخيرة بين الدول تشمل حروب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق وصربيا أطلقت نقاشا جديا حول كيف يمكن أن تعزز الفدرالية والحكم الذاتي الاستقرار في فترة ما بعد النزاع.([3])

 ويشير مايكل كيتنج إلى أن أغلب الحركات القومية، في أوروبا وكندا، أعادت تعريف أهدافها وتوجهاتها وإستراتيجياتها في ضوء التغيرات الدولية منذ أواخر الثمانينات بصفة عامة والعولمة بصفة خاصة، ومن ثم حدث تغير أساسي في خطابها السياسي. فقد بات معظم هذه الحركات مدركاً لحدود نهج الاستقلال بالمفهوم التقليدي(أي تكوين دولة جديدة) بالنسبة للأمم الصغيرة والمعوقات الموضوعة عليه. ومن ثم فهي تناضل من أجل تحقيق غير هذا الهدف، مثل المشاركة في السيادة، أو تعظيم نطاق ومستوى الاستقلال الإقليمي، أو السعي للاعتراف بأنها تمثل أمة (وإن كانت بلا دولة) متميزة عن غيرها، سيما الأمة التي تمثلها الدولة التي هي جزء منها. ويضيف أن هذه الحركات القومية أصبحت أقل إثنية وغدت تتبنى معايير إقليمية (موضوعية) للمواطنة أو للعضوية في مجتمعاتها (التوجه المدني)، وأن المواطنين في الأقاليم المتميزة قومياً داخل الدول باتوا يطبقون ما يعرف بالهوية المزدوجة وربما المتعددة؛ مثلا اسكتلندي وبريطاني أو اسكتلندي وبريطاني وأوروبي في نفس الوقت.([4]) ونجد صدى لهذا التوجه في نظرية تعدد الهوية التي نالت قدرا مهما من البحث على المستوى الأكاديمي.

يصبح النزاع أكثر وضوحاً عندما الاختلافات اللغوية، أو الدينية، أو الإثنية تعلو على الاختلافات الأخرى بين ولاية وولاية أخرى. ففي كندا مثلاً، التوتر بين الحكومة الإقليمية لمقاطعة كيوبك والحكومة الفدرالية يكون أكثر وضوحاً بسبب اللغة والهوية الدينية لكيوبك مقارنة ببقية كندا. ([5]) وهناك من يذهب أن المسألة في كندا مسألة لغة وليست مسألة دين، لكن سكان كيوبك يعلمون أنهم يعيشون في الشمال الأمريكي الذي يتحدث الانكليزية، حيث لا يستطيعون تجنب تعلم هذه اللغة إذا أرادوا أن يضمنوا مستقبلاً من الدرجة الأولى حتى وإن لم يكونوا جزءاً من كندا. ([6]) وكما هو معروف جرى تنظيم استفتاء أو أكثر لتقرير بقاء كيوبك ضمن كندا أو انفصالها لكن الغالبية اختارت بنسبة بسيطة البقاء ضمن كندا لكن هذا لا يعني أن المسألة قد سويت فهي لا تزال تتفاعل.

ففي تحد مباشر لحكومة كيوبك فيما يخص السيطرة على الأراضي ، هددت الحركة الانفصالية في مونتريال بتقسيم أراضي كيوبك إذا قرر الإقليم الانفصال عن كندا. ويحاجج الانفصاليون الذين يمثلون السكان المنحدرين من أصول انكليزية، بأن الشعب في كيوبك له الحق في اختيار استمرار العيش ضمن كندا وبدون مغادرة الأراضي الحقيقة لكيوبك في حالة الانفصال. وهذا يعني تقسيم أراضي كيوبك طبقاً لاختيارات السكان. هذه الأفكار قد تم تداولها في أربعينات القرن التاسع عشر، لكن الحركات الانفصالية فجرت الإعلان عنها عقب استفتاء تقرير سيادة كيوبك عام 1995. واقترحت خرائط لكيوبك تختلف بشكل كبير، معتمدة في ذلك على أصول السكان ومصالحهم.  ويحاجج الكنديون من خارج كيوبك بأن الأراضي الواقعة في الجزء الشرقي من البلاد يجب الاحتفاظ بها إذا انفصلت كيوبك وبأن سيادة هذا الإقليم يجب أن تقرر طبقا لنتائج الاستفتاء القائم على أساس الدوائر الانتخابية، أو تحصل كيوبك على سيادتها استنادا إلى تفسيرات تاريخية معينة لتطور أراضي الإقليم. وكانت نتيجة استفتاء عام 1995، أن 47 بلدية من بلديات كيوبك تمثل حوالي 800,000 من السكان، تبنت الطروحات الانفصالية معلنة بأنها تريد البقاء جزءاً من كندا في حالة انفصال كيوبك. ومع اللائحة المقترحة لدمج السكان في مونتريال، فإن هذه الطروحات سوف تصبح عديمة النفع والجدوى إذا ستفقد البلديات الانكليزية استقلالها الذاتي.([7]) ولكن هذا التباين في المواقف لم  يؤثر سلباً في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدستورية لبلد متقدم مثل كندا وبالتالي لم يتحول إلى صراع مسلح.    

بالنسبة للبرازيل لم تكن الفدرالية استجابة للانشطار العرقي واللغوي والديني، وذلك خلافاً للعديد من الأنظمة الفدرالية. لكن العوامل التي ساهمت في بقاء التوتر السياسي  والاجتماعي وأضعفت من إمكانية النظام الفدرالي في حل المشاكل التي يواجهها البلد هي بالأساس مشاكل تتعلق بالبنية الاجتماعية والاقتصادية غير المتوازنة التي يغذيها ضعف أو غياب العدالة الاجتماعية.

 

 

[1] - McMinn W.G., National and Federalism in Australia, Oxford, 1994, pp. 44-45

[2] - سوزان فوسبر" من الثورة إلى الدولة" في ما بعد الماركسية، إعداد فالح عبد الجبار، المدى، 1998، ص25-26.

[3] - World Politics, op.cit., p. 667.

[4] - د. أيمن إبراهيم الدسوقي، "هل القومية الكردية انفصالية؟ " مجلة شؤون عربية، العدد 138, جامعة الدول العربية، 2009، ص 219.

[5] - John R. Short, An Introduction to Political Geography, London, 1993, p.101.

[6] - لستر ثورو، مستقبل الرأسمالية، ترجمة عزيز سباهي، المدى، دمشق، 1998، ص 270.

[7] - Journal of Economic and Social Geography, Vol. 92, N. 4, KNAG, 2001, p. 414.


 

¤ الفدرالية : المفهوم والتطبيق (1)


 

free web counter