|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  21  / 5 / 2019                              د. مهدي جابر مهدي                            كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

أزمة الزعامات الحزبية في العراق بعد 2003

د. مهدي جابر مهدي
(موقع الناس)

منذ نشوء الأحزاب السياسية العراقية في عشرينيات القرن الماضي حتى يومنا ، شهد العراق سلسلة من التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما في ذلك أنظمة الحكم ، انعكست على واقع وبناء وتأثير تلك الأحزاب.
والمعروف ان الحزب السياسي بالمفهوم العلمي يعني : اتحاد أفراد وفق بناء تنظيمي يعبر عن قوى اجتماعية محددة بهدف الوصول الى السلطة السياسية او التأثير عليها عن طريق الانتخابات او غيرها .

وعند تناول الظاهرة الحزبية في العراق تبرز مجموعة من القضايا الاشكالية ومن بينها السمة المميزة للأحزاب العراقية ( من اليمين الى اليسار ، الديني منها والعلماني ، العلني والسري ، القومي والأممي ) ألا وهي : غياب التقاليد الديمقراطية في حياتها الداخلية وفي تعاطيها مع المجتمع .
واللافت هنا ان غالبية الأحزاب السياسية ، وخاصة التقليدية منها ، ظلت تدور في حلقة مفرغة وتبتعد تدريجياً عن المجتمع وتتعمق عزلتها السياسية وتتزايد ازماتها الداخلية التي باتت تهدد وجودها .
وتتجلى حالة القطيعة بين الأحزاب والمجتمع بوضوح في ظاهرة اللامبالاة السياسية وعزوف المواطنين عن المشاركة في الانتخابات ، مثلما جرى في العام 2018 .

ونعني بالأزمة هنا ، حالة انعدام اليقين والإخلال بالتوازن والفشل في الخروج من المأزق الذي وقعت فيه جراء تكرار إخفاقاتها .
ولعل هذا الحكم الإطلاقي بحاجة الى المزيد من التعمق . وإذا وجدنا بعض النماذج المحددة التي تتعارض مع ما نقول ، فهي ليست سوى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة .

وإذ تبتكر الأحزاب في عالم اليوم وسائل و طرق تنظيمية وفكرية جديدة ، من اجل حشد أوسع الطاقات على طريق تحقيق برامجها ومشاريعها السياسية ، لاتزال الأحزاب العراقية أسيرة الأنماط التقليدية المكلفة دون الأخذ بالاعتبار الجودة والجدوى ، بالإضافة الى برامج مثقلة بالشعارات غير الواقعية والمتخمة بالوعود المكررة والتي سرعان ماتتهاوى امام صدمة الواقع .
كل ذلك وغيره الكثير ولَّد حالة الاحباط في المجتمع والمزيد من التباعد مع القواعد الاجتماعية ، وأكثر من ذلك نلحظ تنامي النفور وصولاً الى الكره للسياسة وأحزابها ، خاصة في ظل تزايد معدلات الفساد والإخفاق في تحقيق التنمية والاستقرار اضافة الى التبعية في المواقف والسياسات لقوى خارجية .

ولو نظرنا الى العديد من البلدان مثل مصر وتركيا ولبنان والجزائر وغيرها ، المشابهة نسبياً لأوضاع العراق ، لوجدنا خصائص وسمات متراكمة من التقاليد الديمقراطية ، رغم ما تتسم به من بعض حالات التعثر والتلكؤ...

تُرى من يتحمل مسؤولية حالة التداعي التي تتميز بها الحياة الحزبية في التجربة العراقية الراهنة ، وهل هي نتاج مابعد 2003 ام تعود الى تأسيس الدولة العراقية ؟
ويقودنا ذلك الى أسئلة اخرى منها : كيف يدعو الحزب السياسي الى تحقيق الديمقراطية في المجتمع ويفتقدها في حياته الداخلية ؟… فهل يعود ذلك الى طبيعة المجتمع وموروثاته الاجتماعية والدينية وخصائص الأنظمة السياسية المتعاقبة طوال قرن من الزمن ، والتي تميزت بالتسلطية والقمع ، أم الى العوامل المتعلقة بنشوء تلك الأحزاب ، أو الى غياب ، أو ضعف ، الطبقة الوسطى الحامل الاجتماعي للاستقرار السياسي ؟ هل الاشكالية المطروحة سوسيوسياسية أو تنظيمية أو ثقافية معرفية ام جميعها معاً ؟

ان هذه الأسئلة الاشكالية المعقدة وغيرها الكثير ، والتي تشغل اهتمام قطاعات واسعة من من المجتمع عامة ، والمناضلين في الأحزاب خاصة ، اضافة الى الباحثين والمهتمين بالشأن السياسي جديرة بالدراسة والغوص فيها وتقديم اجابات معللة بما يسهم في الارتقاء بدور الأحزاب في المجتمع كونها ضرورة موضوعية و شرط للتعددية السياسية و مباديء الديمقراطية .
لذا سنقف بعجالة عند بعض الخصائص المميزة للأحزاب العراقية و دور الزعامات :

١- كثرة الأحزاب السياسية (بلغ عدد الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات البرلمانية في العام الماضي 205 حزب) وقلة قواعدها الاجتماعية ، حيث ان غالبية الأحزاب تتشكل وتختفي خلال فترة قصيرة . ورغم ان العديد من الأحزاب التقليدية قد قدمت التضحيات الجسيمة
في النضالات الوطنية ( معارك بطولية وآلاف الشهداء مثل الحزب الشيوعي العراقي وحزب الدعوة والحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني ) الأ انها في الغالب الاعم ، تناست تلك التضحيات وتحولت الى احزاب سلطة ، او تابعة لها ، لا تكترث لقضايا الناس ومعاناتهم ، وانغمرت في المغانم والامتيازات والفساد ، واكتفت بدور المتلاعب بالرموز الدينية والقومية وتوظيفها سياسياً من اجل ديمومة نفوذها .

٢- نظرياً يمثل الحزب السياسي ، التنظيم المميز للسياسة العصرية وعمله يتركز في تنظيم المشاركة وتجميع المصالح كما يشكل رابطاً بين القوى الاجتماعية والحكم ، ولكن الظاهرة الحزبية بعد 2003 تميزت بتكريس دور الزعامات " الملهمة " التي اختزلت الحزب بشخصها وطبعت العمل السياسي بطابعها الخاص . ادى ذلك الى اخفاق الأحزاب وقياداتها في الاستجابة لحاجات المجتمع ومتطلبات العصر لانها ظلت أسيرة لتلك الزعامات التي لا تكترث الا لمواقعها وامتيازاتها ، ويعود وهن الحياة الحزبية في العراق بدرجة كبيرة الى الدور السلبي الذي يلعبه قادتها الذين زجوا احزابهم في أزمات داخلية وصراعات ثانوية .

٣- تقوم معظم الأحزاب العراقية على الهرمية السياسية التي تبدأ بالزعيم / القائد نزولاً الى الى القيادات ، وصولاً الى القواعد . حيث نشهد ظاهرة اختزال الحزب في الزعيم واختزال المجتمع بالحزب وكلاهما في شخص القائد الفرد الذي يبدأ ديمقراطيا وينتهي دكتاتوراً . ويستند تنظيم هذه الهرمية على المركزية المفرطة والتأليه والتقديس والتفرد . وحتى عندما يختار الزعيم التنازل عن منصبه (طوعاً او قسراً) يستمر نفوذه الحزبي بصور مختلفة ، وبالتالي أصبحت الزعامات الحزبية اقرب الى الإقطاعيات السياسية التي تستند الى معايير الوراثة والطاعة والخضوع .

٤- غياب الحد الأدنى من احترام وقبول الرأي الاخر …حيث يسود الرأي الواحد واللون الواحد مع مركزية صارمة ونظام للطاعة يقوم على خضوع الأدنى للأعلى ولا يتقبل اعمال العقل . هذه الآلية تقترن بعملية تدجين منظمة للقواعد الحزبية ، ويتهم من يخرج عن هذه القواعد . الصارمة او من يدعو للتغيير والتجديد ، بالتخريب ويدرج تحت بوابة /تصنيف : الأفكار الغريبة والمعادية او الهدّامة وسرعان ما تتم معاقبته وهنا بالذات تتصور القيادات الحزبية بانها الأحرص والأفضل والأقدر على حماية " المقدس من المبادئ " بما تمتلكه من سلطة حزبية ، ويجسد هذا النهج الأصولية الحزبية بأبشع صورها .
وكل هذا يقترن بانعدام الشفافية التي يحل محلها التعتيم والسرية وتحريم و تجريم اي محاولة للاطلاع على الوقائع التي غالباً ما تبقى محصورة في حلقات ضيقة جداً ، وتبقى الغالبية العظمى من القواعد الحزبية محددة بدور المتلقي وليس المشارك في رسم السياسة وصناعة القرارات .

٥- الآنية وغياب النظرة الاستراتيجية ، حيث تتراجع البرامج والخطط الموضوعة ليحل محلها اللهاث وراء الحدث الآني ، وبالتالي تحل المواقف المرتجلة والسريعة وغير المدروسة وغير المنسجمة محل التفكير العقلاني المدروس . وغالباً ما تنحصر المواقف الرسمية بمزاجية وارادوية القيادة وخاصة الزعيم تحت مبررات شتى ، حيث يصاب المتتبع لحال السياسة العراقية بالحيرة من حالة الإنكار الغريبة والاهمال العجيب لدروس التجارب العملية .

٦- ابرز ملامح التجربة الحزبية الراهنة تتضح في حالة الانكفاء التي تتميز بها وتحولها من الفضاء الوطني الواسع الى الإطار الضيق (قومياً و طائفيا ً) ، وبدلاً من ان تسهم في الادارة السلمية للصراعات المجتمعية واشاعة ثقافة التسامح ، تحولت الى أدوات لتكريس الانقسامات الاجتماعية ، قومياً ودينياً و طائفياً ، مما ادى الى انتاج وإعادة انتاج الأزمات السياسية وبالتالي أصبحت الأحزاب السياسية كابحة للتحول الديمقراطي و وسيلة لتغذية النزاعات والكراهية والاصطفافات الضيقة في المجتمع .

٧- تخلف الخطاب السياسي و الاعلامي في التعامل مع الواقع وقدرته على تجاوزه ، بل والسعي لتكريس الواقع عبر التعبئة العاطفية (تعطيل العقل) واستنفار المجتمع وزجه في صراعات النخب من خلال وسائل الاعلام . وهنا نجد ان تنامي مشاعر الانتماء الطائفي و القبلي أدت الى ولادة موجة عارمة من الولاء والتعصب بمستوياته المختلفة على صعيد الدولة والمجتمع. وفِي ظل تنامي هذه الولاءات ، يتعرض الانسان لأشكال عدة من الاضطهاد والتمييز والتسلط، يقابل ذلك تراجع قيم التسامح والحوار التي تترك مكانها لقيم التعصب والتوحش بأشكاله المختلفة (الى درجة القتل والقتال) من خلال ثقافة الاقصاء والاستبعاد او على الأقل الاحتواء والهيمنة ، التي تسعى الزعامات السياسية لتكريسها من اجل استمراريتها.

كل هذه السمات والخصائص وغيرها الكثير ، كرست الإقطاعيات السياسية في الأحزاب العراقية التي أنتجت حالة الانسداد السياسي ليس فقط في المجتمع العراقي بل وفِي النظام السياسي اضافة الى الأحزاب ذاتها .

ويكمن الحل ، ببساطة ، في مأسسة الأحزاب ديمقراطياً واعتماد المشاركة الفاعلة لأعضائها وإطلاق الطاقات و وقف وسائل الكبت وتكميم الأفواه وضمان حرية الرأي والتعبير والاعتراف بالأخطاء ومعالجتها ونبذ تقديس وتأليه الزعماء وإخضاع القيادات الحزبية للنقد والمحاسبة ، والانطلاق من ديمقراطية الحياة الحزبية الى دمقرطة المجتمع والتعبير عن مصالحه والدفاع عنها والعمل الجاد على تحقيقها ، وبعكس ذلك سنشهد اضمحلال دور الأحزاب وتزايد عزلتها وتحولها الى هياكل وتنظيمات محدودة النفوذ والتأثير ، فاشلة سياسياً و مرفوضة مجتمعياً...





 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter