|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  15  / 9 / 2025                                 مصطفى القرة داغي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

ليَتَذَكّر بوتين "حَرب النجوم" الذي أبهَرَ شَعبَه فنّياً وأطاحَ بأسلافه سِياسيّاً

مصطفى القرة داغي
(موقع الناس)

أغلب أفلام الخيال العلمي التي أُنتِجَت قبل سِلسلة أفلام حَرب النجوم، كانت مُتشابهة في قصّتها التي تمَحوَرت حول غَزو الفضائيين للأرض وتَحَكّم الآلات بالبَشَر، حَتى جاء "حَرب النجوم"، حامِلاً مَعَه العَديد مِن القِصَص والأحداث في حَبكة مُتقَنة، جَمَعت المُغامرة والسُفن الفضائية والتكنَلوجيا المُتقدِّمة والأسلِحة العَجيبة والكائِنات الفضائية، والصِراع بين الخَير والشَر. تمَحوَرَت أحداثه حَول حَرب تندَلع في مَجَرّتنا، بَعد قِيام بَعض الساسة بإنقلاب أطاحَ بسُلطتها الشَرعية، وتأسيس حُكومة شِرّيرة بَطَشَت بسُكانها، وإنبِثاق مُقاومة، قادتها الأميرة "ليا"، لإعادة الحُرية والديمقراطية.

تَأخذنا سِلسلة أفلام حَرب النجوم في رحلة مُثيرة خلال المَجَرّة، مَع الكثير مِن المؤثرات البَصَرية والصَوتية، التي تجعَل مِن الفيلم أكثر واقعية، وتُتيح للمُشاهد عَيش التَجربة مَع أبطاله. وكان لموسيقى جون ويليامز، الموسيقار الأسطورة، دَور كبير بتحقيق ذلك. وفِعلاً نَجَح الفيلم بالإستِحواذ على الإنتباه، بفَضل العَمل المُتقن الذي قدّمَه، الى جانِب الطاقم التَقَني الذي لعب دوراً مُهِمّاً بإنجاح الفيلم. فقد سافَر مُعِدّو الفيلم للعَديد مِن المَواقع النائية في العالم لِخَلق تُحفة فنّية لا تَتَكرّر، بإستِخدام أحدَث تقنيات التصوير والمؤثرات السَمعية. كان فَنّاً سابقاً لأوانِه بكُل المَقاييس فتَح أفاق عُقول المَلايين على فَضاء الكون الرَحِب، مَع الكثير مِن الخَيال الذي لم يُفسِد لمُتعة الفن قضِيّة، والذي كان ضَرورياً لتبسيط أفكاره وتقريبَها لجَميع الفِئات العُمرية التي شاهدته وإستَمتعت به، فبات فيلماً تَجتمِع كل العائلة لمُشاهَدَته. كما كان له في جانِب ومَكان أخَر تأثير آخَر، سَنَتَحَدّث عنه لاحِقاً! لذا بَقِيَ الفيلم حَيّاً حَتى بَعد إنتهاء عَرضِه في صالات السينما، عِبر ألعاب الفديو والقِصَص المُصَورة والتِذكارات والسيوف الضَوئية التي تَمَيّز بها الفيلم، كما حَرَصَ مؤلفه على إبقاء الباب مَفتوحاً لأحداث جَديدة وتَساؤلات عَديدة، أثارَت تَوق وتَرَقّب المُشاهِد لمُتابعة ومَعرفة أحداث أي جُزء جَديد يَصدُر.

حينَما عُرِض الجُزء الأول عام 1977، كانت الحَرب الباردة، بَين الولايات المُتّحِدة مِن جِهة، والإتحاد السوفيتي مِن جِهة أخرى، على أشُدِّها في جَميع المَجالات. وهنا إستغَل الرئيس الأمريكي والمُمَثل السابق ريغان، الذي كان يَعي قوة صِناعة هوليوود، شَعبية الفيلم، لتعزيز خِطابه المُناهض للسوفيت وإنهاء الحَرب الباردة، بإستِعارة إسمه وإطلاقه على خُطّة دِفاع سِتراتيجي أعلَن عَنها، وكان يُفترَض أن تتبَنّى إنشاء نِظام فَضائي مُضاد للصَواريخ، تبَيّن فيما بَعد أنه خَيالي ولا وجود له على أرض الواقع، كان الغَرَض مِنه خِداع السوفيت وإثارة إرتيابَهُم ودَفعِهم لإنفاق المليارات على الصِناعة العَسكرية، ما أنهَك إقتصادهم، وضاعَف الفساد الذي كان مُتفَشِّيا بأغلب مؤسساتهم، والذي حاول الرئيس الراحِل غورباتشوف إصلاحَه بالبروسترويكا، لكن حَجم الفساد كان أكبر بكثير مِن إصلاحاته ونواياه الحَسَنة.

تَصعيد ريغان لسِباق التسَلّح إعلاميّاً بالتزامُن مَع الفيلم، والذي أخذَه الإتحاد السوفيتي على مَحمَل الجِد كتَحَدّي مَصيري، أنفَق عليه المليارات، كان عامِلاً أساسياً بإنهاكِه وإنهاء كِذبته التي إمتَدّت لعُقود. فأحداث الفيلم التي تدور حَول صِراع بين تَركيبة ليبرالية تَدعو للحُرية والديمقراطية والتنوع، وأخرى قَمعِيّة إستِبدادية تسعى للهَيمنة على الفِكر والثقافة والاقتصاد، وطَبيعة الصِراع الذي كان قائِماً بَين الأمريكان والسوفيت، أعطَت للفيلم غُموضاً سَهّل تفسيره وفق نَظَرية المؤامَرة، التي كان الإتحاد السوفيتي مَسكوناً بها ويوَظفها لتَضليل قِطعانه. الروس الوَحيدون الذين سُمِح لهم بمُشاهدة الأفلام الأجنبية آنذاك، وهُم المَسؤولون السوفيت، فَهِموا رسالته بمَعنى أن لوقا، هان، لِيا وأصدقائِهِم مِن أبطال الفيلم يُمَثلون الأمريكيين، بَينَما دارث فيدر وجُنوده يُمَثّلون السوفيت، وعَزّز هذا التصَوّر التوصيفات التي أطلقَتها الصَحافة السوفيتية على الفيلم.

لكن يَبدو أن بوتين قد نَسِيَ في غَمرة إنتِشاءه بهَلوسات جُنون العَظَمة التي تُصيب أمثاله، بأنه حينَما كان ضابطاً مُبتدِئاً في الكَي جي بي، إستطاعَت أمريكا أن تخدَع نظام أسياده الشُمولي الفاسِد، الذي كان يَحتل نِصف دول العالم عِبر عُملائه مِن حُكّامها وشُعوبها، وأنهَكَته إقتصاديا وأسقطته ببروباغندا وَهمية، مُستغِلّة هَوَسَهُ بالهَيمنة والتسَلّط، بأن رَوّجت لتبنّيها فكرة فلم هوليوودي عظيم كحَرب النجوم، كان فيه بَعض السياسة الى جانب الفن. هو كسِلسلة أفلام أمتَع الملايين، لكنّه كفِكرة أسقَط إحدى أعتى الدكتاتوريات التي عَرَفها التأريخ. لكن أمثال بوتين لا يَتَعلمون مِن دروس التأريخ، مِثله مِثل هتلر أو صدام الذين دمّروا بلدانهم بسياساتهم الحَمقاء التي لا تخضَع لعَقل أو مَنطِق، لأنهم مَسكونون بعُقد نقص التسَلّط وهَلوَسات جُنون العَظَمة التي تَعزِلهم عَن رؤية الواقع بشَكل صَحيح. لذا يُريد أن يُناطِح أمريكا والغَرب بدَبّابات مُتهالِكة ومَجاميع مُرتزقة مِن كوريا الشمالية والعراق وأفريقيا، بَعد أن إنهارَت الروح المَعنوية لجَيشه لعَدم قناعَتِه بالحَرب، ونقص العَتاد والمَؤونة. ويَحلم أن يُصبح قُطب بمُواجَهة أمريكا، رَغم أنه لم يتمَكّن حينَها سِوى إقناع 4 دول فقط بالأمَم المُتّحِدة صَوّتت لضَمِّه للأراضي التي إحتلها مِن أوكرانيا، هي سوريا ونيكاراغوا وفنزويلا وكوريا الشمالية، في مُقابل مِئات الدُول التي صَوّتت ضِد الضَم، وعَشَرات إمتنعت عَن التصويت، ومِنها مَن كان يظن بأنها حليفة له، كالصين وإيران والهند.

عُرِض حَرب النجوم في روسيا أول مَرّة على نِطاق واسِع في صيف 1990، وكان إقبال المواطنين الروس عليه كبيراً، لأنه مِن أوائل العُروض الكبيرة للسينما الغربية في الإتحاد السوفيتي. يَومها عَرَف الروس هَشاشة النظام الذي حَكَمَهُم لعُقود بالحَديد والنار، بَعد أن شاهَدوا بَساطة فِكرة الفيلم الذي كان مِن أبرز أدوات وأسباب إنهياره. فلو لم يكن ذلك النظام يَعرف سوئَه وشَرّه، لما أخَذ الأمر بشَكل شخصي كَمَن على رأسه بَطحة، وإنفَق مليارات لصُنع الأسلِحة، بَدلاً مِن إنفاقها على إصلاح البُنى التَحتيّة المُهتَرِأة لجَمهورياته، وعلى رَفاهية شُعوبها التي كانت غارقة في الفقر والحِرمان، فهذا ما كان سَيَحميه مِن السقوط، لا العَكس الذي تسَبّب بسُقوطه. مِن الطرائِف التي تُظهِر رَبط شَخصِيّات الفلم الشِريرة برُموز النِظام الشيوعي، في أذهان مواطني الدول التي كانت تَحت سَطوَتِه، ما حَدَثَ بَعد إصدار الرئيس الأوكراني السابق عام 2015 مَرسوماً يَدعو لإزالة جَميع مَعالم وأسماء الحُقبة الشِيوعية، إذ قَدّم أحد الفنانين يُدعى آلكسندر ميلوف مُقترَح لتَحويل تِمثال لينين في مَدينة أوديسا إلى تمثال لِدارث فيدر، وقد تمّت الموافقة على مُقتَرَحِه، وقام بتنفيذ ذلك بنفسه فِعلاً!
 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter