| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الأربعاء 11/8/ 2010

 

من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة
ترك الوالد طيب الله ثراه مجموعة من المخطوطات النثرية والشعرية. و (ذكريات معلم) هي إحدى مخطوطاته التي يتناول فيها ذكرياته خلال عمله الوظيفي في التعليم. القسم الأول من هذه الذكريات (معلم في القرية) يروي فيه الوالد تجربته في العمل التعليمي في الريف منذ تعيينه معلما في تشرين الأول عام 1934، حيث يتناول بأسلوب شيق عادات وتقاليد الفلاحين، ويسجل بعض الأحداث التاريخية وتأثيراتها على حياة القرويين وكيف يتم التفاعل معها من قبل القرويين، ويتطرق إلى مواقف ودور الشخصيات الاجتماعية والسياسية الحاكمة وكيفية توزيع الأدوار بينهم.
و (معلم في القرية) تتناول بأسلوب نقدي الطائفية وتأثيراتها السلبية على الوحدة الوطنية، وكيف يستغلها السياسيون المتنفذون في الحكم من أجل مصالحهم الضيقة. كما يتحدث ويصف بؤس الفلاحين، واستغلال شيوخهم، وتدهور التعليم بسبب خضوعه للتيارات السياسية.
يتناول في ذكرياته بعض الشخصيات القريبة منه والبعيدة بسلبياتها وايجابياتها. ربما هذا التناول يزعج ويثر غضب البعض، لكنها تبقى انطباعات ووجهات نظر شخص عاش قريبا منهم وتعرف عليهم مباشرة أو سماعاً. لذلك يتجنب والدي ذكر بعض الأسماء الصريحة في سرد ذكرياته، وأحياناً يشير إلى الأسماء في الهوامش مع أعطاء نبذة مختصرة عن الشخص المذكور. وفي ملاحظاته عن مخطوطته أبدى تردد في تثبيت الأسماء الصريحة. وهو محق في ذلك، فقد مرّ على تلك الأحداث عقود، ولم يبق من هؤلاء إلا أبنائهم وأحفادهم، ونشر أسمائهم الصريحة وخاصة إذا ارتبطت بمواقف مسيئة ومعيبة أو منافية للأخلاق، تثير حفيظة أسرهم حتى وان كانوا متأكدين من صحة المعلومات المثارة. لذلك تجنبت أنا أيضاً ذكر بعض الأسماء الصريحة في بعض الأماكن وأشرت لها بالحروف الأولى من الاسم، فأرجو من القارئ العزيز معذرتي لذلك.
كانت للظروف السياسية التي عايشها الوالد سببا في انقطاعه أحيانا عن مواصلة كتابته لهذه الذكريات مما أدى هذا في بعض الأحيان إلى تكراره لروايته لبعض الأحداث والهوامش، لذلك حاولت أن أحذف المكرر منها إلا ما فاتني أو سهوت عنه. ويشير الوالد إلى ظروفه الخاصة التي كانت السبب لفقدان الكثير مما سجله أو أحتفظ به، من صور وكتابات وشواهد مهمة، من أجل هذه الذكريات.
في (معلم في القرية) يصف الوالد وصفا جميلا ودقيقا للمناطق الريفية التي عمل فيها أو زارها، كما يصف الناس وطباعهم. وهو لا ينسى أن يتحدث عن مناهج تدريس العربية وينتقدها نقداً علمياً نابع من تجربته وخبرته، ويشخص بدقة مكامن الخلل في هذه المناهج، حيث يكتب "أين وكيف يستطيع صبي في سن الحادية عشرة والثانية عشرة أن يهضم موضوعاً بقلم المنفلوطي، بأسلوبه المسجوع، وألفاظه المزوقة. وأية روح تنمو في الطفل وهو يقرأ الحلاق الثرثار وذمّه السياسة والسياسيين، ويلعن الناس أجمعين؟!"
كما لا ينسى أن يشخص الصعوبات التي واجهها في تدريس العربية أحيانا فيكتب: "أني كأي متعلم على الطريقة القديمة، لم أستطع التخلص تماماً من التعقيد، وصعوبة التفهيم في كثير من الأحيان" . وبناء على تجربته الشخصية يضع الحلول والمقترحات لتطوير المناهج وأصول تدريس العربية.
وبالرغم مما أصابه في مسيرته التعليمية من غبن وإجحاف ومعاناة قاسية، من فصل وسحب يد وتوقف لترقيته ومضايقاته من بعض زملائه والمفتشين وإدارات المعارف وإصدار أوامر نقله أو إعادة تعينه في مناطق نائية لا تتناسب وخدمته الطويلة في التعليم، نجده رغم كل هذا يؤكد وبدون جزع أو ندم عن حبه وإخلاصه اللامتناهي للتعليم واختياره لهذه المهنة السامية بوعي، مفضلها على وعد من عميد الأسرة (العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الشبيبي) لتعيينه قاضياً. فهو يؤكد رسالة المعلم ويلتزم بها كما جاء في موضوعه المعنون "المعلم": (انه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هاذين العدوين في حلفهم البغيض...... المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها ...). والمصيبة التي عايشها المعلمون في معظم العهود كما عايشها والدي، هي أن الطبقة المتحكمة وأعوانها من أقطاعيين وملاكين ومستبدين يتسترون بالدين والتعصب الطائفي والقومي، هؤلاء جميعهم ليس لهم مصلحة حقيقية في نشر الوعي ومكافحة الأمية والجهل والمرض لأن قوتهم وديمومتهم تعتمد أساساً على مدى انتشار الجهل والخرافات والفقر والمرض.
ويتحدث والدي عن معارفه، من أصدقاء محبين، أو حتى الكارهين والحاسدين، بروح ايجابية محاولاً أن يدخل أعماق تفكيرهم ويفهم دوافع مواقفهم وكأنه طبيب نفساني يضع أمامه معالجتهم وتوجيههم بعيداً عن الحقد والثأر.
وفي تسجيله لتداعيات الحرب العالمية الثانية وما تركته من بلبلة فكرية بين أبناء الشعب العراقي، نجده يستعرض وباختصار ما يدور بين مختلف أبناء الشعب من أفكار وتحليلات وتوقعات وآمال خرقاء وتكهنات متناقضة. فيسجل ما يدور على السن الناس البسطاء والمثقفين الوطنيين، والمعممين وعملاء الإنكليز والألمان ويصور كل هذه التناقضات في أحاديث وحوارات شيقة عايشها أو سمعها. وما ينقله من رأي عن أحد المعممين يعكس طريقة التفكير الأنانية والضيقة لبعض هؤلاء دون أن يفكروا بدمار الحرب والمأساة التي تخلفها، ولا يهم هذا المعمم من كل ما يجري سوى ما يصله من حقوق شرعية: ( .... أجاب معمم آخر وكأنه يلقي خطاباً: "شيخنا أنتظر، ريثما يتحرر القفقاس؟ سترى عند ذاك كم هي الحقوق الشرعية التي ستصل إلينا؟!")
وجدت أحياناً إمكانية إلحاق الهوامش والحواشي والتواريخ التي دونها والدي في أسفل صفحات مخطوطته وحصره بين  قوسين [ ] وتثبيته مع تسلسل روايته، وذلك لتجنب كثرة الهوامش إضافة إلى إني وجدتها مفيدة أكثر لمعنى روايته، وقد أشار والدي في إحدى الحواشي إلى رغبته هذه.
سأنشر من الآن جميع ما كتبه الوالد تحت عنوان (معلم في القرية) في حلقات متسلسلة، وأرجو من جميع الأصدقاء والقراء الكتابة لي في إبداء ملاحظاتهم إن وجدت وسأكون شاكرا.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏5‏ آب‏ 2010
Alshibiby45@hotmail.com 
 

معلم في القرية
(3)

تَبّت يدا أبي لهب
كنت في الصف الأول أدرب تلاميذي في درس الدين على تلاوة سورة "تبّت"، هم يتلقونها بالطبع شفاهاً، لأنهم مازالوا غير قادرين على القراءة مباشرة، ولم يكملوا الحروف في درس العربية. وفجأة جاءني الفراش معلناً أن المدير يطلبك.
تركت الصف، ودون استغراب لهذا الطلب، فقد جرت عادة معلمي القرى إنهم لا يلتزمون بالضبط التام، لقلة عدد طلابهم، أو لأنهم يوفون الواجب حقه فما تهم دقائق معدودة من أجل أمر عارض، أو استراحة من جهد الصياح خصوصاً مع الصغار من صف الأول والثاني. وأخيراً ربما لشعورهم بالاستقلال ولبعدهم عن رقابة المسؤولين، واطمئنان بعضهم إلى بعض، وهو اطمئنان لا محل له.
دخلت عليه باسماً وسألته: هَه ماذا يا أخي؟
لكنه ردّ عليّ بنبرة صوت الآمر.
- سمعتك تدرس خطأ. أصلح خطأك!
- كيف؟
- أنت تدرس "تَبت يدا أبي لهبٍ وتبْ" بالتسكين. والصحيح "وتبَّ".
ابتسمت ثانية لملاحظته. وقلت:
- أنت مصيب. إنها كذلك لمن أراد أن يتهجى الكلمة أو يمزج هذه الآية بما بعدها. أما أنا فأسكنها لأنها نهاية آية، حفظاً للطلاقة والسبك الذي يعتمد عليها أسلوب قراءة القرآن. ألا ترى أني لو ألتزمت تحريك نهاية كل كلمة لأختل السبك. فالكلمة الأخيرة من هذه الآية مفتوحة مشددة، بينما الثانية مفتوحة مخففة، أما الثالثة فمكسورة مخففة وهكذا جاءت نهاية كل آية تختلف عن سابقتها بالوزن والحركة.
- ولكني أوكد عليك الالتزام بما أقول لك. تسمع!
قلت: أنا لا أعمل إلا بمقتضى فهمي لا فهمك. تسمع!
وعدت إلى الصف، فأقبل الفراش يستدعيني ثانية، فرفضت. وجاء أحد المعلمين يلتمس أن أحضر. فحضرت، فوجدت جميع المعلمين قد تركوا صفوفهم بطلب منه، أردت أن أجلس حيث جلسوا، فصاح.
- لا تجلس تعال هنا.
فقلت: أنت تمزح أم جاد، هل أنا تلميذك أو أبنك أم أنت محقق وأنا مجرم؟
صاح، يا جماعة أحكموا، شوفو بالجزو، هذه الكلمة "تبَّ" بحركة أم ساكنة؟
أجاب الجميع وأنا منهم محركة.
- بس ليش تسكنّه؟
أوضحت رأيي مرة ثانية أمام المعلمين. وسألتهم بعد الإيضاح.
- هل هذه مشكلة تستوجب هذا الموقف الجاف مع زميل له كرامته، إني أمضي برأيي وأكتب أنت إلى الجهة المعنية، وخرجت إلى صفي.
وإذا به يدخل عليّ في الصف، وبعد مقدمة للتلاميذ حول ما قرأوا قال:- والآن، أقرو مثلما اقره آني "تبتْ يدا أبي لهب وتبَّ".
صاح التلاميذ بصوت واحد "تبتْ يدا أبي لهب وتبْ". نهرهم بغضب:
- اقرو مثلي.
أجابوا بصوت واحد:
- لا، نقره مثل ما يقره المعلم "علي"
فأنقض علي بوحشية وجذبني من تلابيبي ودفعني إلى الجدار! قائلاً:
- عجمي! ابن عجمي!
فبادرته بلطمه حادة على خده. وهب التلاميذ من مقاعدهم. ولو لم يسارع المعلمون للحيلولة بيني وبينه لهاجمه الطلاب.
تألمت كثيراً لهذا الأسلوب المزري، فأسرعت لمغادرة المدرسة واستأجرت زورقاً لأصل الناحية، وأتصلُ بمدير المعارف فأشرح له الوضع.
لكن ابن رئيس القرية "الحاج داخل" أسرع إلى والده. فهب الرجل مسرعاً وأمر بعض رجاله أن يمنعوا صاحب الزورق من التحرك.
أعادني إلى المدرسة، وأنا آسف أن يحدث ما حدث من هذا المدير الأهوج فيتدخل بيننا من يجب أن يستفيد منا كشباب مثقف. وقام الرجل "الحاج داخل" بالصلح بيننا، وكان ذكياً ولبقاً. وأعلن رجل آخر يدعى "سيد إدريس" وهو علوي في سن شيخوخة جليل القدر، بأن الغداء عنده لترسيخ الصلح.
هناك فتحت الموضوع ثانية. أوضحت إن أسلوب التحدي والاستهتار بكرامة المعلم من قبل زميله المدير يوصل إلى أسوء العواقب. وإذا كان حضرة المدير يتفوق عليّ بشهادة التخرج فلن يتفوق عليّ بأشياء كثيرة. واقترحت أن ندون رأيه ورأيي على ورقة نستفتي بالموضوع، العالم الديني السيد رضا الهندي إمام ناحية الفيصلية، ومدير ناحيتها "أحمد السالم" [هو من أهل البصرة. تعرفت إليه حيث كان على درجة عالية من الإطلاع. إنه يجيد العربية نحوا ولغة، وفن الرسم والعزف على الكمان، ويجيد اللغة التركية والفارسية، وكان يحفظ الكثير من الشعر، وخصوصاً للمتنبي. كنا نجتمع بديوانه فنقضي ساعات لذيذة نتجاذب الأحاديث وقراءة الأشعار، وما يتعلق بها من نقد، أو المناسبة التي قيل فيها. أو نتسلى بتقديم تهمة لأحدنا، فيقيم عليه الدعوى، يكون هو الحاكم، يستدعي الشهود، وتبدأ المرافعة، ويصدر الحكم على من تثبت الدعوى ضده وتكون الغرامة أكلة فاكهة أو حلوى.
أحيل على التقاعد بسبب ما حدث أثناء تشييع جنازة السيد نور الياسري في 4/5/ 1936 ونقل من الفيصلية، ثم فصل من الوظيفة. وقتل في البصرة .....، قيل أنه ألتحق بأبناء الشيخ خزعل أمير المحمرة وخلال مصادمة جرت بينهم وبين خصومهم أصيب ومات.]
هكذا تم الاتفاق وأرسلنا الاستفسار مع توضيح لوجهة نظري. وجاء الجواب مؤيداً وجهة نظري. فهل يا ترى يلتزم صاحبنا ما تقتضيه حقوق الزمالة والأدب والنظام؟

المتنبي وموسليني
سهرة رائعة تمت هذه الليلة. دعوة خاصة من أجلي بسبب ما حدث أمس أقامها مدير المدرسة في كوخ زميلنا البصري.
عزف طباخنا "ربيع" على الكمان، وصاحبه البصري على العود. واشتركنا جميعاً بأغنية، والشراب يتوسط المائدة. يتخلل كل ذلك ما يلقى من نكات لإثارة المعلم فاضل، هذا المغرم الولهان، وليس له حبيب معلوم، وسره في غرامه مفضوح مكشوف. يعلن عنه لكل أحد، وفي أية مناسبة، متشوق لكل أنثى، حتى أنه يفقد إتزانه، ويضيع طريقه، ويرتبك في مشيته، لمجرد ذكر امرأة، وسماع صوت امرأة.
وأجمل فصل تم في هذه السهرة ما تبادله الطباخ "ربيع" والفراش "فليح"، أنشد فليح أبياتاً للمتنبي في هجاء كافور الإخشيدي. فثار ثائر الطباخ، ومثل دور الغاضب بجدارة:
- منو المتنبي؟ أنت، تعرف أبوه تعرف عشيرته؟ ولك المتنبي مجدّي وعليجته قديفة [العليجة: عامية قروية تعني المخلاة والقديفة قماش حريري مخملي، والمثل يساق عن الشخص الفقير الحال ويحاول الظهور بمظهر الغني من خلال مظهره فقط]، خم عكة ومكة يمدح هذا ويشتم ذاك. ما عنده غير لسانه القذر، ونظم بالكرم والجود، لكن ماكو بالدنية أكثر منه بخل. وتغنه وفاخر بشجاعته، ولمن طلعوله جماعة فاتك ألأسدي شمع الخيط. وعبده صاح بوجهه، وين؟!:

"الخيل والليل والبيداء تعرفني        والسيف والرمح والقرطاس والقلم"

رجع المجدّي لكن وسدّو المنيه قبل ما يسل سيفه!
قال فليح: وهسه شتگول؟ وين صارت دولتكم وملككم "النجاشي" خلاكم "موسليني" غنم بلا راعي.
قال ربيع: وانت شنو ربحك بالقضية؟ وعليش فرحان؟ موسليني لو يحصل إلَه أقوه منه جان شفت شيصير بحاله. ولك شوف فليح، لابد ما يجي يوم وتسمع بنهاية موسليني.
وصال على فليح وحمله بين يديه وهو يصيح:
- خلص نفسك هسه، أگضيه وياك فد مرّه.
كان هذا الفصل من السهرة حافزاً لجميع المعلمين، حيث تحول الحديث بجد إلى أنباء هجوم ايطاليا على الحبشة [احتل الايطاليون الحبشة عام 1936، وعاد إليها الإمبراطور هيلاسيلاسي عام 1941]. ورغم أن آراء الأكثرين كانت بعيدة عن فهم الدوافع الحقيقية لهذا الغزو البربري، فأن مدير المدرسة كان الوحيد الذي أشار إلى أن هذا الغزو والحرب الأهلية القائمة الآن في أسبانية، هما بمثابة نذر لحرب عالمية، ستكون كارثة على البشرية! ولست أعلم إن كان رأيه قد سمع به من آخرين لهم علم بالسياسة، أو أنه أدراك وفهم من تتبع الأحداث في السياسة العالمية. ولكني أعلم أن رأيه هذا عين الصواب. فالأوضاع العالمية تهدد بانفجار، بسبب تنافس الدول الكبرى على استعباد الشعوب الضعيفة. والأزمات الاقتصادية آخذة بالاشتداد يوماً بعد آخر، تضيق الخناق على الدول الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا وحلفائها. بينما يدفع هتلر ألمانيا بغروره إلى حرب الدول الكبرى لا لتخليص الشعوب الضعيفة من ربقة الاستعمار، بل لتسلبها منها كغنائم، وهتلر لا يدافع عن حرية الشعوب، بل يطمح إلى أن يحل محل الدول الاستعمارية الكبرى في السيطرة على العالم، وأنه لأشد من أولئك أضعافا مضاعفة، لأنه يدين بأن الألمان هم العنصر الذي يستحق وحده أن يحكم العالم. والليالي من الزمان حبالى والليالي يلدن كل عجيب.

الزواج والفاتحة – النازية والإسلام
كنت أتمشى أمس بين ألواح الزرع المحصود مع أثنين من السادة، كانا يحدثاني عن زرعهم وديونهم، وإن الحاصل هذا العام لا يكفي لسد نصف ديون "هاشم آل عبّو" عليهم. وتأوه محدثي وقال:
- لو مرت سنه يصير علينه الطلب العشرة عشرين.
بفهم الحضري اعترضت، وقلت!
- أنتو يظهر ما توازنون بين واردكم ومصروفكم.
فراح الثاني يشرح لي. إن صرفهم خارج عن أرادتهم. إنهم زوجوا واحداً من أبنائهم. ومن الصدف أن ماتت جدتهم بعد زواجه بشهرين. وتكاليف الزواج عندهم ليست شيئا مبهضاً بالنسبة لتكاليف الفاتحة.
يتزوج الشاب فلا تتعدى مراسيم الزواج أكثر من وليمة لليلة واحدة عند متوسطي الحال. ولا تتعدى الأفراح حدود قريته. أما قضية الفاتحة فإنها تختلف. إنها تستمر أكثر من عشرة أيام فكل من له علاقة أو معرفة من عشائر وأفراد، يأتون وفوداً. ولا بد أن تذبح لأجلهم الذبائح لغداء أو عشاء، ويحضر هذه الولائم كل أبناء القرية في الغالب. صحيح إن أكثر المعزين يقدمون المساعدات في مثل هذه الحالة "أغنام، رز، سمن" ومع ذلك فأن خسارة ذوي المتوفى أكثر بكثير مما يردهم من مساعدة، خصوصاً إذا كان المتوفى رجلاً محترماً.
وقطع صاحبي حديثه فجأة، وكأنه بُهت، والتفت شطر رجل كان يحمل بعض الدجاج بيده. ثم التفت إلى ابن عمه، وبصوت منخفض قليلاً وقال:
- يا ستار! خايب ذاك "جبر" واوي الحجي، ولك والله ما بگه عدنه دجاج، نوگع بفشل لو ضافنه خطار!
لم أفهم معنى ما ذكر فرحت أسأله، عن "جبر" هذا، والدجاج والحجي. فأفاد، إن ضيافة من يفد إلى الحجي تكون على حساب بيوت القرية. وجبر هذا أحد رجال الحجي، يطوف على البيوت عند اللزوم يجمع منها "الرز، السمن، الدجاج والحليب" على أن ضيوف الحجي قليلون، لأنه قليل الإقامة في قريته. وهو وجه بارز في هذه الجهة، وذو روح وأفكار وطنية. ولعل السبب في كل هذا، أنه لا يشبه غيره من زعماء العشائر، من حيث الملكية، فأكثر الملاكين في هذه القرية لا يقاس بما يعود له بالنسبة إليهم، إلا بنسبة العُشر. كما أنه على درجة جيدة من الوعي السياسي، وهو إلى جانب المعارضة في المجلس النيابي.
وبهذه المناسبة عزم المعلمون، أن يقضوا سهرة الليلة في مضيف الحجي حين علموا أن الضيوف هم مدير مال، ومفوض شرطة واثنان من أفراد الشرطة. ولا أدري لأية مناسبة كانت زيارتهم.
كان مدير المال كهلاً، لكنه مترهل الجسم، ذا كرش منتفخ. أما المفوض، فيكبره قليلاً، لوحت وجهه الأحمر حرارة الشمس، فصبغته بصبغة نحاسية.
وصلنا المضيف بعد انتهاء العشاء. ودارت أكواب الشاي على الحاضرين. كان مدير المال كثير الكلام. كان يقص الحكاية تلو الحكاية، وكل حكاياته عن العثمانيين، ويبدو أنه "جندرمة" قديم، فهو يتحدث عن حروب العثمانيين، وقادتهم الكبار، ولم يكترث لعدم إصغاء الحاضرين لأحاديثه، بينما كان المفوض يعلق ساخراً من بعض أحاديثه بلهجة القرويين. ومع ذلك فقد ساد المجلس فتور، وأدرك أكثرهم ملل. وكان ابن عم الحجي يتصدر المجلس، وهو أكبر منه سناً. رجل محترم، ذو كياسة، له ولع بمطالعة الكتب ولابد إنها من توجيهات من يتصل به من المعممين. فهي لا تعدو كتاب "أعلام الناس" و "زهور الربيع" و"ألف ليلة وليلة". وهو أيضاً حاج، أنبعث صوته بوقار شيخ محترم، وهدوء الواثق بنفسه. وألقى بيتاً من الشعر، تساءل عن قائله وطلب ما يكمل المعنى فيه. كان هذا البيت شائعاً على ألسن أكثر الناس.

سافر تجد عوضاً عمن تفارقه    وانصب فان لذيذ العيش في النصب

ساد المجلس وجوم، وخيم عليهم صمت. وما أسرع ما بدد ذلك الصمت صوت مدير المال. فقال:
- هذا حق جماعة المعلمين، داعيكم مو مال شُعُر. آني كنت أسقط بدرس المحفوظات [أكثر موظفي الدولة الصغار عن العهد العثماني سيء السليقة والذوق في تلفظ الكلمة العربية، فقد يقول عن كلمة "فكري" "فكريتي" ويضم الشين والعين في كلمة "شعر"].
قال أحد المعلمين:- والله آني تبخر من راسي كل ما حفظت بالمدرسة من شعر. وما كنت أحفظ إلا المقرر بالمنهج والكتب من نصوص.
وقال الثاني، آني كنت أحفظ القطعة بالامتحان وأنساها من أطلع من الصف. والله آني ما أفهم إلا بالرياضيات.
وجاء دوري فوفيت السؤال حقه. أوضحت أن البيت ينسب للإمام الشافعي وذكرت بعض الأبيات من نفس المقطوعة. وارتحت كثيراً أن وفقت من بينهم للإجابة. فالقرويون لا يعتبرون الحاج محسن أقل مستوى من المعلمين. لأنه خالط كثيراً من المعممين. وقرأ كتباً كثيرة. ولكني لا أكتم الخوف الذي عراني، حين قدرت الموقف، لو أنهم طرحوا مسألة في الجغرافية، أو الهندسة أو غيرها مما لا يدخل في نطاق معلوماتي. إن موقفي عند هذا سيكون أكثر حرجاً وأشد حيرة.
وعاد الحاج محسن فراح يطرح بعض الأبيات الشعرية في الأحاجي والألغاز. مثل:

وذي نحول راكع ساجدُ     أعمى بصير دمعه جاري
ملازم الخمس لأوقاتها      مجتهد في طاعة البـاري
 
[هذا اللغز يقصد به القلم، والخمس "الأصابع"، والباري الذي يبريه ويهيئه للكتابة!] وتحدث عن حرب البسوس، فإذا به يصور العجائب من الشجاعة. وكأن كليب والمهلهل من أفراد عشيرته، وكأنه شاهد تلك المعارك. فأمثلته، وما يذكره من تقاليد كلها مستوحاة من محيطه هو، ومن المفاهيم العشائرية السائدة بينهم.
وعرج فعرض الشعر الغزلي، فتحدث عن مجنون ليلى. فأنشد أبياتاً باللهجة العامية:

گبلك ربح مجنون من واعِدّنه
العشب باني عليه ويابس لگنَه

ثم عاد فحوّل الحديث عن الحرب الأهلية الدائرة في أسبانيا، ودعم ألمانيا النازية وايطاليا لقائد الحركة الانقلابية "فرانكو" فدب الحماس في أحد المعلمين، وأخذ يتكلم بحماس:
- نظام ألمانيا بزعامة هتلر، يشبه تماماً نظامنا الإسلامي. وتقاليد ألمانيا تشبه تماماً تقاليدنا العربية!
فأندفع إليه معلم آخر كان يميل إلى جانب الحلفاء وقال!
- أي نظام هذا؟ وشنو هالتشابه، وهالتقاليد؟ هتلر دكتاتور، كل همه منافسة بريطانيا العظمى، ونزع منهم مستعمراتهم!
فوجم المعجب بهتلر ثم تمتم كلمات متقطعة غير مترابطة ولا مفهومة. كان يعرف ما يريد، ولكن الألفاظ خانته -لعن الله الألفاظ-. فتدخل الحاج محسن وقال:
- صحيح مثل ما ﮔال المعلم "ف" في حديث عن النبي (ص) "الجنة تحت ظلال السيوف" يعني النبي (ص) أن القوة أساس لازم للأمة. كذلك فرض الإسلام على الحريم أن يلازمن بيوتهن. وهتلر نادى مثل ما سمعت "إلى المطبخ يا بنات ألمانيا"
فرد المعلم الحليف:
- لكن بنات ألمانيا يمارسن أعمال مثل الرجال. وكتاب "كفاحي" لهتلر جعل العرب في المرتبة الثالثة عشرة، قبل الزنوج بدرجة. واحتدم النقاش بين أنصار هتلر، وهم كثر، ومبغضيه وهم قلة، ولم ينته النزاع لولا أن أشار مدير المدرسة بالنهوض والعودة إلى أكواخنا.


السويد ‏11‏ آب‏ 2010


من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter