|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الثلاثاء 11/9/ 2012                                 ماجد فيادي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ينابيع الثقافة أين هي اليوم

ماجد فيادي

عندما كنت شاباً صغيراً شاهدت والدي واخوتي يحملون كتباً مختلفة العناوين، يخرجوها من المكتبة مرة ويعيدوها مرة اخرى، ومنذ بدأت افهم، سمعتهم يتحاورون في مضامين تلك الكتب، سياسية ادبية تاريخية وفي احيانٍ قليلة علمية، جذبني الى ذلك السلوك أن أصدقاء اخوتي ووالدي ومن يأتينا ضيفاً، كانت تجمعهم نفس الهواية، فقد كانت الاحاديث تدور دون انقطاع وبجدية كبيرة.

عَلَقَت في ذاكرتي تلك الحوارات والنقاشات وتبادل المعلومات، فشكلت في داخلي رغبة أن أشاركهم الحديث أو التشبه بهم، ففكرت أن الوسيلة الوحيدة لاجد طريقي أن ابدأ بقراءة الكتب التي في مكتبتنا، لكن صوتاً في داخلي اوحى لي أن ابدأ بقراءة كتابٍ من مقتنياتي الشخصية، فلا اكون بذلك نسخةً من غيري، حينها اشتريت أول كتاب وكان للكاتب الانكليزي شكسبير بعنوان يوليوس قيصر، ولكي اتمكن من الاستمرار في خطتي لجأت الى مكتبة بيتنا لمواصلة القراءة، حينها استعرت اول كتابٍ منها وكان بعنوان الام للكاتب الروسي مكسيم غوركي، ثم توالت القراءات لكتابٍ لهم دورهم في رسم حياة الشعوب.

تعلمت من عبد الرحمن منيف في رواية شرق المتوسط عدم الثقة بالجلاد، ومن مكسيم غوركي في رواية الام معنى التضحية ونكران الذات، ما دفعني لقراءة الاخوة كارامازوف للكاتب فيودور دوستويفسكي ، مقولة تدعي ”من لم يقرأ الاخوة كارامازوف لم يقرأ شيئ من الادب العالمي“ فتعلمت منه قوة الحجة في الحوار، من حنا مينا في رواية الياطر فهمت أن التغيير يحتاج الى أشراك الناس به، تعلمت من الطيب صالح أن ما نتستر عليه في مجتمعاتنا من ممارسات لا تختلف كثيراً عن المجتمعات الاخرى، في رواية لمن تقرع الاجراس لهمنغواي تعلمت أن حياة المناضلين شاقة وطويلة، في رواية أصابعنا التي تحترق لاحسان عبد القدوس اكتشفت كيف نعيش الحب، تعلمت من غوغول في قصة المعطف كيف أسطر أفكاري على الورق، أما كولن ولسن في رواية طفيليات العقل فقد علمني كيف اخرج من الواقع الى الخيال، في رواية ذهب مع الريح لماركريت متشل عشت الحرب التي تأكل كل شيئ حتى الحب، غائب طعمة فرمان في مسرحية النخلة والجيران التي حضرتها مع والدي ووالدتي وكنت صغيراً جداً اتذكر الفنان يوسف العاني كيف يضحك ويبكي الجمهور في حوارات شعبية، إيرش ريمارك في رواية ثلاثة رفاق فهمت لماذا يرفض الانسان أن يكون وقوداً للحرب، أما رواية حب في زمن الكوليرا للعبقري ماركيز تعلمت أن الحب يقوى كلما اقترب من الموت. تعلمت من كتاب آخرين اشياء عديدة لم اكن لاعرفها لولاهم.

هكذا مع مرور الايام بدأت امتلك مكتبتي الخاصة التي اقتني لها كتباً اخضعها للبحث والسؤال قبل  أن اشتريها، حتى صارت ملاذاً لأخواتي الاصغر مني، في البحث عن الممتع والمفيد، فأخذت صديقاتهن يستعرن الكتب تلو الاخرى، وصارت الكتب تخرج ولا تعود، حينها قال لي أحد الاصدقاء ”من يعير كتاباً فهو احمق، ومن يعيد كتاباً فهو احمقين“ فقررت أن اعمل قائمة باسماء المستعيرين والمستعيرات والكتب، لاحافظ على مكتبتي، لكن الخطة باءت بالفشل. وبعد ان تركت العراق مهاجراً في أواخر 1999 تسربت مكتبتي، فقد عملت اختي على اعطاء معارفها من مكتبتي لكي تحثهم على القراءة في زمن لم يعد فيه من يقرأ إلا القليلين.

لا يمكن حصر مصادر الحصول على الثقافة في كتاب، انما هي تتوزع على المسرح ومعرض الصور ومجالس الحوار والشعر والمدارس والجامعات وحتى المقاهي العامة التي نلعب بها الدومينو والطاولي، لكن مقدار المعرفة يتفاوت بين هذه المصادر كل حسب تأثيره، ففي عراق الستينات والسبعينات من القرن الماضي، برز الكتاب وطغى على باقي المصادر ونشط المسرح والسينما، كان للحركة الفنية بالرسم والنحت رواد وصلوا مرحلة العالمية، كانت المقاهي تسمى باسماء رموز ادبية كالزهاوي والحبوبي وام كلثوم فنشطت فيها الحركة الثقافية الى ابعد مدياتها، وكانت الحوارات مع رجال الدين المتنورين تتجاوز المحرمات والمقدسات. كل هذه الحركة الثقافية كان محركها المثقفين بمختلف مشاربهم، أسماء ما ان تذكرها حتى يعرفها العراقيون، يضاف لهم الحركة اليسارية التي استطاعت أن تنتشر بين الجماهير وتتحول الى اداة نهمة للثقافة تستند على الحوار في تبادل المعرفة.

اليوم صارت ثقافة المجتمع مسموعة في عمومها، لا تعتمد على المصدر والتدقيق في المعلومة، يمكن لكل من يريد أن يسرب الافكار المغلوطة كما يشاء، فالكتاب والمصدر ركنا على جنب، واستبدل بالفضائيات والمنابر الدينية المتطرفة واختفت السينمات وتراجعت المسارح واستبدلت المكتبات بمحال البقالة المستوردة، حجمت الملتقيات الثقافية وصار السياسيون ينعقون على شاشات التلفاز دون أن يردهم احد من مقدمي البرامج، فهم يتكلمون بفلوسهم، أصبحت المعلومات ترمى كالاسهال وليس هناك من مقدرة على تدقيق كل ما يقال، فالكلام اسهل بكثير من قراءة كتاب أو الذهاب الى مسرح وسينما ومعرض رسم.

 قبل أن يسأل كل انسان نفسه ماذا تعلم من مصادرِ ثقافةَ اليوم، لا بد أن يعطي نفسه استراحة يبتعد بها عن هذه المصادر لينظر من حوله الى أين تذهب بالمجتمع.

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter