|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 السبت  26  / 12 / 2015                               موسى فرج                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

نحو دراسة علمية للفساد السياسي في العراق
(1)

موسى فرج

المحاصصة هي القاطرة التي تجرُّ قطار الفساد الطويل في العراق

الفساد السياسي هو فساد الساسة والحكام وقادة الأحزاب والنخب الحاكمة أياً كان موقعهم أو انتماءاتهم السياسية في حين ان الفساد الصغير يعني فساد الموظف في أجهزة الدولة ، ورغم أن فساد الموظف من رشوة وابتزاز وتمييز بين المواطنين ينتهك جيوبهم وكرامتهم فإن فساد النخبة الحاكمة في العراق من مسؤولين حكوميين قد تسبب عمليا في هدر المال العام وتبديد الموازنات السنوية واستنزاف موارد العراق الاقتصادية ودفع بنسبة كبيرة من الكفاءات العراقية والعناصر الشابة لمغادرة العراق ومنع بناء الدولة على أسس سليمة . .

والفساد السياسي يعني التعامل مع السلطة بوصفها نفقاً لتحقيق النفوذ والثروة وليست وسيلة لإدارة الشؤون العامة للمواطنين وتوفير متطلباتهم الحياتية والمعيشية وتأمين متطلبات الحياة الحرة الكريمة للشعب وتحقيق الرفعة للوطن..

ويعني ايضاً استغلال مواقع النفوذ السياسي لتوجيه القرارات والسياسات والتشريعات لتحقيق مصالح خاصة بهذه الطبقة أو أحد أطرافها أو الموالين لها واستخدام الطبقة السياسية مقدرات البلاد البشرية والاقتصادية والمالية والثقافية والدينية وعلاقات العراق الإقليمية والدولية كأدوات في الصراع للوصول إلى السلطة ، والتمسك بها ، وعدم فقدانها دونما اعتبار لمبدأ التداول السلمي للسلطة. .

ومن أجل مواجهة الفساد في العراق لابد من التصدي الى الفساد السياسي أولا باعتباره أخطر أنماطه وتشخيص مظاهره .. 
ورغم تعدد أشكال الفساد السياسي في العراق إلا أَنها يمكن أن تنتظم في ثلاث مجموعات :

1. اختطاف مؤسسات الدولة من خلال السيطرة على مراكز اتخاذ القرار بما يعرف عراقياً بالمحاصصة . .

2. الفساد الكبير بما ينطوي عليه من نهب للمال العام واستحواذ على المناصب والوظائف والعقارات والأملاك والامتيازات ، وممارسة الغش في إبرام العقود والصفقات وتهريب وغسيل الأموال وسرقة وتهريب النفط والآثار وقبل ذلك كله الفساد في الانتخابات بدأً من تزوير إرادة الناخب وإركابه قسراً سفينة المكونات التي لم تكن أبداً سفينة للنجاة إنما كانت سفينة الخراب المتجهة به صوب مثلث برمودا حيث دوامات الانقسام المجتمعي والكراهية والتصادم لينتهي به المطاف في عراقات متشرذمة متناحرة متحاربة . .

3. إعاقة جهود مكافحة الفساد وحماية الفاسدين وشرعنه وتقنين ممارسات الفساد لضمان استمرار تحقيق مكاسب خاصة أو فئوية ومنع المساءلة والشفافية في العمل الحكومي وعدم الإقرار بسيادة القانون والسيطرة على أجهزة مكافحة الفساد والتسبب في إضعاف القضاء والسلطة التشريعية مما يتسبّب باستشراء الفساد بكافة أشكاله..

مظاهر الفساد السياسي في العراق :
1. تصدَّر العراق دول العالم في الفساد ولعشر سنوات متتالية.
2. فساد النخبة الحاكمة أو ما يعرف بالفساد السياسي كان العنوان الأبرز للفساد في العراق.
3. اختطاف الدولة تحت ما يسمى بـ المحاصصة كان القاطرة التي تجرُّ قطار الفساد والهدر والتبديد وفشل الأداء الحكومي في العراق.
4. تجاوزت خسائر العراق من جراء الفساد والهدر وتبديد المال العام مئات المليارات من الدولارات الأمريكية خلال السنوات العشر الماضية .
5. الحكومة والطبقة السياسية قامت بحماية الفاسدين وإعاقة جهود مواجهة الفساد وتعطيل عمل هيئة النزاهة وإقامة بيئة مستدامة للفساد.
6. صيغ الحكم في العراق لا تمت بصلة لمبادئ الحكم الصالح والإدارة الرشيدة وفقاً لكافة المؤشرات الدولية في هذا المجال.

تداعيات استشراء الفساد في العراق أسفرت عن الآتي :
1. ضياع وتبديد وهدر مئات المليارات من الدولارات الأمريكية خلال الفترة 2006- 2014.
2. 6 ملايين مواطن عرضة لانعدام الأمن الغذائي و5,7% من السكان ليس لديهم ما يكفي من الطعام يوم واحد, ارتفاع معدلات البطالة والأمية حيث تعدّت نسبة 25% للبطالة ونسبة20% للأمية من سكان المدن وترتفع في الريف لتبلغ نسبة 50% ، حصة الفرد في الدخل القومي الإجمالي في العراق هي الأقل من بين كل دول المنطقة رغم أنه بلد نفطي ، عدم حصول أي تقدم في توفير الخدمات الأساسية للمواطن العراقي على الرغم من مرور سنوات على الغزو الأميركي للبلاد.
3. تضرر قطاع الاستثمار بسبب امتناع الشركات العالمية من التعامل في العراق حتى أن البنك الدولي وصف العراق بانه بلد طارد للاستثمار، فكانت الساحة مكشوفة للشركات غير الرصينة والوهمية لتنهب بمساعدة الفاسدين الحكوميين موازنات العراق الهائلة.
4. فشل الأداء الحكومي في إدارة الدولة لمجمل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.
5. تقويض الثقة بين الطبقة السياسية العراقية وبين الشعب العراقي .
6. على الرغم منَ أن العراق يحتل المرتبة التاسعة عالميا في الثروة الطبيعية وتقدر بـ 16 ترليون دولار فقد كان ترتيبه ضمن البلدان التي تحتل المراتب العشر الأولى من بين الدول الأكثر فشلا من بين 177 دولة في العالم وكان يحتل التسلسل الرابع.
7. بسبب الفساد تمكنت المجموعات الإرهابية (داعش) من احتلال أجزاء واسعة من العراق.
8. الفساد وما يقوم عليه منهج المحاصصة من انعدام تكافؤ الفرص تسبب في هجرة نسبة كبيرة من الكفاءات العراقية وأدى إلى هجرة الشباب العراقي إلى الدول الأوربية.
9. الفساد ونظام حكم المكونات تسببَّا بتقويض المواطنة وإشاعة الانقسام المجتمعي في العراق.
10. فساد الطبقة السياسية في العراق لم يكن ممارسات فردية أو حالة مقطوعة الصلة عن مسبباتها فقد إستغل الأمريكان حقيقة وجود طامحين للسلطة والثروة الى جانب تنوع ديموغرافي..

وبدلاً من بناء الدولة المدنية الديمقراطية شجعوا قيام ما يعرف بنظام حكم المكونات كبديل معاصر لسياسة فرق تسد فكان السكة التي حملت قطار الفساد السياسي الطويل الذي يبدأ بالفساد في الانتخابات ولا ينتهي عند تأليب الغير على تمزيق الوطن وتدمير الإنسان. . وفي مواجهة استشراء الفساد انتفض الشعب في مظاهرات عام 2011 و 2013 وآب 2015 والتي كان من نتائجها إطلاق رئيس الحكومة حُزْمة إصلاحات لمحاربة الفساد تبعه في اليوم التالي رئيس مجلس النواب فأعلن من جانبه حُزْمة إصلاحات أيضا تقدم بها إلى البرلمان من بينها : إحالة ملفات الفساد إلى القضاء (فوراً) ومحاسبة وملاحقة الفاسدين وسراق المال العام وممن أثرى على حساب الشعب العراقي واسترداد ما بذمتهم من أموال ولكن وبعد أن استردت الطبقة السياسية أنفاسها عادت إلى التسويف والمماطلة فَلّم يتمخض عن تلك الحُزَّم استرداد لمال أو حبسٍ لأحد كبار الفاسدين أو الخروج من ربقة المحاصصة فاستمرت المواجهة سِجّالا.

المحاصصة :
المحاصصة سياسياً هي كائن مشوه للديمقراطية تحمله أنظمة الدكتاتورية والاستبداد في أحشاءها ليرثها بعد فناءها ، يستمد وجوده من طامحين للسلطة ومجتمع متنوع.. فيستغل أولئك الطامحون تنوع المجتمع عرقياً أو دينياً أو مذهبياً او عشائرياً ليركبوا موجة تقسيم المجتمع الى مكونات يفرضون انفسهم ولو بالقوة كممثلين عنها بقصد تقاسم السلطة والنفوذ بينهم في الوقت الذي يبنون فيه شروط ومبررات الانقسام المجتمعي بدلاً من بناء الدولة المدنية الديمقراطية .. وقد تطابقت أهداف أولئك الساسة في السعي الى الحكم والثروة مع أهداف أمريكا في تحطيم وتجزئة العراق الذي ترى في وجوده موحداً خطراً على إسرائيل وحلفائها في المنطقة فحرصت على فرض فصوله بإتقان وتسعى لتكرار التجربة في سوريا واليمن في حين فشلت في فرضه في تونس ومصر بسبب ارتقاء الوعي المجتمعي فيهما .. ونظام المكونات والمحاصصة في حقيقته يقوم مقام سياسة فرق تسد الاستعمارية.

هذا من الناحية السياسية أما على صعيد مقدرات الدولة فالمحاصصة تقوم على تقاسم أطراف الطبقة السياسية للوظائف الحكومية بكل مستوياتها الدنيا والعليا انطلاقاً من منهجها القائم على اختزال الشعب بها وبطاناتها في الوقت الذي لا يبلغ عديدها سوى نسبة ضئيلة من مجموع السكان وبالتبعية فإن ذلك يعني في واقع الحال إخضاع مقدرات الدولة لعدد محدود من رؤساء الكتل الحزبية يتصرفون بها وفقاً لما تمليه عليهم مصالحهم الشخصية والفئوية دافعين جموع الشعب في مهاوي الفقر والحرمان والتهميش ..وبموجب منهج المحاصصة فإنه يتم اختيار الأشخاص للمناصب القيادية والإشرافية وحتى الدنيا في مختلف أجهزة الدولة على أساس الولاء للمتنفذين في الكتل السياسية بالدرجة الأولى ومن ثم الولاءات الطائفية الحزبية والدينية والعرقية والعشائرية وطبعاً ليس من بين تلك المعايير مكان للكفاءة والجدارة ، وهذه العملية بحد ذاتها مخالفة للدستور القائل بالمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين وتشكل تجاوزاً على القوانين والأعراف والمنطق الذي يقول بمبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب.

مظاهر وأضرار المحاصصة :
1. المحاصصة تعني في الواقع استعارة أشد خبثاً لمنهج صدام حسين في هذا الجانب ففي عهده كانت الوظائف المهمة والمناصب في أجهزة الدولة من نصيب أعضاء حزب البعث في حين يترك للآخرين الوظائف في حافات الجهاز الحكومي ، المحاصصة ذهبت أبعد من ذلك فحتى وظيفة ساعي او شرطي بات الطريق إليها يمر من خلال أطراف الطبقة السياسية أو الرشوة. بل حتى مناسك الحج فإن تأديتها تمر عبر المحاصصة ووحدها الزيارات الدينية المليونية لا تمر عبر المحاصصة لكنها تنتهي إليها إذ يتصدر أقطاب المحاصصة في مشاهد تمثيلية في تلك المراسيم لاستغلالها في تأكيد الأرجحية العددية (للمكوّن ومكونات المكوّن) بقصد تأكيد الهيمنة وتوظيفها في الانتخابات .
2. وعندما لا توجد صلة بين أشغال المنصب الحكومي وبين موضوع المقدرة والكفاءة والخبرة والمؤهلات فإن الفردية والمزاجية هي الحاكمة بدلاً من العلم والخبرة ، والفوضى هي السائدة بدل النظام.
3. وفي ظل المحاصصة باتت الوزارات والمؤسسات خاضعة للتوجهات السياسية والطائفية والحزبية بدلاً من وحدة الهدف والاتساق بين أجهزة الدولة .
4. وفي ظل المحاصصة تدار أجهزة الدولة ويتم قيادتها من الأسفل فالمواقع الوسطى عندما تتيقن من عدم كفاءة ومقدرة رأس الوزارة أو المؤسسة فإنهم يحرصون على إرضاءه ولكن كل واحد منهم يسعى لمصلحته هو ، وإن لزم الأمر يتم استغلال ضعف الرأس الإداري وافتقاره للخبرة فيتم توريطه بأفعال غير قانونية لإرغامه على السكوت وعدم الاعتراض في مواجهة أفعال يمارسها الأدنى.
5. وفي ظل المحاصصة يتم إبدال العاملين في الوزارة والمؤسسة مع كل دورة برلمانية فالقادم الجديد يسعى لإفراغ الوزارة لغرض تعيين المحسوبين على حزبه ورئيس كتلته ويحتفظ له بحصة لأقاربه ومحسوبين عليه وفي هذه الحالة لا يبقى مجال لبناء وتراكم الخبرة عند العاملين أو ترسيخ تقاليد وظيفية تتسم بالاستقرار والثبات وفي نفس الوقت فإن ذلك لا ينمِّي الشعور بالمسؤولية عند العاملين .
6. وفي ظل المحاصصة تتحول الوزارات والدوائر إلى علب سردين كبيرة للتضخم الوظيفي والترهل على حساب الفاعلية والإنتاجية والكفاءة فلا تحديد للاحتياجات الوظيفية ولا وصف وظائف ولا تقييم أداء إنما الغاية كل الغاية أن توظف أكبر عدد من المحسوبين على حزبك أو من تغريهم بذلك لتضمن أصواتهم وعوائلهم في الانتخابات .
7. وفي ظل المحاصصة لا يوجد عمل مؤسساتي إنما الأمر يتوقف على توجه الرأس وكل رأس عن الآخر مختلف وعند مغادرة الرأس موقعه يأخذ رأسه معه.. .
8. وفي ظل المحاصصة لا يوجد شيء أسمه وحدة الهدف ولا مكان للاتساق والتقاليد الوظيفية .

يبقى أمر أخير لابد من الإشارة إليه :

1. البعض يحاول ان يقول أن (المكونات) من صنع الأمريكان وحدهم وساسة العراق كانوا مجرد مغفلين.. ومع عدم إسقاط التهمة عن الأمريكان فأن اطراف الطبقة السياسية في العراق لم يكونوا مغفلين بل فاسدون .. والفرق كبير بين المغفل وناقص الحلم والسفيه الذي تسقط عنه تبعة ما يقوم به وبين الفاسد الذي يعي مخاطر ما يفعل. .

2. البعض يحاول ان يصور أن ( المحاصصة) مسؤولة عن ما نتج عنها من (سوء إدارة) .. ومع عدم إسقاط التهمة عن المحاصصة لكن المحاصصة ليست سوء تقدير ولا ممارسة فقهية فيثاب عنها قائلها بأجرين أو أجر واحد إنما سرقة متعمدة لمقدرات البلد البشرية والمادية.. وما نتج عنها لم يكن سوء تدبير او سوء إدارة إنما فساد وضياع مئات المليارات وخراب البلد ودفعه الى حافة الإفلاس والتشرذم و(من ولى أمر المسلمين شيئا فأمّر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم..) ولذلك لا ينبغي أن يتوجه المقت الى من قام بسرقة الدريهمات وترك من خرب البلاد خارج نطاق المساءلة والعقاب...
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter