محمد علي الشبيبي
Alshibiby45@hotmail.com
الأحد 9/9/ 2007
بدايــات الغربــــة
14محمد علي الشبيبي
السويد
لم أنس يوم الجمعة 9 شباط 1979 هذا التأريخ المأساوي، فهو اليوم التالي للذكرى السنوية لجريمة البعث وأسقاطهم أول جمهورية وبداية لحمام الدم الذي دشنه البعث العراقي وحلفائه من عروبيين وأسلامويين بحق الشيوعيين والدمقراطيين، وفي هذا اليوم ودعت بغداد الحبية وتركت في الوطن أحبتي من الأهل والأصدقاء، ولم يدر بخلدي أبدا أنني سوف لن تكتحل عيناي مجددا بلقاء الوالدين وأن غربتي ستطول لعقود.
الرحلة الى دمشق في الباص تستغرق ساعات طوال، عبر طريق يخترق أراضي قاحلة، تزيد من هموم السفر الى المجهول وتضفي جوا من الكآبة. وحشة الطريق الطويل أجبرت مخيلتي وذاكرتي لأستعراض حياتي في السنوات الأخيرة. تذكرت كيف بدأت أتهيأ للعودة للوطن بالرغم ماكان يصل الى مسامعنا من أخبار عن تدهور الوضع الأمني وأشتداد الهجمة على الحزب وجماهيره. كان بأمكاني المحاولة لأكمال دراستي، أو الأستماع لنصيحة الصديق رؤوف الأنصاري ودعوته لي لتغيير وجهة سفري من العراق الى الأمارات للعمل. لو كانت هذه الدعوة من الحزب لتقبلتها بحرص شديد، هكذا كنا نفهم الحياة والتعامل مع مشاكلها، دون أن ندع للشك وعدم الثقة بقيادة الحزب ان تزحزح قناعاتنا والتزاماتنا. كنا نثق بأن قيادة الحزب كانت قادرة على قراءة مايحدث منذ وصول حزب البعث للسلطة عام 1968 وأنها تأخذ بنظر الأعتبار مذابح وجرائم حزب البعث في أعقاب أنقلاب 8 شباط 1963. وكنا نعتقد، وللأسف كنا نجهل كثير من تفاصيل مايحدث خلف الكواليس، أن الحزب وصل الى قناعة مطلقة بأن حزب البعث في السبعينات يختلف عما كان عليه في أنقلاب شباط وأنه أصبح حزبا (ديمقراطيا ثوريا) بأنتصار الجناح الثوري!. لذلك عندما صممت على العودة للوطن أواخر عام 1977 كانت في مخيلتي صورة غير واضحة لعدم إطلاعنا بدقة وأمانة لما يحدث وكيفية تحليل مايجري من أنتهاكات وممارسات بحق رفاق الحزب وجماهيره، وكان يختزل كل مايحدث من سلبيات وتجاوزات وكأنه صراع بين توجهين في قيادة حزب البعث وعلينا تحمل ذلك لكي لانساهم في أنخراط عقد الجبهة! وما زلت أذكر كيف أن أحد الرفاق في اللجنة المركزية وأثناء اشراف له عندما حاول تبرير قرار الحزب بتجميد منظماته، شبه لنا (في لجنة منظمة بولونية) بأن الحزب فوت الفرصة على حزب البعث في محاولته تنفيذ خطة العباس، وكان يقصد محاولة محاصرة الحزب والقضاء عليه! وتقبل معظمنا هذا التحليل (الديالكتيكي!!) دون اعتراض ولكن بحذر وقلق وخوف من أن تكون تقديرات القيادة خاطئة.
كنت في الباص أفكر بخروجي الأضطراري وكيف أني وعدت زميلي د. محمود عبدالله الجادر والأستجابة لطلبه بشراء كاميرة له بعد عودتي ولم أجرأ بمصارحته وأخبره أني هارب من مضايقات السلطة وبطشها الهمجي ولا أعرف هل سأعود ومتى؟. كنت أعتقد، وربما مثلي كثيرون، أن مغادرتنا للوطن وقتية وقد نعود بعد أسابيع وفي أسوء الأحوال بعد أشهر، حتى أنني لم أودع جميع الأحبة من الأقارب.
كنت قلقا من أستفسارات ضباط الحدود عن هدف سفرتي كأستاذ جامعي والعطلة على وشك الأنتهاء فلم يبق من عطلتي الشتوية غير يومين، وقد تثير الشكوك حول سفرتي. لحسن الحظ كان تجاوزي نقطة الحدود ومروري بتفتيش الجوازات كان سهلا بفضل تأشير ضابط الجوازات على أوامر المنع وملاحظته على أني لست المقصود بها، وكانت هذه أول مرة أتجاوز الحدود العراقية السورية بسهولة لاسابقة لها.
لم تدم أقامتي في سورية طويلاً، فبقائي هناك بلا معنى وهو خسارة للوقت والجيب. قررت التوجه الى جيكوسلفاكيا وبولونية عبر بلغارية بحثاً عن صلة بالحزب ومعرفة مايمكن أن ينتظرني. توجهت بالحافلة الى أسطنبول، وتوقفت فيها ثلاثة أيام، التقيت فيها بالصدفة بزميل دراستي في الثانوية الراحل علي الكشميري *، كان قادما من هنكارية وتناولنا العشاء سوية وودعته للسفر الى صوفيا بينما هو قرر البقاء للعودة لهنكارية.
وصلت صوفيا وقضيت يومين أو ثلاثة بضيافة الصديق العزيز المخرج المسرحي د. جواد الأسدي. بعدها أنتقلت للسكن في أحد الفنادق في وسط المدينة. هالني عدد العراقيين الهاربين من بطش النظام البعثي، نساء ورجال بمختلف الأعمار حتى الأطفال ومن مختلف القوميات والديانات، توزع الآف العراقيين على فنادق صوفيا، أينما سرت في المنتزهات في الأسواق في المطاعم والمقاهي تسمع حكايات وقهقهات وآهات عراقية. لم أكن أتوقع هذه الهجرة الكبيرة، وقد تجمعوا في صوفيا وهم لايعرفون أي قدر سينتظرهم والى أين سينتهي بهم هذا المطاف.
عندما قررت مغادرة العراق فكرت بمقترح الرفيق عادل حبة بعد لقائين وعرضه عليّ مغادرة العراق وأكمال دراستي، وكانت هذه الفكرة الأنضج والأسهل التي داعبت مخيلتي. ولكن عندما وجدت الآف الهاربين من البطش الدكتاتوري البعثي، وخاصة فيهم الكثير من الشباب، عدلت عن فكرة أكمال دراستي فمجرد التفكير بالدراسة في ذلك الوقت مزاحماً الآف الشباب يعني الأنانية التي أمقتها وأرفضها، وقررت مع نفسي عدم مزاحمة هؤلاء الشباب على الدراسة، فما حصلت عليه من شهادة يساعدني للبحث عن عمل. أخبرت الرفاق المشرفين على وضع المهاجرين برغبتي للبحث عن عمل إذا لم يكن للحزب أي توجيه أو حل آخر.
حاولت منظمة الحزب في بلغارية وجمعيتنا الطلابية هناك من أستيعاب الاعداد الغفيرة من الهاربين من البطش البعثي وتقديم مايمكن من مساعدة. ويجب القول بحق أن هذه كانت مهمة صعبة، فالحزب ومنظماته لم تكن متهيأة لأستقبال الآلاف من مختلف الأعمار والفئاة الأجتماعية والمهنية. كما أن الأوضاع السياسية في الداخل وما صاحبها من غموض في الأستدعاءات والتحقيقات وما رافقها من حرب نفسية في بث الأشاعات والأكاذيب تركت أثرها السلبي في تنظيم وأستيعاب القادمين. فمعظم القادمين وصلوا وقد أنقطعت صلاتهم الحزبية في الداخل وآخرون قدموا بدون ترحيل حزبي وبعضهم حمل معه توصيات شخصية من الصعب أعتمادها من قبل الحزب كتزكيات، وكل هذه المحاذير كانت بسبب الخوف من الأندساسات في صفوف الحزب. وكنا نسمع حينها عن اكتشاف بعض هذه الأندساسات بفضل وعي ويقضة وحرص القادمين، حيث تمكن البعض منهم من فضح مواقف المندسين وتعاونهم مع السلطات الأمنية البعثية في مناطقهم، وأعترف البعض بتكليفهم بهذه المهمة القذرة من قبل الأجهزة الأمنية في بغداد.
سهلت السلطات البلغارية أقامة العراقيين، من تمديد للفيزا والتغاضي عن أجبار العراقي على التصريف الرسمي مقابل كل يوم كما تقتضيه القوانين البلغارية، وحتى دفع أجور الفنادق تم بالليفة (العملة البلغارية) بدل العملة الصعبة كما هو معمول به مع الأجانب، وهذه كلها بسطت ومكنت العراقيين من الأقامة لفترة أطول والعيش حياة متواضعة لحد ما. وتوزع العراقيون الهاربون من البطش البعثي على فنادق العاصمة البلغارية صوفيا. وخوفا من أعتداءات شقاواة وعملاء السفارة والمخابرات العراقية المنتشرين في صوفية على القاطنين في الفنادق ، قمنا بتنظيم خفارات في الفنادق فيما بيننا لمراقبة حركة الغرباء وخاصة من العراقيين.
بعد أكثر من أسبوعين من وصولي لصوفيا وصلت شقيقتي الصغرى شذى هاربة قبل أن ينالها البطش بعد أن تعرضت لتهديدات الأتحاد الوطني في كليتها (كلية الحقوق)، أضافة لأستفسارات أمن كربلاء عنها. وكان لقائي بها مفاجأة لي، فبينما كنت أنتظر المصعد الكهربائي للنزول من الطابق الخامس بعد أن كنت في زيارة للصديق جواد الأسدي في القسم الداخلي، وأذا بالباب يفتح وأكون أنا وشقيقتي وجها لوجه. وكان من الطبيعي أن أصطحبها معي لنفس الفندق الذي اقطن فيه.
أخبرنا المسؤولون الحزبيون المشرفون على وضع القادمين بأمكانية عمل المدرسين والمهندسين والأطباء في الجزائر، وأن منظمة الحزب هناك أبدت أستعدادها لأستقبال القادمين وتقديم المساعدة لهم، وأخبرتهم بأمكانية حصولنا على عمل سيكون سريع وخلال أيام! ساعدتنا المنظمة بشراء بطاقات السفر للجزائر بالعملة البلغارية، وهذا ماخفف من أعبائنا المالية، فمعظمنا لم يكن معه مايلزم من عملة صعبة بسبب قرار سفرهم المفاجيء وضيق الحال لمعظمهم. وتقرر سفرنا وكنا مجموعة تزيد عن العشرين، شبابا وعوائل مع أطفال ونساء، مدرسين ومعلمين أطباء ومهندسين وكان أكثرنا من المدرسين. وعندما سمعنا تطمينات المشرفين الحزبيين في بلغارية عن أمكانية المنظمة في الجزائر وعلاقاتها مع الجهات الرسمية الجزائرية، وأن الحصول على عمل سيكون خلال أيام، قرر بعضنا التبرع بمعظم مايملك من عملة صعبة والأحتفاظ بقليل من الأحتياط لما يكفي لعدة أيام وحتى حصولنا على عمل! لم أفكر باصطحاب شقيقتي الى الجزائر قبل أن أتاكد من صحة وضعي وأمكانية استقراري وحصولي على عمل، كما أعتقدت أن لابد أن يكون الحزب قد فكر بحلا مناسب لهؤلاء الشباب الذين أضطروا لترك دراستهم الجامعية أو أشغالهم، وأن الدول الأشتراكية وأحزابها الشقيقة سوف لاتتوانى في تقديم المساعدة، وكل ماقدمته لشقيقتي قبل مغادرتي لصوفية منحها ما أعتقدته زائدا عن حاجتي المالية وهو مبلغ متواضع.
كلف الرفيق عارف (أبو سامر) من بيننا بالاتصال بالرفاق في الجزائر حال وصولنا لتنظيم أقامتنا وتقديم المساعدة الممكنة. ومعرفتي بأبي سامر من العراق، فهو صديق لزوج شقيقتي (فاروق) وعلمت منه ان ترحيل مجموعتي من الرفاق كان بواسطته أو بترتيب منه، وغادر العراق بعدي بأيام قليلة. حال وصولنا للجزائر أتصل عارف من المطار برفاقنا، وأستجاب رفاقنا لوصولنا وأرسلوا أحد الرفاق (مثنى الحمداني) للأهتمام بنا وتقديم المساعدة الممكنة. وصل الرفيق وكنت على معرفة شخصية به وبأشقائه منذ أيام الدراسة في ثانوية كربلاء.
كانت أول مشكلة واجهتنا هي توفير أماكن لنا في فنادق متواضعة ورخيصة واستمرار لقاءاتنا يوميا لمعرفة آخر التوجيهات. وأخبرنا الرفيق أنه لآتوجد أمكانية التعيين خلال أيام كما أخبرنا الرفاق في بلغارية، وخاصة للمدرسين فأن تعييناتهم تتم في الصيف أما الآن (نهاية آذار) فحصولهم على عمل في التدريس شبه مستحيل وعليهم الأنتظار حتى العطلة الصيفية!. ولما أخبرناه بما سمعناه من رفاقنا في صوفيا حول أمكانيات العمل وسهولة الحصول عليه، أخبرنا بأنهم في الجزائر أشعروا رفاقنا في صوفيا بأن فرصة الأساتذة في العمل تكون فقط قبل بدء السنة الدراسية أي في الصيف. هذه ألأخبار سببت بعض التذمر بين المجموعة خاصة ان كثيرين منهم تبرعوا للحزب في صوفيا بما يملكوه من عملة صعبة، معتقدين أن بطالتهم لاتدوم طويلا.
بعد ان تجمعنا في أحدى المقاهي في وسط العاصمة الجزائرية، توزعنا في مجاميع للبحث عن أماكن للسكن في الفنادق. وهكذا توزعنا على مجموعة من الفنادق المتمركزة في مركز العاصمة الجزائرية، وتم الأتفاق معنا على أن نرتاح هذا اليوم لنلتقي صباح اليوم التالي في مقهى أخرى لنعرف ماهي التوجيهات ومايمكن عمله.
في اليوم الثاني أكد لنا رفاقنا صعوبة الحصول بسرعة على عمل، وطلبوا منا بذل جهودنا الفردية والأستعانة بمعارفنا وأصدقائنا الذين أستقروا وحصلوا على عمل قبلنا. علمت أن الزميل الراحل د. عبد الله جلال طيب الله ثراه، من خريجي بولونية يعمل في الجامعة ويسكن في شقة في منطقة القصبة، طلبت من الرفاق بأبلاغه بوصولي ورغبتي في لقائه. أستجاب الراحل لطلبي وأصطحبني من الفندق لبيته وكان قد أستقبل قبلي الصديق المعماري عبد الأمير حمندي. كان موقف الراحل د. عبد الله موقفا تضامنيا مع زملائه ورفاقه القدامى بالرغم من تحفظاته السابقة على سياسة الحزب وأبتعاده عنه بسبب قرار تجميد المنظمات الديمقراطية وسياسة الحزب (الجبهوية) التي كان يرى فيها سياسة يمينية وموقفا خيانيا يتطلب إزاحة ومحاسبة قيادة الحزب حينها. جعل الراحل بيته مفتوحاً للجميع ولم يتوانى في أستقبال كل من يطلب المساعدة منه خلال فترة وجوده في الجزائر، وهو موقف أيجابي وتضامني يشكر ويثمن عليه الراحل.
كنا نلتقي يومياً في المقاهي ونتبادل الأخبار، أو نستلم مانحتاجه من عملة جزائرية (الدينار) مقابل الدولارات التي سلمناها لرفاقنا في الجزائر من أجل تحويلها للعملة الجزائرية. بالرغم من تنبيه رفاقنا الى ضرورة الأقتصاد في طريقة صرفنا وعدم التبذير لعدم معرفة طول فترة بطالتنا، كان هناك للأسف البعض من المبذرين بطريقة غريبة وغير مسؤولة. وقد لفت أنتباه الجميع تصرف حسين وهو مدرس لغة أنكليزية، فبعد أن استلمنا أول مبلغ بعد التحويل وكان يكفي كل واحد منا لدفع أجور الفندق والأكل ليومن أوثلاثة، أشترى زميلنا قداحة سكاير غالية الثمن وأشياء أخرى ليست ضرورية، كان ثمنها مساوياً لأجور ثلاثة ليالي في الفندق! ورغم أنتقادنا له لتبذيره وعجزه عن دفع مصاريف الفندق ووجبات طعامه الضرورية فأنه أقدم مرة ثانية على تهور آخر، فما أن أستلم الوجبة الثانية من المبلغ حتى أقدم على التسجيل في كورس لتعلم اللغة الفرنسية ودفع أقساطه وهو غير مضطر لذلك ولا يعرف كم ستدوم فترة البحث عن عمل وربما قد يضطر لمغادرة العاصمة! وأخبرنا في المساء بعدم أمكانيته لدفع مصاريف الفندق ولم يبق في جيبه دينار واحد، ويطلب من الآخرين تسليفه! وغيره آخرون تصرفوا بهذه الطريقة الغير مسؤولة دون أن يقدروا مصاعب الظروف القادمة وما ينتظرهم من مجهول.
بعد أسبوع من أقامتي وعبد الامير حمندي في بيت الراحل د. عبد الله، وصلت رسالة من زميلي ورفيقي المعماري طارق عباس يخبر فيها د.عبد الله بحاجة الشركة ألأنشائية (ETU) التي يعمل بها الى مهندس مدني وآخر معماري، وأنه تحدث مع مدير الفرع (الحاج بالمحي) في مدينة سعيدة عن وجود عراقيين لهم الاختصاصات المطلوبة بأمكانهم شغل هذا العمل، وقد وافق مدير الفرع وتحدث مع المركز في العاصمة وهم بأنتظارنا لمقابلة المديرية الرئيسية في العاصمة. لم يكن يعرف الصديق طارق بوجودي في العاصمة، وأنما بادر في تقديم المساعدة من خلال الأستفادة من علاقته الجيدة بمدير المكتب السي الحاج بالمحي، مع العلم أن عمله في الجزائر لايتجاوز الثلاثة أشهر.
في اليوم التالي ذهبت مع عبد الأمير لمقابلة المسؤولين في الشركة حول أمكانية العمل، وفعلاً تم الأتفاق معنا في نفس اليوم، ولم نهتم حينها بالأجور فكل طموحنا الحصول على عمل، وطلبوا منا الألتحاق بالعمل وبسرعة. وسافرنا فجر اليوم الثاني الى مدينة سعيدة في الغرب الجزائري وتبعد عن العاصمة مايزيد عن 8 ساعات بالباص، وبعد الظهر كنا في مكتب الشركة (ETU) وتفاجأ الصديق طارق بقدومي. رحب بوصولنا مدير الفرع الحاج عبد الكريم بالمحي، وكان شابا خلوقا وأجتماعيا، ووفر لنا سكنا في أحد فنادق المدينة لعدم توفر الشقق اللازمة للأقامة فيها، وباشرنا في العمل من اليوم الثاني.
كان مكتبنا الهندسي صغيراً وعدد العاملين لايتجاوز فيه الستة عشر بضمنهم المدير، ويحتل المكتب شقتين متجاورتي في الطابق الأرضي من بناية سكنية في أحد الأحياء السكنية (دي كاستور) في مركز المدينة. كانت مهمة المكتب أنجاز بعض التصاميم المعمارية والأنشائية لبعض المنشئات السكنية والصحية والمدارس ومراقبة التنفيذ والألتزام بشروط المواصفات. وكلفت من اليوم الأول في أنجاز التصاميم الأنشائية لدائرة الكمارك، وكانت من تصميم الصديق المعماري طارق. ولا أخفي مدى الصعوبات التي لاقيتها في بداية عملي، بسبب عدم توفر المصادر البولونية او العربية أضافة لعدم خبرتي العملية فأنا حديث التخرج، وكل ماتوفر لدي هي مصادر فرنسية ولايمكنني حل ألغازها لجهلي التام بالفرنسية. كنت أجري كل الحسابات الهندسية وتحليل القوى والعزوم وحساب التسليح للأسس والأعمدة والجدران مستعيناً بما خزنته ذاكرتي من معلومات أيام الدراسة. ولم تنفع مراسلاتي مع الأهل لأرسال الكتب والمصادر البولونية التي طلبتها، فكلما أبعث لهم رسالة أطلب فيها كتابا يصلني آخر غيره بسبب جهلهم اللغة البولونية وتشابه أسماء الكتب. وبقيت أعاني من هذه المشكلة ولم أجد بجانبي من المهندسين ذوي الخبرة يمكن الأستعانة بهم. فأعتمدت أسلوباً بسيطا في الحسابات يعتمد أساسا على فهم طبيعة التغيرات بسبب تأثير القوى على أجزاء البناء، ولهذا الأسلوب سلبياته ففيه تبذير ومبالغة في كمية التسليح وبعض القياسات، لكنه يضمن لي قوة ومتانة التصميم الأنشائي وديمومة البناء أذا ماتم تنفيذه. ولحسن الحظ أن المكتب الذي يراقب تصاميمنا الأنشائية (CTC)، وهو مكتب حكومي، لايطلب الحسابات الأنشائية وأنما يدقق فقط صحة القياسات ونوعية التسليح وكميته، وكان يوافق على كل التصاميم التي أقدمها دون أن يبدي أية ملاحظة.
تمكنت من انجاز أول تصميم (مكتب الكمارك) في حياتي العملية دون أن أعتمد على أي مصدر أو مساعدة من أحد، ولم يبدي مكتب مراقبة التصاميم الأنشائية أية ملاحظة على التصميم. هذا ماشجعني وعزز الثقة بمقدرتي وحبي في العمل وتطوير أمكانياتي. ثم أنهالت علي المشاريع المعمارية من زملائي في العمل، فكانت بأنتظاري مجموعة تصاميم أنشائية لعمارات من ثلاثة طوابق وبيوت سكنية، ومستشفى، ومدرسة وكلها مشاريع سيتم تنفيذها في عدة مدن مع اختلافات بسيطة من مدينة لأخرى. أضافة الى كل هذه الأعمال كنت أقوم بجولة تفقدية لبعض المشاريع أثناء تنفيذها، وكانت بعض هذه المشاريع تبعد عن مدينتنا أكثر من 500 كلم في عمق الصحراء كمدينة بشار وعين الصفرة، البيض، المشرية. فكنا نضطر أحيانا للسفر قبل شروق الشمس لنتجنب حرارة الشمس ونكون في موقع العمل قبل الظهر لنتمكن من القيام بجولتنا في متابعة التنفيذ والأستماع لمشاكل المراقبين الفنيين وتقديم النصح لهم.
خلال سنتين من العمل في المكتب تمكنت من أنجاز كل التصاميم الأنشائية ولم أتأخر في ذلك، ومعظمها كالمدرسة والمستشفى والعمارات، تم تنفيذه بدون مشاكل فنية وبمراقبتنا. وبعد تعاقد الشركة مع مهندسين بولون، كان بعضهم له خبرة تزيد عن 15 سنة في العمل، فأستفدت من خبراتهم ومن المصادر التي كانت بحوزتهم وخاصة الجداول الهندسية التي أغنتني عن أجراء الكثير من الحسابات الضرورية.
تطورت علاقتنا بالمدير الحاج بالمحي وكسبنا صداقته الى درجة تمكنا فيها من أقناعه بتغير نظام العمل الساري في المكتب، فبدل أن تكون أستراحة الغداء حسب النظام الجزائري ساعتين ونصف أصبحت أستراحتنا نصف ساعة على أن ينتهي عملنا قبل ساعتين من الدوام الرسمي للمكتب. فكنا نتمتع بنصف ساعة للغداء ونعود لمواصلة العمل حتى الرابعة بينما زملاؤنا يعملون للساعة السادسة. وكان الحاج بالمحي يبادلنا الزيارات ويدعونا لبيته، وبالرغم من أن تحصيله الدراسي لايتعدى الثانوية فكان متمكنا وحريصا في العمل ولاحظنا ذلك من خلال مراقبته لعملنا كمعماريين ومهندسين وأهتمامه بمناقشتنا بكل التفاصيل.
بعد أكثر من سنة في التنقل بالسكن من الفندق الى بيت طارق نجحت في الحصول على شقة من ثلاثة غرف في نفس المنطقة. وجاء الصيف وحصل بعض الزملاء الذين قدموا معي من صوفيا على عمل في مدارس سعيدة وآخرون حصلوا في مدن قريبة من سعيدة. وأصبح لنا تجمع من العراقيين في المدينة وأصبحت حياتنا الأجتماعية أفضل وأجمل بوجود عوائل عراقية، يسودها الأنسجام والتفاهم والتضامن. خلال هذه السنة عانيت من بيروقراطية العمل الأداري في الشركة الرئيسية، فعقد العمل لم استلمه إلا بعد ثلاثة أشهر، أما راتبي لم أستلمه إلا بعد سبعة أشهر وكنا نعيش على سلفة تقدمها الشركة لنا، ومن يعرف نظام التحويل في الجزائر يفهم السبب الذي أدى الى خسارتي ستة تحويلات من العملة الصعبة وهو مبلغ كبير لايستهان به. فنظام التحويل بموجب عقودنا يسمح لنا رسميا بتحويل 55% من راتبنا بالعملة الصعبة، ويتم ذلك من قبل البريد وبتزويدنا بأستمارات خاصة رسمية شهريا من مركز الشركة مرفقة مع الراتب، ويسقط حق التحويل أذا ما تأخر المتعاقد في ارسال أستمارة التحويل خلال أسبوعين من الشهر المعني. وبسبب البيروقراطية في الشركة بعدم أنجاز معاملة رواتبي وتأخرها هذه الفترة الطويلة رفض البريد منحي حق التحويل للأشهر المتأخرة بالرغم من محاولاتي ومطالبتي المرفقة بكتب الشركة لدائرة البريد تبلغهم عن مسؤليتها في تأخير دفع مستحقاتي الشهرية في وقتها.
* علي الكشميري زميلي في مرحلة الثانوية وحاصل على الدكتوراة في الفيزياء من جامعات المجر، كان أحد الطلبة المتفوقين دراسيا، يتمتع بمشاعر وأحاسيس مرهفة وصادقة ونقية. وللأسف عاش أزمة عاطفية في هنكارية أثناء دراسته، بسبب أنانية ألبعض وأستخفافهم وعدم تقديرهم لمشاعر وعواطف الآخرين، مما تركت أثرها النفسي على حياته أضافة لمشاكل الوضع السياسي، فأنتحر في دمشق عام 1985 ليضع حدا لعذاباته. وقبل أنتحاره كتب رسالة للحزب عام 1984 من عدة كلمات يقول فيها:(أني أرغب بالألتحاق بحركة الأنصار في كردستان العراق وأسمحوا لي أن أصطحب معي فرشاة أسنان وقلم وورق!)السويد/ كربلاء/ العباسية الشرقية
يــتـبـع