| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

لطفي حاتم

LutfiHatem@hotmail.com

 

 

 

الأثنين 7/6/ 2010



السلطة والتغيرات الاجتماعية في العراق

لطفي حاتم
 
ليس هناك تشكيلة اجتماعية في الشرق الأوسط عانت من ضياع الأمن السياسي والاجتماعي مثل التشكيلة العراقية ويعود ذلك الى كثرة من العوامل والأسباب منها موقع العراق الجغرافي وثرواته الوطنية ومنها التداخلات الخارجية والنزاعات الداخلية ومنها الروح السجالية للمواطن العراقي وتجذرها في حياته الفكرية ومنها العنف السلطوي المتواصل في منظومة العراق السياسية.

انطلاقاً من تلك الأسباب وغيرها تواجه الباحث كثرة من الأسئلة الهامة أهمها ما هي تأثيرات تلك العوامل على استقرار بنية العراق الاجتماعية / الاقتصادية ؟ وما تأثيرات ذلك على بناء الدولة العراقية وشرعيتها السياسية ؟ .

وأخيرا ما هي مستلزمات بناء دولة عراقية تستند الى موازنة المصالح الاجتماعية / السياسية في التشكيلة العراقية؟.

في محاولة للتقرب من الإشكالات المثارة لابد من معالجتها على اساس منهجية تتلازم والمراحل التاريخية التي مرت بها الدولة العراقية من خلال موضوعات فكرية / سياسية مكثفة .

أولاً: ـ التشكيلة العراقية عشية ظهور الدولة الوطنية.

قبل الحديث عن سلطة الدولة في العراق وتدخلاتها في بناء التشكيلة الاجتماعية لابد لنا من إيراد بعض الملاحظات التي أزعم إنها تشكل مدخلا فكريا يساعد على إيضاح جوهر التبدلات الاقتصادية الاجتماعية وتأثيراتها اللاحقة : ـ
الملاحظة الأولى: ـ
بات معروفاً أن العراق لم يكن مجتمعا موحداً في أواخر الدولة العثمانية بل كان عبارة عن ولايات تابعة للباب العالي تحكم من قبل الولاة العثمانيين وبهذا فان كل ولاية لها تشكيلها الاجتماعي الخاص المرتبط بكثرة من المحددات والتقاليد الاجتماعية والطائفية وبهذا المسار فان ملكية الأرض كانت الشكل الأساسي للملكية التي تمحورت حول الأشكال التالية : ـ
ــ ملكية الدولة للأراضي الأميرية التي يجري توزيعها الى المقربين من الولاة العثمانيين عبر الحيازة أو التملك وما نتج عن ذلك من ظهور فئة ملاكي الأراضي المقربين من سلطات الدولة العثمانية.
ــ ظهور فئة ملاكي الأراضي ترافق و قوى فلاحية بسبب محاولة الولاة العثمانيين توزيع الأراضي الأميرية تحت بند الحيازة على القبائل البدوية لغرض إسكانهم في المناطق الزراعية الامر الذي أفضى الى تغيرات لاحقة في البنية القبلية للعشائر التي جرى توطينها .
ــ الملكية العشائرية للأراضي التي كانت ملكية شبه عامة توزع على الأسر الفلاحية لغرض زراعتها تمشياً وأعراف عشائرية.
ــ ملكية الإبل التي كانت بحوزة القبائل في مناطق العراق الغربية ورغم عدم استقرار تلك القبائل إلا أنها شاركت بفعالية في الإحداث والنزاعات العراقية.(*)

الملاحظة الثانية: ـ
أنتجت أشكال الملكية في العراق كثرة من المراتب والشرائح الاجتماعية منها على سبيل المثال الفئة الحاكمة التي تتمتع بسلطة القرار العسكري والإداري والحائزة على قسم من الأراضي بهدف استثمارها ، ومنها فئة التجار في ولايات العراق الثلاث الموصل ، بغداد والبصرة المترابطة مصالحها مع المؤسسة الإدارية للوالي العثماني . ومنها فئة الوجهاء الذين يستمدون مكانتهم من المؤسسة الدينية والتجارية ناهيك عن وجهاء العشائر والقوى الفلاحية المنتجة .

الملاحظة الثالثة: ـ
إن التقسيم النائج عن الملكية والوجاهة الاجتماعية والمكانة العشائرية أعقبه تقسيم آخر استند الى انتماءات طائفية فنرى هناك الطائفة السنية التي تتشارك والمؤسسة العثمانية الولاء والهيمنة على مؤسسات الولايات العراقية الثلاث . وهناك الطائفة الشيعية التي امتنعت عن الاعتراف بالسلطة العثمانية الامر الذي آخر اندماجهم بالحياة السياسية .
الملاحظة الرابعة: ـ
إن تعدد الانتماءات الطائفية في تشكيلة العراق الاجتماعية ترافق وتعدد قومي من العرب والأكراد والتركمان والكلدو آشوريين وما نتج عن ذلك من تعدد اللغات والأعياد والمناسبات.

إن تعرضنا لأشكال البني والتشكيلات الأهلية في العراق عشية ظهور دولته الوطنية يقودنا الى بعض الاستنتاجات الضرورية منها: ـ
ــ لم يشكل العراق في أواخر الدولة العثمانية ملامح تشكيلة عراقية قابلة للتوحد وذلك بسبب تعدد أشكال المُلكية التقليدية الناتج عن بطئ تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية.
ــ  سيادة الأعراف والتقاليد والفتاوى الدينية في الحياة اليومية وغياب القوانين المشتركة لهذه التشكيلات المختلفة .
ــ أفضى التعدد الطائفي والقومي الى سيادة الانتماءات الطائفية والعرقية والعشائرية الأمر الذي أدى الى إعاقة بناء الهوية الوطنية.

خلاصة القول: ـ إن التشكيلات العراقية التي تتنازعها الولاءات والانتماءات المختلفة والتي تسيرها الأعراف والتقاليد والفتاوى الدينية لا تسمح بالقول بوجود تشكيلية عراقية يوحدها الولاء للوطن العراقي .

ثانياً : ــ التشكيلة العراقية في المرحلة المَلكية .

أن سمات التشكيلات العراقية إن صح التعبير استمرت في التبلور حتى ظهور الدولة العراقية نتيجة لاقتسام العالم بين المراكز الرأسمالية الأوربية لذلك لابد لنا من متابعة سمات التشكيلة العراقية في المرحلة المَلكية ارتباطا بمفصلي السلطة والمُلكية عبر موضوعات محددة منها: ــ
ــ اعتماداً على البنية البيروقراطية الإدارية الموروثة من العهد العثماني جرى بناء الدولة العراقية بعد استبدالها ببنية إدارية / عسكرية إنكليزية ـ هندية تتلازم والمصالح الاقتصادية الاجتماعية للوافد البريطاني.
ــ أفضى الاعتماد على البنية البيروقراطية الإدارية الموروثة الى تكريس الطابع الطائفي للسلطة الناشئة استناداً الى طبيعة الفكر السياسي المتحكم بنهج الطائفتين الشيعية والسنية فبالوقت الذي استندت انتفاضة عام 1920 العراقية الى رؤية شيعية تمثلت بالوحدة الإسلامية تمسكت القوى الجديدة الماسكة بالسلطة بالتوحد القومي وبهذا السياق نرى الملك فيصل الأول رغم رؤيته المتوازنة لطوائف العراق اعتمد في سياسته على شبكة الطواقم القيادية التي كافحت من أجل الوحدة العربية وتحالفت مع الدولة البريطانية بهدف تفكيك الإمبراطورية العثمانية .

إن توزع مكونات العراق الطائفية على مسارين فكريين متعارضين ــ الوحدة القومية والجامعة الإسلامية ـ أثر على تطور العراق اللاحق. بكلام آخر أن تطور الوعي القومي لدى القوى الحاكمة الناتج عن كفاحها القومي أبان الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية تعارض وموضوعة الوحدة الإسلامية لدى القوى الشيعية المتأتية من عوامل كثيرة منها تحدر مراجعها الدينية من قوميات مختلفة ومنها انشغال الفكر السياسي الشيعي بالجوانب الفقهية رغم تأثير الفكر السياسي الغربي على توجهات بعض رموزهم الدينية.

تكثيفاً يمكن القول إن ظهور الدولة العراقية كرس انقساما كبيرا في تشكيلة العراق الاجتماعية تمثل في قيادة أبناء الطائفة السنية لقيادة البنية البيروقراطية / العسكرية للدولة الجديدة بينما انشغلت الأغلبية الشيعية في الحياة الاقتصادية والتجارية. (**)

إن تواصل الانقسام التاريخي المتمثل في امتلاك السلطة لدى الأقلية من جهة والانشغال بالهم التجاري الاقتصادي لدى الأكثرية من جهة أخرى كرسته الإدارة البريطانية من خلال: ـ
1: ـ سعى الوافد البريطاني الى إحداث طبقات اجتماعية جديدة ساندة لتوجهاته السياسية / الاقتصادية وما نتج عن ذلك من ظهور الطبقة الإقطاعية بعد تملك رؤساء العشائر والقوى البيروقراطية المتنفذة للأراضي الأميرية .
ــ أحدث تملك رؤساء العشائر للأراضي الأميرية تغيرا اجتماعيا في بنية العشيرة مهد التربة لنزاعات تستند على المصالح الاجتماعية المتعارضة الامر الذي حول الأعراف العشائرية الى قوانين محمية من السلطة الجديدة .(***)

2: ـ تلازم ظهور الطبقة الإقطاعية في الريف العراقي وظهور الطبقة العاملة التي تركزت في قطاع الخدمات ورغم بطئ تبلور وعيها الطبقي بسبب أصولها الفلاحية إلا أنها ناهضت الوافد الأجنبي وحملت هموماً وطنية وهذا ما أسماه الفكر اليساري بتداخل المهام الوطنية والطبقية .

3: ـ إن بوادر تشكل الحدود الطبقية للتشكيلة العراقية ساهم بتطور الشريحة التجارية واعتبارها فئة من أهم الفئات الاجتماعية في الفترة الملكية لكثرة من الأسباب منها: ـ
ــ ضمت الشريحة التجارية أغلب الطوائف والأديان بالأخص منها طائفتي الإسلام الأساسيتين فضلا عن الطائفة اليهودية حيث توزعت ـ الشريحة التجارية ــ في مختلف المدن الكبرى والمدن المقدسة وبهذا الصدد نشير إلا إن شريحة التجار الشيعة تطورت بشكل ملحوظ اعتماداً على المدن المقدسة والمزارات الدينية . (1)
ــ تلازم رموز الشرائح التجارية مع المراجع الدينية الامر الذي أسبغ صفة طائفية على شرائحها وبهذا فإن أقسام منها شكلت قاعدة اجتماعية للحكم الملكي .
ــ ارتباطاً بسبب تغيرات النهوج السياسية للسلطات العراقية حدثت تبدلات لاحقة على الطبقة التجارية تمثلت بإقصاء شرائح منها بعد مصادرة ملكيتها كما حدث لتجار الطائفة اليهودية .

4: - تطورت الطبقة الوسطى بشكل كبير بعد ظهور الدولة العراقية وذلك بسبب انتشار التعليم وظهور المدارس والكليات فضلاً عن تطور المؤسسات الطبية ولكن تسارع نمو الطبقة الوسطى ارتبط بالمؤسسة العسكرية التي شكلت المؤسسة الأبرز في حياة العراق السياسية وذلك لحزمة من الأسباب يتصدرها اعتبار الجيش الفصيل المنظم والمسلح القادر على إحداث التغيرات الاجتماعية وبهذا المعنى فان روحها الانقلابية شكلت ملاذا لطموح القوى السياسية العراقية .

إن سيادة الطبقة الوسطى في حياة العراق السياسية استند الى هيمنتها الأيديولوجية المرتكزة على تيارين رئيسين اولهما التيار القومي وثانيهما التيار اليساري الامر الذي يدعونا الى التوقف عند هذه الموضوعة من خلال رصد ملامحها العامة : ــ
ــ انقسام الطبقة الوسطى الى تيارين فكريين كبيرين استند الى تعدد شرائحها الاجتماعية حيث اعتمد التيار القومي على الشبكة الإدارية في الجهاز البيروقراطي للدولة العراقية فضلاً عن كثرة من القوى الاجتماعية المقتدرة اقتصاديا وعشائريا وبهذا المسار ورغم علمانية التيار القومي إلا أنه اتسم بلون طائفي بحكم طبيعة قاعدته الاجتماعية المترابطة وسلطة الدولة السياسية . إما التيار اليساري فقد جرى بنائه الفكري والتنظيمي على يد الشرائح الدنيا المتعلمة من الطبقة الوسطى خاصة المعلمين والحرفيين الصغار لهذا فإن التيار اليساري حمل سمات خاصة تمثلت بــــ :ـ
ــ مثل التيار اليساري مكونات العراق الاجتماعية حيث انتظمت في صفوفه القوى الاجتماعية المتضررة من نهج احتكار السلطة فضلا عن أبناء الأقليات القومية والدينية المتطلعة نحو المساواة السياسية والعدالة الاجتماعية .
ــ شكل الشيعة القاعدة الاجتماعية الأساسية للتيار اليساري انطلاقاً من مطالبة الكثير منهم بالعدالة ونبذ سياسة التهميش والإقصاء السياسي.
ــ حاول التيار اليساري رغم شعاراته الأممية بناء هوية عراقية تشكل أساسا وطنياً لبناء وحدة العراق الوطنية.

ثالثاً : ـ التشكيلة العراقية في العهد الجمهوري الأول .

أفضى انقلاب 14 تموز الثوري الى حزمة من التبدلات السياسية / الاجتماعية / الاقتصادية فضلا عن تغيرات سلطة الدولة وتشكيلتها الاجتماعية وبهدف رصد تلك التغيرات نحاول تأطيرها في الموضوعات التالية : ـ
ــ أحدث الانقلاب الثوري تغيرات جوهرية في طبيعة المُلكية في العراق وما نتج عن ذلك من تبدل في مواقع الطبقات الاجتماعية حيث جرى تفتيت المُلكية الإقطاعية للأرض وإعادة توزيعها على الشرائح الفلاحية الفقيرة وبهذا فقد انهارت طبقة الإقطاع الساندة للنظام السياسي السابق ودفعت طبقة الفلاحين الى النشاط الاقتصادي السياسي .
ــ تنامي وتطور مُلكية الدولة الخدمية / الإنتاجية بعد تنظيم علاقات متكافئة مع شركات النفط الأجنبية بهدف الحفاظ على الثروات الوطنية.
ــ مساعدة البرجوازية الوطنية في النهوض والتطور على اساس تشجيع الاستثمار والإعفاءات الكمركية على الاستيراد فضلا عن إقراض المشاريع الوطنية.

إن التطورات الاقتصادية التي أحدثها انقلاب تموز الثوري خلقت قوى اجتماعية جديدة خاصة بعد تحول شرائح من القوى الإقطاعية بسبب تعويض ملكيتها للأرض الى شرائح / تجارية / صناعية ساهمت في التطور الاقتصادي الاجتماعي اللاحق.
ــ تلازمت التغيرات الاقتصادية / السياسية / الاجتماعية ومساعي جدية لبناء شرعية وطنية للسلطة تتخطى الحدود السابقة بهدف إشراك مكونات العراق الطائفية / القومية في الممارسة السياسية.

إن الإجراءات والتغيرات المشار إليه تستمد أهميتها التاريخية بعد وضعها في إطارها العام لغرض استكمال لوحتها السياسية الاجتماعية المتمثلة بـــ: ـ
ــ عدم تمكن الجمهورية الأولى من نقل سلطة الدولة من الأقلية الحاكمة الى الشرعية الوطنية بسبب النزعة العسكرية للطاقم القيادي الحاكم.

ــ لم تستطع التغيرات الطبقية التي أحدثتها السلطة الانقلابية من خلق كتلة اجتماعية / اقتصادية تشكل مرجعية وطنية وبهذا فان الطبقة البرجوازية الناهضة وفئاتها الصناعية لم تستطع التحول الى طبقة اجتماعية قائدة بسبب بنيتها الطائفية . (2)

ــ أطلقت السلطة الجديدة نزاعا عراقيا كامنا بين التيارات السياسية على قاعدة أيديولوجية تمحورت حول مشروعي الدولة الوطنية الديمقراطية ومشروع دولة الوحدة العربية الامر الذي فتح الأبواب أمام تنامي ضاهرة العنف في الحياة السياسية .

رابعاً : ـ التشكيلة العراقية في العهد الجمهوري الثاني من 1963 ــ الى 2003 ( **** )

أدى انهيار الجمهورية الأولى وقطع الطريق أمام بناء موازنة سياسية ــ اجتماعية لمكونات التشكيلة العراقية الى نتائج سياسية بالغة الخطورة على تطور العراق اللاحق أهمها: ـ
ــ  تنامي النزعة الانقلابية الهادفة الى مواصلة احتكار السلطة بيد الأقلية المناهضة لبناء الدولة على أسس الشرعية الوطنية .
ــ  مساعي القوى الانقلابية الى توتير النزعة الطائفية بهدف بناء تكتل اجتماعي ساند لسلطتها السياسية . (3)
ــ إعاقة تطور البرجوازية الوطنية وخنق مشروعها العراقي من خلال ملكية الدولة للمؤسسات الإنتاجية والخدمية وما نتج عن ذلك من بناء الأسس المادية لتطور رأسمالية الدولة البيروقراطية .

إن المؤشرات التي جرى التعرض لها والتي وسمت الطور الأول من الجمهورية الثانية تعرضت الى تعديلات جوهرية لاحقة أدت الى انهيار الدولة العراقية وتشكيلتها الاجتماعية بعد الاحتلال الامريكي للعراق .
لغرض فحص سمات الطور اللاحق من الجمهورية الثانية المتسم بقيادة حزب البعث الاشتراكي لابد من إكسابه بملاحظات ملموسة متمثلة بــ: ـــ
ــ اعتماد سلطة البعث على موضوعتين فكريتين الأولى منهما نجدها بــموضوعة (إنقاذ الأمة ) التي شكلت منطلقا لسياسة الدولة الخارجية وموضوعة ( الاقتدار القطري ) ذي الألوان اليسارية الهادفة الى صياغة شرعية وطنية لنظام الحكم ، وبقدر ما متعلق الامر بالقاعدة الاجتماعية الحاملة لهذه الأفكار فقد توزعت على شرائح مختلفة من الطبقات الاجتماعية ولكن اهتمام السلطة تركز على الفئات الوسطى باعتبارها المنبع الاجتماعي الساند لسلطة الحزب الحاكم .
ــ وبهذا فقد ترافق الاهتمام بالطبقة الوسطى بعاملين احدهما تمثل بالفورة النفطية وما نتج عنها من تنامي ملكية الدولة وزيادة قدرتها على تطوير مؤسساتها المدنية والعسكرية . والعامل الثاني تجسد برفد مؤسسات الدولة بقوى هامشية من المدن الحاكمة على أسس عشائرية.
ــ أفضت التطورات المشار إليها الى نمو الفئات البيروقراطية والطفيلية التي تشابكت مصالحها مع أجهزة السلطة السياسية متزامنة مع تأجيج النزعة البوليسية ـ العسكرية المحاطة بروح هجومية.
إن توطد الروح الهجومية لدى السلطة السياسية غذتها عوامل خارجية أضافية أهمها الثورة الإيرانية ومشروعها الإسلامي الذي انعكس على العراق بتنامي وتطور الإسلام السياسي الذي اشر الى انخراط المواطنين الشيعة بالعمل السياسي متحدين بذلك حكم الأقلية الانقلابية .
ــ ساهمت الحرب العراقية الإيرانية وتطوراتها في إحداث تغيرات جديدة على صعيد القاعدة الطبقية للحكم بعد استخدام العنف السلطوي ضد شريحة التجار الشيعة ذات الأصول العربية وإبعادها خارج الحدود الوطنية .
ــ لقد جاء التعديل الطبقي الأبرز في المرحلة المشار إليها من ظهور أثرياء الحرب الذين سارعوا الى شراء أغلبية المشاريع الإنتاجية الخدمية التي اضطرت الدولة للتخلي عنها لمواجهة متطلبات الحرب حيث شكلت هذه الشريحة الجديدة أداة ضامنة لتلاحم العشائر الحاكمة.

لقد أشرت التطورات السياسية / الاجتماعية / الاقتصادية المشار إليها الى كثرة من النتائج الكارثية على مستقبل العراق وأمنه السياسي منها : ـ
1 : ـ ساهمت التعديلات الطبقية ــ تهجير الأكراد الفيلية وطرد الشيعة العرب ــ الى تعزيز السمة الطائفية لقاعدة الحكم الاجتماعية وما نتج عن ذلك من اعتماد قيادة السلطة على قاعدة طبقية عربية محاطة بروح شوفينية .
2 : ــ أفضى تدخل سلطة الدولة في التطورات الاجتماعية وتعديل مكوناتها الطبقية الى وضع الشرعية الانقلابية في أزمة وطنية حادة.

خامساً : ـ التشكيلة العراقية بعد انهيار الدولة العراقية .

لم تشهد العلاقات الدولية ومنذ الحرب العالمية الثانية تدخلا" عسكريا" أنتج هذا القدر الهائل من الخراب الاقتصادي والتفكك الاجتماعي لدولة وطنية وبهذا المسار فقد أحدث التدخل العسكري الأمريكي في العراق خرابا" شاملا" لبنى الدولة العراقية وتشكيلتها الاجتماعية يمكن معاينته بمستويات عدة أهمها : ــ

أ : ــ انهيار الدولة وتفكك قاعدتها الاجتماعية .

ــ بهدف فك التشابك والتداخل بين الأبنية العسكرية/الأمنية /الحزبية في نظام الدولة الاستبدادية أقدمت العسكرية الأمريكية على تحطيم آلة الدولة الديكتاتورية حيث شمل هذا التدمير جل أدوات الضبط الاجتماعي ومؤسسات النظام الأمنية / المخابراتية, التشكيلات العسكرية , الميليشيا المسلحة , الأجهزة الإدارية /البيروقراطية .
ــ تفكك البنية السياسية والاجتماعية للحزب الحاكم حيث شمل الإنهيار الروافد الأساسية التي شكلت القاعدة الاجتماعية لحزب البعث المتشكله في أجهزة الدولة العسكرية /البيروقراطية ، فضلا" عن تبعثر القوى الحزبية والمنظمات المهنية والتجمعات الشعبية .
ــ تعرض منتسبي الأجهزة البيروقراطية / العسكرية للدولة للبطالة والضياع بسبب انهيار مؤسسات الدولة العراقية.
ــ تعرض أعداد كبيرة من العمال والمستخدمين العاملين في قطاع الدولة الاقتصادي/الخدمي الى البطالة والتهميش بعد تدمير الملكية العامة الدولة وما أفرزه ذلك التدمير من اعتماد الكثير من الأسر العراقية على المساعدات المالية والعينية.
ــ تفكك شرائح الطبقة الوسطى خاصة العاملة منها في قطاع الخدمات بسبب التباطؤ عمليات الإعمار.

ب : ــ القوى والشرائح الاجتماعية الناهضة .

إن التغيرات الاقتصادية / السياسية الحاصلة في التشكيلة العراقية بعد الاحتلال الامريكي سمحت بظهور قوى اقتصادية جديدة وأنتجت كثرة من الشرائح الاجتماعية الجديدة التي باتت تتحكم بالمشهد الاجتماعي / الاقتصادي العراقي والتي يمكن معاينتها من خلال المحددات التالية : ـ
ــ أصبحت الشركات الأمريكية والدولية قوى اقتصادية فاعلة في توجهات الاقتصاد العراقي بعد حصولها على مواقع رئيسية في السوق العراقية.
ــ البرجوازية العربية المتحالفة مع الاحتكارات الدولية والمتمثلة في شركات عربية إماراتية , سعودية, مصرية ، أردنية وبشراكة أمريكية فضلا عن انفتاح السوق العراقية على المؤسسات الاقتصادية التركية ،السورية والإيرانية.
ــ القاعدة الاجتماعية/الاقتصادية للدولة الاستبدادية بعد إعادة بناء نفسها بهدف الاستفادة من الوقائع الاقتصادية الجديدة المتمثلة بانهيار ملكية الدولة الاقتصادية والانفتاح على التجارة الدولية.
ــ فئة التكنوقرط التي تسعى الدولة الجديدة الى توظيف مهاراتها التقنية/ الادارية لدى المؤسسات والشركات الوطنية /الدولية الناهضة في العراق.
ــ فئات كمبورادورية بأقسامها التقليدية المرتكزة على تصدير واستيراد السلع التراثية المترابطة والمزارات الدينية و الشرائح الجديدة الناهضة المترابطة والشركات الدولية عبر عقود الوكالة التجارية.
ــ الشريحة العقارية المستندة الى قطاعي الخدمات والسياحة المزدهرين في ظل إعادة الأعمار وانتعاش المراكز الدينية .
ــ الشرائح المالية: ـ التي تتوزع على قطاعات مصرفية وبنوك عربية مترابطة مع قوى رأس المال واحتكاراته الدولية.
ــ فئات اجتماعية ناهضة في إقليم كردستان تنمو وتتطور إستنادأ الى أشكال مختلفة من التعويضات المالية والعينية ــ دور سكنية، قطع أراضي فضلاً عن القوى المتضررة من حروب الديكتاتورية الامر الذي يؤهلها للتحول لاحقا الى شرائح طبقية بدعم ومساندة الأحزاب الحاكمة .

إن تحديدنا لملامح نهوض قوى طبقية جديدة في تشكيلة العراق الاجتماعية تلازمت وظهور فئات اجتماعية استمدت ثروتها من المرحلة الانتقالية التي تعيشها الدولة العراقية تجسدت بكثرة من المؤشرات العامة أهمها: ـ
أ:ـ التجاوز على مؤسسات الدولة الإنتاجية / الخدمية ، فضلاً عن حيازة الأراضي والعقارات الحكومية وتملكها بعقود صورية .
ب:ـ صرف الأموال والرواتب من قبل بعض المؤسسات الى جهات افتراضية وتعيينات وهمية في بعض أجهزة الدولة.
ج:ـ تخصيص مبالغ طائلة لعقود ارتجالية الأمر الذي تسبب باختفاء الملايين من الدولارات، فضلاً عن اختفاء ملايين أخرى في ظل سلطة الاحتلال ومجلس الحكم.
هـ:ـ تبذير المعونات الدولية المخصصة للأعمار على قضايا أمنية واستنزافها من خلال رواتب أفراد الحماية الأمنية الوافدة من بلدان عدة.

ج : ـ التغيرات السياسية في تشكيلة العراق السياسية .

أدى تفكك منظومة العراق السياسية ــ الدولة،الحزب الحاكم ومنظماته الشعبية ــ الى نهوض أحزاب سياسية جديدة باتت تؤثر على الحياة السياسية وتلعب أدورا مختلفة وتمتاز الأحزاب الناهضة في حياة العراق السياسية خاصة الإسلامية منها بكثرة من السمات الجديدة نراها في المؤشرات التالية : ــ
ــ بهدف بناء و توسيع قاعدتها الاجتماعية تسعى الأحزاب الجديدة الى كسب ولاء وتأييد المؤسسة العشائرية وبهذا السياق نلاحظ تزاوج عنصرين أساسيين عند بعض الأحزاب السياسية يتمثلان باندماج المكون العشائري مع المكون الطائفي .

إن الاندماج المشار إليه تزامن ونمو تشكيل طبقي جديد يستند الى حماية المؤسسات الحزبية المتنفذة الأمر الذي يؤشر مستقبلاً الى تحول الأحزاب الى قوى سياسية مدافعة عن شرائح طبقية ناهضة .
ــ قاد اعتماد الحياة الحزبية على المؤسسة العشائرية الى إحياء تقاليد المجتمع الأهلي وجعلها ـ التقاليد ـ أساسا لحل كثرة من النزاعات الاجتماعية والشخصية.
ــ تفكك القاعدة الاجتماعية للتيارات العلمانية الليبرالية ـ القومية / اليسارية فالتيار الليبرالي وبسبب ضعف قاعدته الاجتماعية المتمثلة بالبرجوازية المتوسطة وأجزاء من الطبقة الوسطى لم يعد فاعلاً في الحياة السياسية العراقية .
ــ لكونها نشأت وتطورت بفعل ترابطها مع السلطة الاستبدادية وطاقمها البيروقراطي فقد تفككت قوى السلطة الاجتماعية وما نتج عن ذلك من هجرة أجزاء منها الى دول الجوار فاقدة بذلك تأثيراتها السياسية المباشرة ، فضلاً عن احتفاظ التيار القومي العربي بإرثه الاستبدادي الامر الذي يعيق تطور فعاليته السياسية .
ــ في حال تعرضنا لمواقع اليسار الاشتراكي نجابه بكثرة من الإشكالات الفكرية / السياسية التي تحد من قدراته وفعاليته السياسية، والتي أجدها بالعناوين التالية : ـ
ــ انهيار نموذج الدولة الاشتراكية وما أنتجه من تبعثر العدة الفكرية /السياسية/ الاقتصادية الساندة لكفاح الأحزاب اليسارية .
ــ تفكك القاعدة الاجتماعية الساندة لحركة اليسار الاشتراكي بسبب التهميش والبطالة فضلاً عن انتقال أقسام من الشغيلة وأجزاء من الطبقة الوسطى الى الأحزاب الإسلامية .

تكثيفاً للآراء والأفكار الناظمة للبحث لابد من إيراد بعض الاستنتاجات التي أجدها ضرورية : ـ

أولاً: ـ لم تشهد التشكيلة الاجتماعية العراقية استقرارا في بنائها الطبقي بل تعرضت الى التحول والتغير تبعا لسياسة السلطات الحاكمة الامر الذي أكد الجانب التدميري لمقولة أن ( السياسية تعلو على الاقتصاد ) .
ثانياً: ـ أفضت هشاشة التشكيلة العراقية وتبدلات بنيتها الطبقية الى تحكم المستوى الأيديولوجي وروحه الراديكالية في حياة العراق السياسية .
ثالثاً: ـ إعادة المصالحة بين الدولة ومكوناتها الاجتماعية يشترط إرسائها ــ الدولة ــ على أسس الشرعية الديمقراطية وحقوق المواطنة الدستورية .

الهوامش : ـ
(*) لقد عالج الباحث حنا بطاطو هذه الفترة بالتفصيل انظر كتابه الموسوم (الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية الكتاب الأول مؤسسة الأبحاث العربية 1990.
(**) منحت الدولة الجديدة الجنسية العراقية لحملة الوثائق العثمانية مشرعة بذلك قواعد قانونية ساهمت في إقصاء أغلبية السكان العراقيين من الشيعة من حقوق المواطنة.
(***) أجاز قانون تسوية الأراضي الصادر عام 1933 وتعديلاته ( قانون اللزمة ) 1952 انتقال الأراضي (الميري) وأراضي الدولة الى حيازة شيوخ العشائر.
(1) احتل التجار الشيعة الموقع الأول في تجارة بغداد بعد هجرة اليهود عام 1947. انظر حنا بطاطو الطبقات الاجتماعية الحركات الثورية . الكتاب الأول مؤسسة الأبحاث العربية 1990 ص 69 .
(2) على الرغم من محاولات السلطة الجديدة من إعادة الفعالية الاقتصادية / السياسية للبرجوازية الوطنية ومحاولة جعلها طبقة ذات انتشار وطني إلا أن هذه الطبقة وخاصة شريحتها الصناعية ظلت محصورة بيد الأقلية السنية .
انظر: ـ حنا بطاطو مصدر سابق ص 312 .
(****) أن التحديد التاريخي لحدود الجمهورية الثانية 1963 ـــ 2003 يستمد مشروعيته من معطيات كثيرة منها: ـ
رسخت الجمهورية الثانية بتعاقب كتلها السياسية الحاكمة حكم الأقلية المتجسدة أنذلك في ما أسميته ( بالمدن الحاكمة ) .ومنها ان الانقلابات العسكرية التي حدثت بعد ثورة تموز لم تكن سوى تجليات لنزاعات حزبية / عشائرية بين فصائل التحالف الحاكم . وأخرها أن مآل تطور الدولة العراقية اللاحق أفضى إلى سيادة العشيرة الواحدة وتحكمها في توجهات النظام السياسي ومفاصل الدولة العراقية.
(3) شهدت فترة حكم الرئيس الراحل عبد السلام محمد عارف محاولات جادة لإضفاء صفحة الطائفية أبان سنوات 1963 ـ 1968.
أنظر: ـ غسان سلامة ،المجتمع المدني والدولة في المشرق العربي ، مركز دراسات عربية ص 92 .





 


 

free web counter