|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  18  / 9 / 2021                                نصير عواد                                 كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

طبعات العنف العراقيّ

نصير عواد
(موقع الناس)

انتجت الحالة السياسيّة بالعراق، من بين ما انتجت، شرائح اجتماعيّة تعاني من متلازمة (الجهل\العنف) منفصلة عن عواقب افعالها. تأتيها الأوامر من فوق، فتقتل من دون الشعور بالذنب والندم، يرافق ذلك شعور قانع بانها تنفذ الأوامر، وأنها لا تتحمل مسؤولية ما حدث. وهذه المتلازمة التي تعطل مبدأ المسؤوليّة عند الأفراد، ستعطل في طريقها الضمير والقيم والمقدسات. وتجعل من قتل النفس، التي حرم الله إلا بالحق، أصغر الصغائر. وأحيانا تصور قتل الآخر المختلف دينيّا او عرقيّا او سياسيّا كنوع من البطولة والتقرب لرب العالمين. فـــ "عدالة السماء" عند المصابين بهذه المتلازمة مقدمة على قوانين الدولة وأعراف المجتمع، وعندها الذين يُقتلون باسم الرب هم ليسوا شهداء، محرومون من جنة الله وعطفه، يدعم ذلك خطاب دينيّ بلا ملامح، يأتي على المواطن ويبرّر للسّلطان.

كانت الحكومات المتعاقبة قد اقترفت أخطاء جسيمة في قمعها لشيعة العراق ودفعها لعقود صوب الهامش، فذلك صنع بينهم اجيالا قليلة التعليم والمعرفة، يجري بسهولة اشعال عواطفهم وتوظيفها لأغراض قد لا تصب في مصلحتهم. فيهم الفرد المهمّش يجري شحنه بمصطلحات الطاعة والبطولة والمظلوميّة، وفي حمله السلاح ومساهمته في النشاط الجماعي سيشعر بأن شخصيته تُبعث من جديد، فثقافة القطيع تعطي شعورا بالقوة والاعتداد بالنفس من دون أسس معرفية، الأمر الذي ينتج مقاتلين يتصفون بصفات القطيع، مشحونة رؤوسهم بالثأر والسخط والماضي البعيد، تتداخل فيها (أنبل المشاعر واسوء الغرائز) كما يقول سيجموند فرويد. ووسط هذا الركام من الفوضى والعنف علينا ان لا نكتفي فقط بألقاء اللوم على دول الجوار والغرب الرأسماليّ فيما انتهى إليه العراق من خراب، في حين توجد جيوش من المحبطين والمهمّشين في الاحياء الفقيرة وعند أطراف المدن، لم تعمل الدولة على تعليمهم وتشغيلهم وتوفير الخدمات لهم.

إنّ وجود تفاوتات بين العنف الشخصيّ، كالسرقة والشتيمة والاعتداء.. وبين العنف الممنهج الذي تمارسه أحزاب ومنضمات، لا يقلل من حقيقة انهما معا يهددان الامن والاستقرار في المجتمع، وإن كان ذلك لأسباب واهداف مختلفة. وسوف لن نتوقف عند الجرائم الناتجة عن طابع شخصيّ او تفريغ لحالة مرضية، فما يهمنا هو العنف الفرديّ الممنهج، المرتبط بمجموعة سياسيّة، والذي قد يتحوّل إلى إرهاب. فهناك الكثير من الجرائم السياسيّة بالعراق أُوكلت لأفراد تعساء، عندهم نداءات الدفاع عن الدين والمذهب مسموعة وجاذبة للانخراط في مجموعات مسلّحة، مستقلة ماليّا وتنظيميّا، لها من يمثلها بالحكومةِ والبرلمان. إن مأسسة العنف، ثم تبريره سياسيّا ودينيّا، سيؤدي بالتدريج إلى اشاعته بالمجتمع، وسيؤثر بالضرورة على حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعيّة، وبالتالي افساح المجال للأفراد في ان يأخذوا دورهم فيه، إذ لا يوجد ما يضمن بقاء الفرد متفرجا إلى ما لا نهاية. العراقيون، أفراد وجماعات، يدركون جيدا ان العنف الذي لوث حياتهم قديم ومتراكم، نحتت كلماته من التاريخ البعيد ومن حروب الديكتاتور، ولم يكن النظام الجديد الذي سنّه دستور "بول بريمر" المحاصصاتي سوى طبعة أخرى من العنف، بعد ان ألغى مؤسسات الدولة وخلق الفرقة بين اعراقها واقوامها، وأطلق العنان لفوضى مجتمعيّة أدت إلى نشوء العشرات من التيارات المسلّحة التي جعلت من العنف ضرورة حياتية لاستمرارها وأثبات وجودها في الشارع. وفي نظرة عامة على هذه التيارات سنرى هشاشتها التنظيميّة وكيف أن أي خلاف داخليّ سينتج تيارا مسلّحا جديدا أكثر قسوة، سنرى بغضها للدولة ومؤسساتها وفي ذات الوقت افتقادها لأية رؤية أو مشروع سياسيّ لحل مشاكل المجتمع. تيارات تتسمى بأسماء قديمة ترتبط شكليّا بالدين، ومقاتليها يميلون إلى أنماط الحياة القديمة في الطعام والكلام والّلباس، والقتل أحيانا. بل حتى مبدأ السرّية، الذي هو مصدر قوة وغطاء لنشاطهم، استلفوه هو الآخر من مبدأ "التقيّة" القديم، المظلم والمليء بالأسرار. رغم الانسجام الشكليّ، الذي قوامه المظلوميّة والدفاع عن المذهب، إلا انه لا يوجد انسجام بين هذه التيارات، حتى لو ادعوا غير ذلك. ليس فقط بسبب كثرة الانشقاقات بينهم وتعدد المرجعيّات المذهبيّة التي ينتمون إليها، داخل العراق او خارجه، بل ان التزاحم على السلطة والنفوذ هو الذي يغذي صراعاتهم. فتراهم يعيشون اشبه بالأخوة الأعداء، ولا أحد يعرف متى يعلو صوت الرصاص.

الطائفيّة هي اسوء أنواع التديّن، وان ارتباط العنف بالدفاع عن الطائفة أنتج أكثر طبعاته سوداوية، أدى بأصحاب الادمغة التعيسة إلى ان يتجاوزوا إنسانيتهم، ان يقتلوا على الهوية من لا يعرفونهم حتى لو كانوا أبرياء، في حروب ما زال جمرها تحت الرماد. فتوقف المناوشات لم يعطل آلة القتل، وهناك الكثير من عمليات الاغتيال بالعراق اشارت إلى ان القاتل لا يعرف ضحيته وليس له عداء شخصيّ معه، وانه لم يتخذ قراره بالقتل بعد محاورة مع الذات، بقدر ما هو فعل وقائي تمارسه الجماعات المسلّحة بقرارات فوقية لتصفية من تراهم يشكلون خطرا عليها. ففي الظروف الاعتيادية، وبتوجيه من قادة المجموعات المسلّحة، ينشط تعساء القتلة في حوادث منعزلة لتصفية مثقف هنا وسياسيّ هناك وصاحب معمل في الجوار، ولكن عند احتدام الصراع على السلطة والنفوذ، أو في حالة الدفاع عن المذهب، سينفلت السلاح وتعم الفوضى ويكون أغلب الضحايّا هم من الأبرياء. وفي الحالين تبدو عمليات القتل انها لا تترك عند منفذيها الكثير من الندم ووخز الضمير. فالفرد الذي يعيش في وسط خانق، مدفوع بروح إيمانيّة، لغايات سياسيّة أو طائفيّة، لا يمكن بسهولة إقناعه بخطأ وخطورة ما يفعل، إلا في حالة ابعاده عن وسطه. لأنه عندما تبقى يد المقاتل على أخمص بندقيته طويلا، بين مقاتلين على شاكلته، سوف تنحسر عنده مساحة الخوف ولا يفكر لحظتها بالنتائج التي تعقب القتال، ولا ينشغل بطبيعة المعاناة الاجتماعيّة والسياسيّة التي ستتركها رصاصاته. وفي ذات الوقت ستغيب عن باله حكاية ان افعاله قد تُستخدم ضده في قادم الأيام، وأن الذين اعطوه الأوامر قد يتخلون عنه، وبالتالي عليه ان يجيب عن أفعاله.

لا نأتي بجديد في قولنا إنّ أي احتلال سيصنع مقاومة وطنيّة. وأن أي قمع تمارسه السلطة الحاكمة ضد شعبها سينتج أحزاباً ومنضمات سرّية. وأن أي استبعاد لشريحة اجتماعيّة من الفضاء السياسيّ هو بمثابة بذرة للعنف القادم. أما التفكير في تصفية هذه شريحة او تلك، لأسباب طائفيّة، فهو ببساطة اشعال للحرب الاهليّة. العراق والحمد لله عانى كل ذلك، وهو ما جعله عرضة لانتشار السلاح وممارسة العمل السّري. وجد فيه الكثير من التعساء الحل بالانضمام للمجموعات المسلّحة، بعضهم جذبته هالة السرّية والاخبار المبالغ فيها التي تتناقلها الذاكرة الشفاهيّة عن أصحاب الثياب السود، وبعضهم الآخر مدفوع بروح الوصول للخلاص في ظهور الامام الغائب، وآخرون وجدوا ذلك فرصة لتحسين أوضاعهم الماديّة والسياسيّة. وهذا الموزاييك لا يخفي انهم ثورويون بنزعة فوضوية، يبحثون دوما عن عدو مفترض، يتوجب صنعه إذا خلت منه الساحة، إذ لابد من حروب جانبية تضع "حماة المذهب" دوما في موقع المنقذ والمنتصر، حتى لو كانت فزعة ضد الحكومة التي شكّلوها هم أنفسهم. هذا يمهد لنا بالقول ان مقاومة المليشيّات المسلّحة للاحتلال الأمريكيّ، وقتالها داعش الإرهابيّة، في فصل منه كان دفاع عن الوطن، وفصول منه كانت لتثبيت سلاحهم وسلطتهم ونفوذهم، وكل ما حدث في الأعوام القليلة الماضية أوضح ذلك. والمتتبع لسلوك المليشيّات المسلّحة سيشعر انه حتى لو تغيرت الظروف في قادم الأيام وخرج الاحتلال من العراق وانتهى وجود الارهاب على الأرض فإن هذه المليشيّات سوف لن تلقي سلاحها، بسبب انها أُنشأت كمجاميع مسلّحة وتظن في ترك السلاح نهايتها.

كل عراقيّ تفصله عن عراقيّته هوتيّن، القبيلة والطائفة. وفي نظرة عامة على الفصائل المسلّحة بالعراق سنرى تشتّت اعضاؤها بين القبيلة والطائفة والوطن. فيها الولاء للطائفة أعلى بدرجة من الولاء للقبيلة، ثم يأتي الوطن في آخر التصنيف. فثمة على الدوام ترسبات تبقى ناشطة تحت ركام القبيلة والطائفة تؤثر على المتديّن والسياسيّ، والمثقف أحيانا. وهذا يشير إلى ان الولاء الطائفيّ لا ينتعش فقط بين الفقراء والمهمّشين بل كذلك بين أفراد العوائل المحترمة، وبين الأوساط الدينيّة المشحونة بالخرافة والتعصب الدينيّ، إضافة إلى انتشاره الاجباري بين المواطنين الذين عملوا في مؤسسات النظام السابق ووجدوا في الانتماء الطائفيّ حماية لهم ولعوائلهم. إنّ ما حدث من هيجان بالعراق بعد سقوط الديكتاتور اشار إلى ان الطائفيّة قديمة، ومتعاقبة زمنيا، تهب وتخمد حسب طبيعة الصراع، لا ينجو من شررها حتى مَنْ يَعتْزل. الطائفيّة نتيجة وليست سببا ولذلك لا يمكن القضاء عليها بالحلول الفوقيّة، فهي مثل باقي الظواهر تنتعش وتضمحل في سيرورة الصراع، وبالتالي شئنا أم أبينا ستأخذ دورها في فترات الانحطاط المجتمعيّ. أما دورنا فهو ليس سوى الحد من اضراراها، وعدم الخلط بينها وبين الدين، والاستماع للتيارات المعتدلة بينها، والعمل على تنشيط الذاكرة الوطنيّة لغرض دفع الشارع للحفاظ على قيّمه المجتمعيّة...










 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter