|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأحد  1 / 3 / 2015                                                      نجاة تميم                                          كتابات أخرى للكاتبة على موقع الناس

 
 

 

الغيرية في رواية "هروب الموناليزا، بوح قيثارة"

نجاة تميم

عندما أهدتني الشاعرة بلقيس حميد حسن كتابها. لفتت نظري كلمتا هروب وبوح. فالهروب يقتضي مواجهة المستجدات والبوح يأتي كاعتراف ومحاولة التراضي مع الذات. وعلى إثر هاتين الكلمتين بنيت الرواية على مستويين.

لكن قبل أن تخوض الكاتبة مشروعها، توجهت إلى القارئ في فصل خاص "ما قبل البوح" واتخذت موقفا مسبقا من الآخر. اعتزمت البوح معتبرة نفسها الناطق الرسمي للمرأة "الشرقية"، المظلومة والمحاطة من كل ناحية بسهام التهم ومحاولة الإيقاع بها في كل لحظة. فتقول: "سنبوح أنا وهي، وهن، سنبوح نحن نسل حواء، الخارجات إلى الدنيا من ثنايا أضلاعكم. سنبوج، لكن بوحنا لا تنتظروا أن يكون حقيقيا وتاما." وتكرر أنها ليست كاتبة روائية، وأنها لا تجيد فنها. و"إنما أنا امرأة تبوح بما عانت، وعانين من عرفتهن لا أكثر، أردت أن تروا حياتكم وحياتنا من أعماقها لتعرفوا ماذا صنعتم بأيديكم.."

تحتوي الرواية على مقدمة وسبعة وعشرين وتر قيثارة، تتنقل الراوية فيما بينهم من خاطرة إلى أخرى؛ تارة تعلمنا عن طفولتها وتعرضها للتحرش الجنسي وتارة تضعنا أمام واقع قاسي ونهايات مؤلمة لشابات؛ كمصير عدالة العمياء و اعتداء ابن عمها عليها وقتل، غسلا للعار، نورية القاصرة ودويدة المتخلفة عقليا وكاظمية وكريمة وغيرهن كثيرات.

في المستوى الأول، تعلمنا الشخصية الروائية "موناليزا سامي الخطيب" عن تفاصيل هروبها من بطش النظام الحاكم وهي الإنسانة اليسارية الملتزمة والمعارضة لهذا النظام المستبد. وفي نفس الوقت ترجع كل ما آلت إليه إلى ظروف طفولتها في مجتمع ضيق ومغلق على نفسه.

أما المستوى الثاني فيشمل قصة صديقة موناليزا واسمها سومر. هذه الأخيرة تحاول التخلص من عبء أسرار حياتها وعلاقتها برجل متزوج. فتبوح لموناليزا بقصتها وتطلب منها أن تدونها كرواية. "فسومر، المرأة الشرقية المثقفة والرائعة والفنانة هي "سومر الحضارة الأولى" تعاني من الوحدة والغربة والانكسارات في حياتها وتلقي باللوم أحيانا على إهمال حبيبها لها وأحيانا أخرى على الظروف الاجتماعية التي نشأت فيها. وكلاهما تقصان حياة نساء مناضلات أو عاديات بمعاناتهن وظلم المجتمع الذكوري لهن. لكن قصصهما لا تخلو من شذوذ الرجل وحرمانه الجنسي ومعاناته النفسية التي لا تعيرها أي من الراويتين - موناليزا وسومر- أي اهتمام.

إن الشخصيتين موناليزا وسومر هما وجهان لعملة واحدة. لم تعد موناليزا كما كانت عليه، فبعد الهروب حلت مرحلة مواجهة الغربة وقساوة الوحدة؛ امرأة ولدت من جديد، تعيش في بلد أوروبي متقدم. تحاول إيجاد ذاتها وتكتشف جسدها. امرأة في الأربعين تتحمل مسؤولية طفلة. تعتبر هي أيضا عائقا بالنسبة لاختياراتها في الحياة. فهي التي وجدت الحرية أخيرا في بلد المهجر تقول: "..وأنا اليوم حرة أن أختار أسلوب الحياة المناسب لي والذي يتلاءم مع إمكانياتي دون تأثير من ظرف أو خوف من أحد. آه الحرية.. الآن صار الوقت متأخرا كثيرا. العالم يفتح أبوابه للشباب برحابة وثقة، أما في عمر يقارب الأربعين- وامرأة مع ألحانها المهاجرة، وطفلة صغيرة لا تعرف أحدا سواها- فالفرص تتضاءل".

موناليزا التي تكبدت المتاعب وأنهكها الخوف والرعب من أتباع النظام تنجح أخيرا في الهرب من العراق. لكنها اكتشفت معاناة الغربة والوحدة وصعوبة استيعاب الثقافة الغربية وتعلم اللغة للاندماج في المجتمع الأوروبي. كل هذا عمق غربتها وازداد حنينها إلى الوطن الأم، مما جعلها تتشبث أكثر بانتمائها وهويتها؛ وبذلك تصبح "سومر الحضارة الأولى".

الآخر

بالرغم أن الراويتين موناليزا و سومر شخصيتان تتوفران على ثقافة عامة من خلال استشهادهما بالعديد من الكتاب، استغرب كيف لموناليزا اليسارية والتي تدافع عن حقوق الانسان أن تستشهد بمقولة أرسطو الذي يرى أن العبودية عنصر أساسي من عناصر الاقتصاد: "العبد الحقيقي هو الذي لا يستطيع التصريح بآرائه،"
ص16 أو بالأحرى يقول أرسطو: "العبد الحقيقي هو ذلك الذي يستطيع التصريح بآرائه." وفي كل الأحوال، هل هناك عبد حقيقي وعبد مزور؟

وتستشهد الراوية كذلك بمثل انجليزي يقول" ليس المهم أن تعرف سبب الدموع، لكن المهم أن تعرف كيف تمسحها".. أليس من المعقول أن تعي سومر سبب تعاستها وتحلل وضعها لكي تتجاوز محنتها واستحالة علاقتها مع حبيبها ؟ هذا الأخير الذي تربطه بها دهشته" بهذا الاكتمال الأنثوي" وهو يردد قول غوته: "وُجدت لكي اندهش".
ص24 إنها "المرأة التي لها دينها الخاص وفلسفتها المستهجنة من مجتمعها"، لكنها، رغم ذلك، لم تستطع الاندماج في المجتمع الأوروبي ولا مع موسيقاه بالرغم أنها موسيقية وتتساءل إذا كان هذا نقصا حضاريا في تكوينها. "فكل اللواتي دخلن عالمها منذ الطفولة كأحلام وكوابيس وأفلام رعب، كلهن كون شخصيتها." قتلتها الوحدة واعتقدت أنها أخيرا وجدت شبيها لها رأت فيه لونها ولسانها؛ الحبيب المتزوج من الأخرى المعلنة، الأوروبية، المتسلطة، القوية، الثرية ومن طبقة راقية، طبيبة ومستقلة، والتي علمها مجتمعها الثقة بالنفس وبالآخرين. أما العشيق، والمُهمل لها، فما هو إلا المتلقي حامل عقدة الشرق، عقدة الخواجة، عقدة الضعيف أمام القوي، عقدة التخلف أمام الحضارة. فهو الذي يبوح لها بأن زوجته توصيه:" مارس الجنس معها ولكن لا تحبها." ص215 لقد سمعَت أن الأوروبيين ينامون عراة وأنهم غير مهتمين بالجنس. فبرودة بلدانهم قد تنعكس على رغباتهم الجنسية. لكن هذا الحكم المُسبق ألغته سهير، المتزوجة من أوروبي، والتي سبق لها أن جربت أكثر من خمسين رجلا عربيا وأوعزت عجزهم الجنسي إلى الخوف من الحكومات الذي أمات أعضاءهم. ص211.

كانت سومر تحسب نفسها موضوعية في الحكم على الآخرين. وتستشهد بمقولة سارتر:" الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي، هو مفتاح لفهم ذاتي والإحساس بوجودي."
ص45 وتتساءل، أحيانا، عن جدوى علاقتها بحبيبها وهي التي تؤمن بمقولة ابن حزم:" المهم أن أمتع روحي منه وهذا غاية الحب، فالحب عنده ليس بالضرورة متبادلا. أحبني أم لم يحبني، روحي تعشقه وتريده هو دون سواه، وأنا وروحي شيء واحد." لكنها تعود وتسخر من نفسها وتصفها بالغرائزية والأنانية، لأنها لا تحبه هو لذاته إنما تحب ذاتها، وتسترسل: "ولكي أسعدها أراني متحملة هذا الضيم ومستمرة في العلاقة طمعا في سويعات اللذة والسعادة." وتناجي نفسها، " يا ترى هل العشق في المنفى هو عشق حقيقي؟ أم علاقة مشبوهة بالوهم غالبا؟ ص80 "فهل الحب بهذه الطريقة حب للذات أكثر منه حبا للآخر؟" وهكذا تستمر مناجاتها وتساؤلاتها العديدة والمتعددة :

"فمن يفهمني يا ترى؟"
"ما الذي أذنبته أنا؟"
"أمثلي تستحق هذا؟"
"ومتى سأعرف الحقيقة؟"
"ليتني أجد الإجابة وأرتاح.."

"فالعاشقات، هن، أنا، نحن، ما زال الرجال يقتلوننا يوميا، بشتى الأساليب، كما يقتلني الحب ببطء وصمت."
ص 164
لكن شاءت الظروف، أن تكون سومر وابنتها "لقاء" ضحية انفجار فندق في الأردن، عام 2005، وهما في الطريق لزيارة الأهل في العراق.

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter