|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  6  / 2 / 2015                                 مزهر بن مدلول                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مراسيم خاصة
(9)

مزهر بن مدلول

الرسالة

قبل الغروب، كنتُ معه نتمشى قرب المطبخ، وكنّا ننتظر وجبة العشاء، فسألته عن (الرسالة) وما اذا وجد طريقة مضمونة لأيصالها الى شقيقه الذي يعيش خارج البلاد!.
فقال خالد:
ذهبت الى مكتب السرية، فوجدت مستشارها السياسي الرفيق ( آيار )، وعندما القيت عليه التحية، رحب بي ومدّ يده لمصافحتي، بينما علت وجهه ابتسامة، دلّت على شعوره بالسرور لملاقاتي، مما خفّف عني الكثير من الأضطراب....
قلتُ له :
- لقد كتبت رسالة مستعجلة الى أخي، ارجو أن تبعثها مع أول بريد يذهب الى خارج البلاد.
فغمزني الرفيق آيار وأجاب :
- حسناً، سأبعثها مع أول (بغل) يتحرك من هنا!..
ضحك وأخذني بين ذراعيه.. ثم سألني :
- هل أحكمت تغليف الرسالة بما يحميها من المطر والماء والرطوبة؟!.
- أجل يا رفيق، لقد غلفتها بالنايلون السميك، وأتمنى أن تصل بسرعة، لأني قلق على أهلي الذين لم أسمع عنهم شيئا منذ سنوات طويلة، وخاصة أمي التي تعاني من أمراض القلب والشرايين.
- نعم نعم، وأنا أتمنى ذلك، وأتمنى أن يأتي الجواب وتطمئن على أهلك ونحن على قيد الحياة!.

ناولته الرسالة، بعد أن طويتها وضغطتها حتى صارت بحجم سيكَارة!، ثم شكرته ومضيت..
ويسترسل خالد في حديثه معي، فيقول :
-عندما ابتعدت خطوات عن مكتب السرية، شعرت بأني أزحت عن كاهلي عبئاً ثقيلا، وأني أنجزت مهمة جديرة بالفخر، الى الحد الذي تخيلت فيه، بأنّ الرسالة وصلت، وكان وجه أخي يشع فرحا!، وهو يلوّح بالورقة الى أهله وأصدقاءه، ليخبرهم بأنها جاءت من الجبل، من معاقل الثوار، حيث البنادق والرايات وأغاني الحرية!!.....

ثم راح خالد يحدث نفسه بهدوء.. أغاني الحرية.. الحرية.. الحرية.. ثم سكتَ لوهلة، وكأنّ أمراً داهمه، وما هي الاّ لحظات حتى رفع قبضته، وصاح بصوت قوي : الحرية... الحرية... وأخذته نوبة من الضحك الهستيري الى درجة الحمق!، فأثار في تلك اللحظة نفوري واشمئزازي.

أنا لا أعرف خالد قبل أن يلتحق بحركة الأنصار، ولا أعرف شيئا عن ماضيه وجذور نشأته، لكنّي لا أخفي تعاطفي معه ووقوفي الى جانبه في محنته ذات الأبعاد الكثيرة، وخاصة ما جرى له في صباح هذا اليوم، حيث كان خالد يجلس فوق صخرة، مسترسلا في حلم لذيذ، وقد تسللتُ اليه وهو في لحظة صفائه!.
- صباح الخير رفيق خالد
كان وجهه مليئاً بالتعابير، لكنّ الشرود كان أكثرها وضوحا، وبعد عدة ثوانٍ، نهض من مكانه وإلتفت نحوي:
- صباح النور رفيق سمير
ولكي يقطع عليّ سؤالي عن السبب الذي دعاه الى أن يجلس وحيدا في مثل هذه الساعة، قال:
هل تعرف لماذا أنا هنا؟ أنظرْ الى تلك الشجرة المتشابكة الأغصان، ألا ترى ذلك العش الجميل المحاك بأبداع، وكأنّ عقلا فذا قام بصنعه!؟، في داخل ذلك العش أربعة من الصغار، شاهدْ، كيف يجلب الأب الطعام لأبنائه، ما أجمل هذا المشهد يا رفيقي، اجلسْ الى جانبي وأنظر، حاول أن لا تأتي بما يثير الجلبة، فبعد قليل تأتي الأم أيضا بوجبة اخرى، سترى هؤلاء الصغار كيف يفتحون أفواههم وهم غاية في السعادة، أليس ذلك هو الفرح الذي يعطي للحياة قيمتها وفحواها، ألم تكن تلك هي السعادة التي نبحث عنها... حرية.. مأوى.. طعام.. أبناء.. عائلة.....؟؟.
خرجت من صدره تنهيدة عميقة ، ثم رددّ متسائلا ومتهكما :
- عائلة!؟.. قلت عائلة!؟.. هراء.. اين هي العائلة!؟، والحرب تطول والأنتظار يطول واليأس يطول، وكل شيء يزحف ببطء.. آخ من البطء.. عدونا اللدود في هذا الجبل هو البطء.
صمتَ خالد فجأة، ثم نهض واقفا، وكما لو انّه أرادَ أن يبوح بسرٍ خطير!، جال ببصره على ما حولنا، ثم اقترب مني وهمس بصوت لا يكاد يُسمع :
- هل سمعت أخبارا جديدة عن السفر، لاسيما وأنت قادم لتوّك من قرب الحدود؟.
- كلا.. ليس لدي ما هو مؤكد، لكن بعض الأنباء يتناقلها الرفاق في ما بينهم بصوت خفيض، يقولون انّ جميع الطرق مسدودة، وانّ الجيش لا يسمح حتى بعبور جرادة خارج الحدود!.
كان خالد يتكلم بسهولة وعلى قدر من التذمر والسخرية :
- طبعا طبعا!.. انهم لا يسمحون بعبور الجرادة!.. أنا الجرادة!.. أنت الجرادة!.. نحن الجرادة، كل الحدود مسدودة بوجه الجرادة!.. مسكين أنا.. مسكينة الجرادة!!........
- مرحبا رفاق..
حيانا مصطفى بصوت عالٍ رددّ صداه الوادي، ومن دون أن ينتظر منّا رد التحية، هتف بحماسة تشبه حماسة من عثر على كنز على حين غرة :
- لقد ذهبت الى السفح في الجانب الآخر من الجبل، وجلبت معي كمية قليلة من (الفطر)، عثرت عليها هناك، انها نباتات غنية بالبروتين ولذيذة الطعم، خاصة عندما تشوى وتشبّع بالملح، فهيا لنجمع الحطب ونشعل النار ونتقاسم الفطر!..

يبدو للذي لا يعرفه، انّ مصطفى شخصية من لا مكان!، فتارة في الوادي، وطورا فوق القمة، مرة يحفر في التراب واخرى يتسلق الأشجار، مصطفى مزيج من عبث الطفل وروح القديس!، إنّه واحدا من اولئك القلائل، الذين إستطاعوا أن يتخففوا من ثقل الماضي ومخزون الذاكرة، ولم يستسلموا للروتين والتكرار والحياة الراكدة، فراحوا يبتكرون أشياءا تقيهم الأحساس بأنّ سنوات العمر قد توقفت منذ اليوم الأول الذي وطأت اقدامهم فيه أرض الجبل.

انتشرت رائحة الفطر المشوي بسرعة فائقة وملأت فضاء المقر، وما أن شعر بذلك أصحاب الأنوف الحساسة حتى هبوا الى مكان النار بسرعة، فأصبح عددنا كبيرا ولا يتناسب مع كمية الفطر، ولكن حاجتنا الى هذا المجلس الجميل، حيث موقد النار والطبيعة الخضراء، وحيث رغبتنا في الخروج من الهموم الكثيرة التي تشغل دواخلنا، ومن اجل تزجية الوقت الذي بات جامدا، كل ذلك دفع الرفيق (صباح) أن يقترح على (مصطفى) بأن يذهب الى (اداري السرية) ويتفاوض معه للحصول على ثلاثة معالق من الشاي وقليل من السكر (الدشلمة)، لكي يكون اجتماعنا هذا ذو نكهة اخرى! وهكذا، وبعد مشقة في النقاش والحوار، استطاع (مصطفى) الحصول على ما يريد.

سادت أجواء المرح والألفة، والتعليقات والقفشات التي في أغلبها تسخر من حياتنا التي لا روح فيها، كنّا نتظاهر بالضحك والنسيان، لكنّ خفايا النفس لا تحتاج الى عبقري من اجل أن يكتشفها ويعثر عليها، فالأيحاءات التي تأتينا من الزمن القديم تظهر رغما عنّا، واضحة في الوجوه والحركات مهما حاولنا إخفائها.

كان خالد، شارد الفكر حالما، وغير مكترث بما يجري من حوله من ثرثرة وضجيج!، وفجأة نهض من مكانه وراح يسير بأتجاه الشجرة التي تأوي عش الصغار الأربعة، وقف تحتها لهنيهة، ثم تابع سيره حتى ابتعد عنّا وغاب، ولم تمضي الاّ دقائق قليلة، حتى تناهىت الى مسامعنا صرخته المرعبة، كانت صرخة عميقة ، كأنها خارجة من بئر لا قعر فيه ، كان يمسك رأسه بكفيه وكأنّ العفاريت ركبته، لقد جرفته عاطفة مفاجئة وسببت له أزمة عصبية كادت أن تؤدي به الى الأغماء!.

أحاط به الرفاق وأخذوه بالأحضان، هذا يطبطب على كتفه، وذاك يمسح على رأسه، ورفيق آخر يبكي معه ويشاركه الأحزان، كان المشهد مؤثرا جدا، ولا تستطيع حتى القصص والقصائد التعبير عن ما يحمله من آلام وعذابات، وبعد فترة من الوقت، هدأ خالد وثاب الى وعيه، لكنه في هذه الأثناء طلب بأن نأتيه بورقة وقلم، وكان يلح على ذلك ويتوسل في الحصول عليها، فراح بعضنا يبحث في أشياءه من اجل الحصول على الورقة والقلم، وأخيرا جاء (حسين) راكضا وبيده ورقة صفراء تفوح منها رائحة الرطوبة، ومعه أيضا قلم حبر جاف ربما سينفذ حبره قبل أن يؤدي مهمته كاملة!.

مسك خالد الورقة بيد ترتعش والعرق يتصبب من جبينه، وكتب هذه الرسالة التي سأنسخها كما هي حيث أُتيحت لي فرصة الأطلاع عليها:
(الى العزيز الذي أستمدّ من حنانه كلّ قوتي وصبري، الى من لا أجد غيره أن يخفف عني وطأة الحمل الثقيل، الى أخي وإبن أمي (سعيد) تحية مخلصة وأشواق حارة:
أخبرك أولا، بأنّ صحتي جيدة، لكنّ نفسي حزينة وقلبي مثقل، لقد أوشكت أن أفقد الأحساس بالأشياء التي حولي، تصور يا أخي، رغم انّ الطبيعة الجبلية ذات المناظر الخلابة والزاهية بورود النرجس وشقائق النعمان وأشجار الجوز المثمرة والمروج الخضراء وينابيع الماء الصافية والشلالات التي تنحدر من الأعالي والعصافير وطائر القبج والنسيم العذب وأشياء أخرى كثيرة تشبه لوحة جميلة رسمها فنان خفيف الأصابع، لكنّي مع ذلك لا أشعر بجمالها ولا أحس ببهائها، وكأنّ جميع الأشياء ميتة لا حركة فيها، وأني أكرهها وأهرب منها دائما، حتى صار الهروب دربا، سبيلا أسلكه لأعود الى الماضي الذي يمسك بتلابيب عواطفي، ولم يتركني لحظة واحدة، واذا سألتني عن أسباب هذا الشعور، فهي كثيرة، لكنّ الأشد قسوة يا أخي، هو الدم الدافئ الذي رأيته يسيل على الحجر، وفي الليل طالما أراه يسيل على وجهي!.

هل تعرف (ابو صابرين)؟!، أنه شاب رقيق يمتلك روحا صافية كالنهار، هادئ وأنيق، وجهه يبوح بالبراءة والعشق، ويحلم بمملكة النور والألوان!، كان نائما الى جانبي في تلك الليلة، لكنّه خرج قبل بزوغ الفجر، ذهب الى (كاني ساوين) وهناك قتلوه، قتلوه من دون أن يسمع أحد صدى أنينه، ولم يتركوا لأمه فرصة لكي تودعه الوداع الأخير، يا حزني على أمه، أليس هذه من أعظم الفجائع!!؟.

وكما تعلم، بأنّ (علي) مات مسموما بمادة الثاليوم، كان يتلوى من شدة الألم، وكان السم يمزق أحشاءه حتى تمكن منه، أمّا (وضاح) فقد كان معي في حوض (خلف الطواحين)، كنّا يوميا نتحدث عنكم، وعن أيامنا الحلوة حين كانت السعادة بيتنا ومأوانا، لكنّ الموت حام حوله، وظلّ يحوم حوله، حتى هبط في ليلة قاتمة، وسرق تلك البراءة والضحكة المجلجلة!.

أخي الحبيب، أشعر بالندم لأني أكتب لك بعضا من أحزاني، لكن قلْ لي بالله عليك، بماذا يفكر شخص مثلي يرى دم الأحباب يسيل على وجهه وهو نائم؟!، هل يستطيع أن يفكر بزهرة، هل يستمتع بمنظر طبيعي أو ينصت برهافة الى خرير جدول أو صوت عصفور؟!، وعلى الرغم من ذلك، فأني أحاول أن أطرد هذه الصور المؤلمة من رأسي، وأخبرك بشيء يفرحك!، لقد شاركت في ليلة من ليالي الشهر الماضي، في عملية اقتحام لربيئة من ربايا السلطة، التي كانت دائما تعترض طريقنا، وقد أطلقنا المزيد من الرصاص، حتى فرّ جنود النظام، ورفعنا علم الثورة فوق موقعهم!، هذه العملية أعادت لنا معنوياتنا، ورفعت من حماستنا وعززت ثقتنا بقدرتنا على التصدي لأي عدو يحاول التقرب من مواقعنا!!.

وأخيرا، أنا مشتاق لك كثيرا، وأرجو أن تكتب لي عن أحوالكم بالتفصيل الطويل، كما أطلب منك، أن تبعث لي أي خبر يصلك من أهلي، وخاصة أمي الحبيبة، لقد امتلأ قلبي شوقا اليها، تقبل مني أمنياتي ودمت لأخيك.... خالد).

تناولنا وجبة عشاء (الحمص والرز) سوية ومن (صحن) واحد، وكان خالد يأكل من دون شهية رغم الجوع الذي يعصر الأمعاء!، وبدا لي في تلك الأثناء، أنّه أكثر غموضا وأكثر بعدا في هروبه، ولم أعرف اذا كان خالد يفكر بالرسالة أم أنّ هناك أمر آخر يشغل ذهنه، ولكني بدأت أخاف من شروده الطويل، الذي قد يجلب له نوبة عصبية كما في المرة السابقة.

وبعد العشاء، أخذ خالد كوبا من الشاي، وابتعد عن المطبخ بمسافة، ثم جلس على جذع شجرة يابس ومطروح على الأرض، ترددت في أن أتبعه، وفكرت مع نفسي أو هكذا خمنت، بأنه يريد الأنفراد مع نفسه ويختبئ لساعة داخل أحلامه، وخاصة أن الوقت قبل الغسق يستدعي المزيد من الحنين والذكريات الجميلة، كما انّ الكثير منّا في أوقات كهذه، خاصة عندما يوافيه سأم ويلمّ به حزن يكون بحاجة الى قسط من حياة منزوية!، لكنّ خالد كان شديد الحرص على عزلته، يرفض أن يخترقها أيّ ضجيج أو تفسدها إثارة، يغدو في بعض الأحيان روحا متوحدة، ناسكا غريب الأطوار!، طفلا يعيش مع دُماه، وأحيانا يكون عاشقا، مشبوب العواطف ورومانسي النفس!.

لم أصمد لوقت أطول، فوجدتني أحمل كوب الشاي وأذهب في أثره، علما بأن ليس لدي أية دوافع خاصة أو سيئة في سلوكي هذا، ولم يخطر ببالي أبدا ان أتحدث معه في ايّ موضوع له علاقة بخصوصياته، ولم أفكر ساعة في الدخول الى أعماقه وسبر أغوارها، جلست الى جانبه على جذع شجرة البلوط اليابس، ورحت أدندن بأغنية فلكلورية معروفة، فألقى عليّ خالد من عينين صافيتين ينمان عن ذكاء، نظرة هادئة وحزينة يخالطها نوع من الغموض، وسألني :
- هل فكرت في لحظة معينة بالأنتحار؟!.....

يا إلهي.. من أيقظ في تفكيره هذا السؤال!.. صُعقت.. طاش صوابي.. دار بي الجبل.. تاهت هيئتي.. إنقلبت الأشياء في رأسي عاليها سافلها!!.

لكنّي مازلت مصراً أن اكون ظله!.....
 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter