|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  21  / 5 / 2015                                 مزهر بن مدلول                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

سيارة الخشب

مزهر بن مدلول

بدأت القرية تفيق من نومها عندما تناهى لها صوت (سيارة الخشب)، كانت امي تتوسط باحة البيت متجلببة بالاسود، وفي يديها صرة حاجاتها التي ربطتها بأحكام، ووقفت تنتظر اشارة من أبي يأذن لها بالخروج.
همستُ لها :
- سوف اذهب معك
- هذا مستحيل، انّ والدك لن يسمح بذلك
- لكني سأسافر معك

شعرت أمي بما يختلج في روحي من حزن وقهر، فقادتني من يدي ودخلت الى غرفتها، فتحت الصندوق (الفاتية) واخرجت كيسا صغيرا، ناولتني الكيس وقالت:
- هذا لك، وعندما اعود سأجلب لك غيره
كان الكيس يحتوي على (جكليت ومصقول)، اخذته من يدها ورميته على الجدار، ورحت اجهش بصوت مكتوم، ثم خرجت من البيت ووقفت بالقرب من السيارة.

خرج الرجال يحملون الحقائب الكبيرة، والنساء يحملن الرزم والصرر وما يستلزمه الطريق من ماء وخبز وتمر وغيرها من الاشياء الضرورية، وكان احد شباب القرية واسمه (ثجيل) يحث المسافرين على اخذ مقاعدهم داخل السيارة، كان طويل القامة وقوي البنية ووسيم الملامح، وكان يتنقل من مكان الى اخر، يحمل الاثقال ويصعد بها الى سطح السيارة ويقوم بترتيبها وربطها بحبال قوية الى الحديد والصديد!.

بدأ حفل التوديع، الرجال يتعانقون والنساء يذرفن الدموع وكأنّهم ذاهبون الى جبهات القتال!، شعور خاص يراود القرويين اثناء السفر، فهم لا يسافرون، مرتبطون بالارض كسوار ومعصم، لا يتركون قراهم ومواشيهم وحياتهم الريفية الهادئة، واغلبهم لم يرَ المدينة في حياته، لذلك ليس من الغرابة ان ترى الحزن والدموع في مثل هذه الحال.

عندما دلفت أمي الى الداخل، تراءى لي العالم كله مثل رموز هيروغليفية لا قدرة لي على حلها!، كانت المشاهد تتلاحق في مخيلتي، تختلط ثم تتمزق، تدور ثم تسقط على الارض، حيرة ما بعدها حيرة، وعلى الرغم من أني كنت اعضّ على وجعي، الاّ انّ رأسي يرفض فكرة انفصالي عن امي لمدة 10 ايام، وكم تمنيت في تلك اللحظة ان اقفز الى داخل السيارة، لكنّ أبي صاحب السلطة المطلقة سوف يخنقني لو فعلت ذلك!.

دار المحرك وانطلقت السيارة، ولم تترك وراءها سوى خيط دخان اسود اختلطت رائحته بأنفاسي، انتزعت مني طفولتي وهربتْ، لم اصدق انّ أمي ذاهبة لزيارة العتبات المقدسة، تخيلتها ماتت واخذوها الى مقبرة النجف، داهمتني افكار غريبة جعلتني اكره أبي والقرية والناس جميعا، كنت في تلك اللحظة بحاجة لمن يمسح على رأسي، لكنّ أبي ذهب الى (المضيف) يحتسي القهوة ثم يمضي في مشواره اليومي غير عابئ بالنار التي تلتهب في داخلي.

عدت الى البيت حزينا ويائسا، كان بيتنا صامتا كمقبرة، حتى الدجاجات التي تنقب عن طعامها في روث البهائم اختفت في هذا الصباح!، لم اتحمل ذلك العذاب، فخرجت من البيت متسللا على اطراف اصابعي، قطعت البستان الى الجهة الاخرى، وعندما وصلت الى الشارع الترابي، أطلقت ساقيّ للريح، كنت حافي القدمين، اركض بأقصى سرعتي، وكلما طارت قبرة او قفز ارنب في طريقي، يتراءى لي أبي يمتطي فرسه ويطاردني، كنّا نخاف منه، الى درجة اننا لا نستطيع أن ننطق بكلمة واحدة الاّ بأذنه، كان له مزاجا خاصا ومتقلبا، فمرة تراه باشّا ضاحكا، ومرة اخرى متوترا ملتهبا، يوما تجده مؤمنا يؤدي الفروض، ويوما اخر يترك الصلاة.

صعدت ربى وهبطت وهاد، تدمت ركبتيَّ ، (العاكَول) مزق ثيابي، كنت اركض واصرخ (يمة.. يمة)، حتى شعرت بأن رئتي في حلقي، وبعد ان ركضت مسافة لا اعرف مداها، لاحت لي السيارة من بعيد، كانت تظهر وتختفي في لعبة كلعبة السراب، فزدت من سرعتي لكي ادركها قبل ان تصل الى الشارع الاسفلتي (التبليط).

عندما انعطفت السيارة الى جهة اليسار، خاضت عجلاتها بالاوحال والسبخة، فأقتربت منها كثيرا، ورحت الوّح بيدي واصرخ، كان بعض الشباب معلقين يتمرجحون بالشبابيك، وكان من بينهم (ثجيل) الذي سمع صراخي وعرفني، فأوقف السيارة واستقبلني راكضا واخذني الى أمي.

اخذتني بحنان واجلستني الى جانبها، بينما ارتسمت ملامح الدهشة على وجوه الركاب، وبعضهم اعتبر تلك علامة من علامات الشؤم والنحس!، اما انا فقد كانت سعادتي في تلك اللحظة لا يمكن وصفها بكلمات!.

ازدادت سرعة السيارة عندما وصلت الى شارع التبليط، في داخلها يختلط الغبار وثرثرة العجائز ودخان سكائر اللف!، حرارة الاسفلت بدأت تتسرب وتترك اثرها على الوجوه، في السماء مرّ سرب من الغربان السود يفضح علامة من علامات ختام الرحلة!، ضرب عنيف على خشب السيارة، قبضات قوية تهبط على سطحها، صراخ يتعالى (اوكف اوكف.. مات مات)!.

كان يتشبث بقضبان النافذة، يحاول ايقاف دوران العجلة التي انزلقت قدمه عليها، لكنّ عجلة السيارة كانت اسرع وعجلة القدر اقوى، فألتهمت القامة الطويلة كما يلتهم حجر الرحى حبات الشعير، فصرخت النساء: (ثجيل مات)!.

يا لهذا النهار.. يا لهذا الكابوس.. ليتني لم اغامر لأرى الموت الذي لا يعترف بمقياس او منطق يهبط من دون حياء ليخطف قلبا يخفق حبا وعشقا!.

وضعت (حسنة) رأس (ثجيل) في حجرها، مسحت على خده بأناملها، تركت خصلات من شعرها تلامس وجهه، ذهبت معه في نزوة من نزوات العشاق، في فؤادها هيام ما بعده هيام، عيونها صامتة مذهولة، وروحها تغوص في بحر عشقها الميت.

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter