|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  14 / 7 / 2016                                 د. خليل الجنابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

في رحاب ثورة ١٤ تموز الخالدة ١٩٥٨

د. خليل الجنابي
(موقع الناس)

عذراً تموز بأن إحتفالاتنا بك لهذا العام لم تكن بالمستوى المطلوب ، فالوطن يتشح الآن بالسواد نتيجة للإرهاب الداعشي وأعوانه والإنفجارات اليومية التي تطال الأبرياء من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ وإشاعة الرعب والخراب في كل زواية من عراقنا الحبيب ، وأخيراً وليس آخراً الإعتداء الغادر في منطقة الكرادة والشعب والمشتل وبلد . ولهذا ألغى عشاقك إحتفالاتهم بيومك المجيد تضامناً مع أبناء شعبنا المنكوب وأهالى الضحايا والجرحى الأبرياء الذين نتمنى لهم الشفاء العاجل . وكلنا أمل بأن نعيد إليك البسمة من جديد ، ونعيد أمجادك وإنجازاتك التي تغنينا بها ولا زلنا منذ ١٤ / تموز / ١٩٥٨

في هذه الأيام وبعد مخاض طويل أخذ جيشنا الباسل يعيد بريقه إليه وبدأ بتحرير بعض أراضينا من الدواعش المجرمين ، وهو يخط الملاحم البطولية وبمساعدة الشرطة الإتحادية والحشد الشعبي والعشائري وقوات البيشمركة الأبطال . ويُعيد إليه إحترام الشعب بعد الهزائم التي أضاع فيها ثلث الوطن ، وسنخبرك قريباً حين تحرير باقي أرضنا المقدسة .

إن المظاهرات المليونية التي كانت تخرج في أيامك الزاهرة من كل طبقات الشعب وفئاته من عمال وفلاحين وطلبة وشباب ومثقفين ، أدباء وفنانين وكتاب ، إلى جانب كل النقابات والجمعيات ، نساءاً ورجالاً . إن هذه الروح الوطنية الوثابة أخذنا نعيدها الآن رغم الصعوبات والإجراءات القمعية التي تواجهنا .. وها نحن مستمرون في ساحات التحرير على كامل تراب الوطن من أجل أن نعيد لتموز بريقه الذي ضاع في غفلة من الزمن .

تموز ... لم يكن في خلدي أن أجعل منك يوماً عابراً وأنا الذي عشقتك الى حد الثمالة وكنت قريباً منك في أحلك الظروف , ودافعت عنك ولا زلت مع كل المخلصين , لكن الهموم كثيرة , منها على الصعيد الشخصي الذي تضرب فيه السنين مضربها مُحمَلة بالأوجاع والعلل التي يقول عنها الطب ( أنها تظهر مع تقادم السنين ) وعندما تتخطي العقد السابع أو الثامن ماذا يبقى لها من فسحة كي تستمر في نشوتها وتستذوق تلك الحلاوة التي لا زالت تستطعمها - حلاوة تموزية - بإمتياز . ومنها أيضاً الهموم العامة تلك التي طبعت حروفها مفصلة لكل مناحي الحياة الإقتصادية والسياسية والثقافية وجعلتها متشابكة من ( الباب الى المحراب !! ) .

تموز ... كان بودي أن أخبرك عن كل شاردة وواردة حدثت منذ إغتيالك أنت ورفاقك الشجعان في دار الإذاعة العراقية في بغداد من قِبل من جاءوا في القطار الأمريكي , لكن ذلك سيطول ولن تسعه مئات المجلدات , والشيئ الذي أود أن أذكره إليك بعُجالة , هو أنك إصبحت خالداً , وتتناقل الأجيال أخبارك جيلاً بعد جيل كما خلَدّت الشعوب الأخرى ثوراتها رغم ما إعتراها من هفوات كالثورة الفرنسية عام 1789 وثورة أُكتوبر الإشتراكية العظمى عام 1917 والثورة المصرية والجزائرية والكوبية وغيرها من ثورات الشعوب التواقة الى الحرية والإستقلال .

لثورة 14 تموز 1958 المجيدة عشاقها وهم كثيرون يغطون كامل تراب وادي الرافدين , وهم أُولائك الفلاحين المعدمين الذين هجروا الأرض من جراء ظلم الإقطاع الجائر وتوجهوا الى المدن وسكنوا بأطرافها في بيوت أشبه بمرابط الحيوانات لا تتوفر فيها أبسط مقومات الحياة الإنسانية , وإذا بثورة تموز تمنحهم الأراضي وتوزع عليهم الدور السكنية وتبني لهم مدناً خاصة بهم ( الثورة والشعلة والعامل وغيرها ) في بغداد والمدن العراقية الأخرى . إن هذا الفلاح لا يمكن أن ينسى أفضال الثورة عليه , وقانون الإصلاح الزراعي الذي شرعته ثورة تموز وضع حداً لبطش الإقطاع والملاكين الكبار وأنصف الفلاحين وأعانهم ليزرعوا الأرض لهم ولعوائلهم ولأبناء شعبهم . كما يرى الآن هو وأبناءه وأحفاده ما يحل بهم من جوع وعسف وهوان .

العمال في ثورتك الأبية تنفسوا الصعداء فمدت يدها السخية لهم وشرّعت قانون العمال الذي كان طفرة نوعية كبيرة لإسترجاع حقوقهم وتحديد العلاقة بينهم وبين أرباب العمل وتثبيت ساعات العمل بـ 8 ساعات الذي كان موجوداً من قبل لكن بشكل صوري وغير مُطبق , وثبتت حقهم في الأجور أيام العطل الرسمية والإجازات المرضية , ومنعت من إستغلال الأطفال دون السن القانونية للعمل , ومساواة المرأة مع الرجل في الأجور , وسمحت لهم بتشكيل نقاباتهم وإتحاداتهم مما جعل منهم قوة فاعلة في المجتمع .

للطلبة والشباب كانت لهم الحضوة الكبيرة من إهتمام ثورة تموز فأُعترفت لهم رسمياً بتشكيل جمعياتهم وإتحاداتهم الطلابية والشبابية (إتحاد الطلبة العام , إتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي) وأصبح لهم صوتاً مسموعاً ومكانة إجتماعية في الداخل والخارج وتبوأ قسم منهم مراكز قيادية في المنظمات الدولية في إتحاد الطلبة العالمي وإتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي , وسعوا من أجل التفوق العلمي والحياة الحرة الكريمة ومد البلد بالكفاءات العلمية والأدبية المتميزة ومتابعة الشؤون الطلابية الأخرى في حصولهم على المساعدات والمنح الدراسية وتحسين أوضاع الأقسام الداخلية وغيرها .

المرأة كانت في مقدمة إهتمامات الثورة , وكان لسن قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 باكورة كفاحها عبر نضالها الطويل من أجل تحررها وإنعتاقها من القانون العشائري المتخلف الذي أراد لها أن تكون حبيسة الجدران ليس لها القدرة على التعليم والعمل وأن يكون موقعها البيت وإنجاب الأطفال وخدمة الرجل ليس غير . فأعتقتها الثورة وأطلقت طاقاتها وقدراتها العالية وبرزت منهن شخصيات معتبرة في شتى المجالات والإختصاصات العلمية والأدبية والثقافية والفنية وفي الرسم والنحت وغيرها , الى جانب إحتلالها مواقع إدارية وسياسية مهمة , وما مَنح الفقيدة الدكتورة ( نزيهة الدليمي ) حقيبة وزارة البلديات إلا دلالة واضحة على إحترام ثورة تموز للمرأة وهي سابقة لم تحدث في كل البلدان العربية آنذاك .

العراق إسترجع سيادته الوطنية بخروجة من حلف بغداد وإنحيازه الى جانب حركات التحرر الوطني العربية والعالمية , فوقف الى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله العادل ضد الغطرسة الإسرائيلية , ووقف الى جانب الثورة الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي وإعترف بمنظمة التحرير الجزائرية وأمدها بالمال والسلاح , وإنحيازه الى جانب الشعوب الأخرى التي تسعى من أجل تحررها وإنعتاقها من القيود الإستعمارية البغيضة , وإرتبط بمعاهدة صداقة وتعاون مع الإتحاد السوفيتي وباقي الدول الإشتراكية الأخرى والتي أثارت حفيضة المستعمرين الذين فاجأتهم الثورة وراحوا من حينها يراهنون على إعادة ( الحصان الهائج الى حضيرته ) وهو ما ورد في الصحافة الإنكليزية في الأيام الأولى لثورة 14 / تموز / 1958.

كما خطى العراق خطوات كبيرة عند تأسيسه شركة النفط الوطنية وسن قانون النفط الذي إسترجع بموجبه 99.5 % من الأراضي غير المستثمرة التي كانت بحوزة الشركات النفطية الإحتكارية العالمية التي فقدت صوابها لفقدانها إمتيازاتها السخية التي منحها إياها الحكم الملكي المباد .

لقد تحرر النقد العراقي من سطوة الجنيه الإسترلينى وأخذ يخطط لوحده سياسته المالية وطريقة تعامله في البيع والشراء .
هذا قيض من فيض مما قدمته يا تموز لأبناء شعبك من الطبقات المسحوقة , وهو ما إعترف به الأعداء قبل الأصدقاء , لذا كما ذكرت لك فإن خلودك أبدي في قلوب ووجدان الناس , وأستميحك عذراً إذا أخبرتك بأن مُحبيك كانت لهم مؤآخذات كثيرة على سياستك المهادنة مع أعداء الثورة وإبعادك للعناصر المخلصة منهم وتقريبك للذين إغتالوك بكل خسة ودناءة في وضح النهار , أتتذكر ما قاله لك شاعرنا الكبير الجواهري وكذلك كل المخلصين عشية محاولة إغتيالك الفاشلة في شارع الرشيد من أنسياسة ( عفا الله عما سلف ) رغم إنسانيتها لكنها للأسف لا تنفع في بعض المواقع , وبكل حسرة وألم أقول لك يا عزيزي ( تموز ) أنك جنيت على نفسك وجنيت أكثر على شعبك وجعلته يدفع الثمن غالي حتى الوقت الحاضر .

الجميع يعلم أنك كنت أنزه النزهاء الذين عرفهم تأريخ العراق , إستشهدت وليس لديك بيتاً غير العراق , لكن هذا في الحسابات السياسية يبدو سراباً , إذ أنك لم تستطع أن تحافظ على المكتسبات غير القليلة وتجعلها دائمية تعود بالخير على العراق وشعبه المكلوم منذ الإطاحة بك والى اليوم . فلا عتب وعتاب بعد اليوم .. حيث لا ينفع فيه الندم . نم قرير العين , ولكنك تركت شعباً ووطناً يعيش أحلك أيامه العجاف , الفقر والمرض وإنعدام الخدمات , السرقة والرشوة , وضياع الأمن والأمان , ولا أريد أن أُعدد أكثر لأنها قائمة طويلة عريضة وضاع فيها ( الحساب ) كما يقولون .. لقد تمزق الوطن بعدك وأصبح عُرضة للضياع , والعناصر التي إغتالتك بالأمس جاءت اليوم بلباس ديني ( داعشي ) وهي تحمل أفكار القرون الوسطى المتخلفة , من شعارات دينية وقومية ومذهبية متخلفة , تبيح فيها قتل الروح الإنسانية وتخرب ما بنته حضارة وادي الرافدين من آثار ونُصب وتماثيل ومراقد دينية وجوامع وحسينيات وكنائس ومعابد أخرى وقبور الأنبياء والأولياء والصالحين بدعوى أنها مخالفة للدين الإسلامي الحنيف , ضاربة عرض الحائط كل المقومات الإنسانية التي كانت تتحلى بها الديانات السماوية السمحاء , فالقطار الأمريكي الذي جاءوا به عشية 8 / شباط الأسود عام 1963 توسعت عرباته الآن ليشمل كل الحاقدين على شعبنا وقواه الوطنية والديمقراطية , من أجل تمزيق ما تبقى من عراقنا الحبيب وتشكيلاته القومية والدينية والمذهبية المتآخية والمتآلفة منذ عقود . آه يا تموز هل كنت تحلم يوماً بأن التتار سيعودون من جديد !! .
 وختاماً يمكنني القول :
تموز ستبقى خالداً رغم ما حدث ويحدث , وأنت أرفع شأناً من الذين إغتالوك , وسنبقى في ذكراك العطرة أبد الآبدين ! .


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter