| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عماد رسن

Imad_rasan@hotmail.com
http://www.facebook.com/pages

 

 

 

                                                              الخميس  24 / 7 / 2014



الأقليات في العراق وزحف الصحراء

عماد رسن

ربما لم ولن يخطر على بال الدكتورة وردية اسكندر, بطلة رواية (طشاري) للروائية أنعام كجه جي, أن مشاعرها بالهروب من العراق سيعيشها عشرات الآلاف من المسيحيين وهم يهجرون ظلما ً من بلدهم الذي عاشوا فيه آلاف السنين. ربما كل مسيحي مهجر الآن يحمل نفس مشاعر الدكتورة وردية وهي التي لم تحس في يوم من الأيام بأنها غريبة في البلد الذي ولدت وعاشت ولم تمت فيه, في أقصى شماله أو حتى في (درابين) الديوانية وهي تلبس العباءة العراقية السوداء تعالج المريضات وتولدهن في ظروف قاسية.

ربما يحمل نفس المشاعر أيضا ً, مشاعر الخروج الأخير, كل من اليهود في منتصف القرن الفائت والأكراد والأكراد الفيلية وأجيال كثيرة ولدت في هذا البلد ولم تعد اليه. يلتحفون السماء وينامون على الأرض كما عشناها كهاربين من الظلم في حدائق روما نغتسل في حمامات الكنائس وكما فعلها صموئيل شمعون في روايته عراقي في باريس بما تحمل تلك الرواية من سخرية القدر وسخرية الكاتب من أنفه الكبير هوية أغلب العراقيين.

الشعور بالغربة شعور قاس لكن الأقسى منه مشاعر اللاعودة, نعم, اللاعودة هي نهاية المستقيم حيث لا دوائر تلتف على القدر فتعيدنا مرة أخرى بعد لنفس النقطة, أقسى حتى من رحلة فضائية بلا عودة للمريخ, فرحلة المريخ اختيارية أما الهجرة والتهجير فهو قسري كما تقتلع الشجرة من جذورها بلا سابق إنذار.

هل المجتمع العراقي طارد للأقليات؟ سؤال يراودني ما عشت وما شهدت الهجرات الجماعية التي لم تتوقف وربما لن تتوقف. فمنذ تكوين الدولة العراقية الحديثة وحتى قبلها كانت الكيانات الاجتماعية في العراق, وتحديدا ً الكيانات التي تعيش في المدن, تتعرض لغزو الصحراء هجمة بعد هجمة وهجرة بعد هجرة. فهجمات القبائل الصحراوية, تلك التي تحمل الفكر الوهابي ما انفكت بتوالي الهجمات على حاضرتي النجف وكربلاء بشكل متكرر فتخلف وراءها مذابح بلا رحمة ولا وازع أخلاقي.

لقد توقفت تلك الهجمات بشكل تدريجي بعد تكوين الدولة بشكل رسمي ونيل الاستقلال, لكن الفكر الصحراوي ما زال ينمو وينمو في عقول الحضريين هذه المرة. الفكر الصحراوي الذي لا يؤمن بأنصاف الحلول فهو متطرف يمينا ً أو شمالاً, لا يهادن, إقصائي الطبع جاف الملامح كجفاف وجوه أهل الصحراء, أحادي التوجه يكره التنوع والتعدد والإختلاف, سطحي لا يفسح فرصة للتفكير بل الفعل ديدنه مهما كانت العواقب, تحركه روح الرمال المتحركة وهجيرها لتسلب منه روح الحضارة وكل قيمة إنسانية لتبدو عارية أمام أي منظومة أخلاقية فيحاول الإنتقام منها شر إنتقام بوحشية وفي أول فرصة تتاح له. يحمل كل تناقضات الكون في تجلياته ويجنح لأقصى الرومانسية في خياله بعيدا ً عن كل تفكير واقعي, فهو إختزالي وتعميمي في نفس الوقت إذ لا توجد هناك فرصة للتحليل والتأمل وتفكيك الأشياء لفهمها بطريقة أسهل.

أن من الواضح أن تلك العقلية تجذرت وازدهرت في الروح القومية والأيدلوجية الشوفينية, وليس بعيدا ً عن التاريخ, عندما زاوج بني أمية بين كل ما هو عربي مع كل ما هو إسلامي, أما اليوم فقد عاد مرة أخرى بعقلية حزب البعث لنرى عزة الدوري يقود حملة إيمانية ويترأس فصيلا ً مسلحا ً نقشبنديا ً بعد أن كان حزب البعث الد أعداء الدين حينما كان ميشيل عفلق يقول لو تدخل الدين في السياسة سنضربه بيد من حديد. إلا أن الحق أن الأيدلوجية القومية الشوفينية تسلحت بالدين هذه المرة لتضفي قدسية على أفعالها ووجدت ظالتها بدين الصحراء الذي تفجر وجوده بتفجر ينابيع البترول والأموال المستحصلة منه والذي جعل منها بضاعة رائجة. تزاوج عجيب بين كل ما هو قومي شوفيني وما هو ديني تكفيري متطرف وما هو مصلحي مرتبط بسلعة النفط ليكون مزيجا ً حديديا ً ظهرت فاعليته هذه المرة ليست بالغزوات على المدن ولكن بالمؤامرات والانقلابات. لقد طغى ذلك الثالوث على فكر المدينة بعد ما جلبه السياسيون الريفيون الذين رضعوه من اثداء أمهاتهم الآئي لم يألفن فضائل المدينة.

من هنا بدأ تهجير اليهود والاستيلاء على ممتلكاتهم ثم الأكراد والأكراد الفيلية الذين بعثروا في مخيمات على الحدود الإيرانية ولم ولن ينتهي هذا المسلسل بالشبك والتركمان الشيعة التلعفريين ولا بالمسيحيين وهم يسلبون من أعز ممتلكاتهم ولا نعرف من القادم الصابئة أم الإيزيديين أم من ؟ إلا أن الحق يقال أن هجمة اليوم لم تأت من الصحراء بل من الشمال هذه المرة مع داعش ومن تحالف معها من الصحراويين مدّعي الثورة. ولداعش الفضل بأن جعلتنا نعيد إستنطاق معنى الكثير من المصطلحات كالثورة والخلافة والفتوحات وأسلم تسلم لنعيد صياغتها بعدما أعطونا واقع حي عن مصاديق تلك المفاهيم وكنا قبل نقرأها في بطون الكتب فقط.

أن الهجمة من الشمال تنذر بشر كبير ليس لقوتها فهي ليست بتلك القدرة لكن تمددها جاء بسبب الفشل بإدارة الدولة الحديثة وتلاشي الروح الوطنية التي ما انفك الساسة ومثقفي السلطة والمتدينين المتعبين من قضمها بضيق أفقهم. لكن اللافت في الأمر هذه المرة أن الفكر الصحراوي ابتلع المدينة بشكل كامل ليقدمها كنموذج للتخلف من خلال رفض التنوع والتعدد, بالإقصاء والتحجر الذي طغى على كل ما هو جميل ومرن ليحول قطعة الموزائيك الملونة إلى كتلة كونكريتية تخلو من كل لون وليس فيها مسامات.

فبعد أن كان هناك صراع في المدينة بين الحضارة والبداوة كما يراه علي الوردي نشاهد اليوم تراجع كل قيمة حضارية أخلاقية أم فكر وحشي همجي إذ لا يكتفي بالقتل بل يتفنن به ويستمتع بمشاهدته ليغذي روح الإنتقام فيه من كل ما يحمل من قيمة فنية أو تاريخية أو قيمية.

أن فكر الصحراء متجذر في عقولنا عندما نرفض الآخر المختلف عنا وأن كنا نلبس أربطة العنق ونصبغ أحذيتنا, لقد تمكن فكر الصحراء منا للحد الذي جعلنا نقتل ونهجر بعضنا بأسم الطائفية والقومية والدين لنصبح كلنا داعشيون وأن لم نقبل, إبتداءا ً من سياسيينا الذين لم يستنكروا تهجير المسيحيين إلى شيوخ ديننا الذين يرقصون على دماء ضحايا الطائفية إلى شيوخ عشائرنا الذين تحالفوا مع الشيطان بأسم الثورة إلى مثقفينا الذين تركوا أقلامهم وتخندقوا وليس إنتهاءا ً بصغارنا الذين تجندوا ليتحولوا لدواعش أو ميليشيات وما هم إلا وقود لحرب يشتعل سعيرها تأكل الأخضر واليابس.

أيها الأقلي المهجر قسرا ً
أرفع صليبك على ظهرك وأرحل
فالدرب طويل, والحمل ثقيل
أن سياط الجهل لن ترحمك
لا, ولا ريح الهجير من الصحراء
أرحل بعيدا ً واحمل حزنك الأزلي معك
عبئه في قناني المياه وعلب الكوكاكولا
لتشربه الأجيال في زمن الغربة
جيل بعد جيل

 

 

free web counter