|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  19  / 5 / 2019                                 د. صادق أطيمش                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ارحلوا
(5) الأخير

د. صادق أطيمش
(موقع الناس)

وعلى هذا ألأساس يمكننا التمييز بين الدولة العلمانية والدولة أللادينية على أساس أن الدولة العلمانية تأخذ علاقة المجتمع بالدين بنظر الإعتبار فتحاول تنظيم العلاقة بينها وبين المؤسسات الدينية على أساس القوانين العامة التي وضعها المجتمع ، اي القوانين الوضعية ، والتعامل معها ضمن هذا السياق الذي يجعل المؤسسة الدينية تتحرك ضمن ضوابط معينة تتحكم فيها القوانين العامة طالما تعلق ألأمر بعلاقة هذه المؤسسة الدينية بالنشاط ألإجتماعي العام كالدعوة إلى الدين مثلآ او جعل مادة الدين كمادة مدرسية ضمن البرامج التعليمية للدولة دون إجبار الطلبة على دخول درس الدين وحقهم باختيار درسآ بديلآ في الثقافة العامة إذا إقترن هذا الرفض بموافقة أولياء أمر الطالبة أو الطالب , أو جعل بعض المناسبات الدينية عطلة رسمية لكافة مؤسسات الدولة ألأخرى وغير ذلك من التعامل مع الدين من خلال كثافة تواجده في المجتمع . وبما أن مفهوم الدين لدى هذه الدولة يتصف بالعمومية , فإن مثل هذه ألإجراءات لا تكون مقتصرة على دين معين , بل أنها تشمل جميع الأديان التي تتواجد ضمن الحدود الجغرافية للدولة بكثافة سكانية تؤهلها لأن تشكل ظاهرة إجتماعية واضحة في مجتمع الدولة العلمانية . ففي ألمانيا مثلآ تم وضع تدريس الدين ألإسلامي في المدارس الرسمية ضمن المنهج التعليمي العام في المناطق التي يتواجد فيها عدد كاف من الطالبات والطلاب المسلمين. ولعل ما كتبته الباحثة ألإجتماعية فاطمة المرنيسي في كتابها " ألخوف من الحداثة , ترجمة د. محمد ألدبِّيات , دار الجندي , سوريا " يوضح لنا بجلاء موقف الدولة العلمانية بهذا الخصوص .

كما يمكننا التمييز بين الدولة العلمانية والدولة ألدينية من خلال عدم تمييز الدولة العلمانية بين دين وآخر من ألأديان التي يدين بها أفراد المجتمع . إن الدولة العلمانية تعتبر نفسها مسؤولة عن حرية وجود وممارسة جميع ألأديان مهما كان عدد المنتمين إلى هذا الدين أو ذاك , إذ لا تلعب ألأكثرية أو ألأقلية هنا أي دور أمام معاملة هذه ألأديان ومنتسبيها معاملة متساوية . الدولة العلمانية , بخلاف الدولة الدينية , لا تتبنى أي دين , إلا أنها تحافظ على كل دين . إن ذلك يعني أن جميع ألأديان تتمتع بنفس الحقوق وعليها نفس الواجبات بغض النظر عن قلة أو كثرة منتسبيها ولا سلطة لدين الأكثرية على أي دين آخر ولا دور لدين الحاكم أو الفئة الحاكمة في تقديم دين على آخر, حيث أن المبدأ العام لهذه الدولة لا يعترف بوجود أفضلية دين على دين آخر. في الدولة العلمانية لا يفضل المؤمن بدين ما على غير المؤمن ولا الرجل على المرأة , بل أن الكل سواسية أمام القانون ، اي مبدأ المواطنة ، الذي يجري تطوره  مع التطور الحديث في الحياة. الدولة الدينية تجعل من تشريعاتها التي يسنها البشر تشريعات إلهية غير قابلة للنقاش والنقض وإنها مجردة عن الزمن وتتمتع بصلاحية الحقيقة المطلقة , بخلاف الدولة العلمانية التي تخضع كل تشريعاتها وقوانينها للمراقبة الشعبية الصارمة التي قد تنقضها يومآ ما لتحل محلها تشريعات تنسجم وروح العصر الذي تعيش فيه , في حين تتمسك الدولة الدينية بالنص الحرفي حتى وإن قيل قبل آلاف السنين . وباختصار شديد يمكن القول دون أي تردد أن الدولة الدينية دولة دكتاتورية في حين تمثل الدولة العلمانية أعلى مراحل الديمقراطية .  ، لقد قامت في التاريخ دول علمانية خرجت عن المفهوم الديمقراطي للدولة العلمانية ، وبذلك فقدت صفتها العلمانية هذه فتحولت الى دكتاتورية بالرغم من فصلها الدين عن الدولة ، وهذا ما يؤكد بجلاء مدى ارتباط العلمانية بالديمقراطية التي اخذت مفهوماً جديداً متطوراً لا ينطلق من الثوابت السابقة المتعلقة بالأكثرية والأقلية فقط ، بل ومن انسنة الديمقراطية ، اي توظيفها لخدمة الفرد المواطن بغض النظر عن الإنتماءات وعن العدد الذي تشكله مجموعة هذا المواطن. وهذا يعني ان المواطن الواحد له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات التي تطال المواطنين الآخرين كثُر عددهم او قلَّ . وعلى هذا الأساس يصبح مصطلح " الأقليات " الذي نستعمله اليوم للإشارة الى بعض المواطنين العراقيين ، مصطلحاً مرفوضاً لا ينسجم ومراحل تطور انسنة الديمقراطية.
  
ونظرآ لهذه الإختلافات المبدئية بين الدولة الدينية والدولة العلمانية يسعى ألإسلام السياسي إلى لصق صفة ألإلحاد بالدولة العلمانية لأنه لا يستطيع أن يقارع الحجة بالحجة على أرض الواقع المعاش الذي لا يريد أن يعترف به ألإسلام السياسي , وخاصة المتطرف منه , والذي يتجاهل التطور التقني والعلمي والإجتماعي فيسعى إلى ربط المجتمع بنصوص لم تعد تنسجم والواقع الذي يعيشه المجتمع اليوم ومن ضمنه ألإسلام السياسي ومنظروه أنفسهم. إن الدولة العلمانية تحافظ على المقدسات بشكل أوسع وأعمق وأكثر إلتصاقآ بالواقع مما هو عليه في الدولة الدينية التي تتبنى واحدآ فقط من هذه المقدسات لتجعله سائدآ باسم الحقيقة المطلقة التي تتبناها الدولة الدينية, والتاريخ يعلمنا ما قاد إليه تبني فكرة الحقيقة المطلقة في أوروبا العصور الوسطى وما يقودنا إليه تبني هذه الفكرة اليوم , خاصة في بعض المجتمعات ألإسلامية التي تتحكم في شؤونها االأحزاب الدينية . وللإمعان في تأليب الجماهير على الدولة العلمانية يسعى ألإسلام السياسي , بسبب فقره الفكري , إلى طرح الدولة العلمانية وكأنها تسعى إلى فصل الدين عن المجتمع أو عن السياسة وليس عن الدولة . وهنا يجب التأكيد على بعض الحقائق الثابتة التي يجهلها أو يتجاهلها ألإسلام السياسي :
أولها أن إعتراف الدولة العلمانية بكل ألأديان يجعلها مؤهلة أكثر من الدولة الدينية على إحترام إرادة وتوجه كل أفراد المجتمع وتحقيق رغباتهم في ألإرتباط بأي دين كان وتسعى إلى تحقيق كل السبل المؤدية إلى ذلك . فالدولة العلمانية إذن لا تسعى إلى فصل الدين عن المجتمع , بل بالعكس فإنها تسعى من خلال قوانينها إلى تحقيق رغبات أفراد المجتمع في ألإرتباط بأي دين واستناداً الى القوانين السائدة ، مهما صغر أو كبر حجم الفئة الإجتماعية . إذن فالعكس هو الصحيح , اي ان الدولة الدينية هي التي تسعى لعرقلة إرتباط فئات إجتماعية بالدين الذي تريد إذا كان هذا الدين غير الدين الذي تتبناه الدولة الدينية والأمثلة على ذلك كثيرة جدآ سواءً في الدول الدينية في القرون الوسطى أو في الوقت الحاضر.

وثانيها هو ألإدعاء الذي يتبناه ألإسلام السياسي حول سعي الدولة العلمانية لفصل الدين عن السياسة . إن هذا ألإدعاء هو ألآخر ينم عن الجهل المطبق لمبادئ الدولة العلمانية التي تسعى لمنع المؤسسات الدينية للأديان المتواجدة ضمن حدودها الجغرافية من ألتأثير على التوجه السياسي لمنتسبي هذه ألأديان , بخلاف ما ينص عليه دستور الدولة العلمانية وقوانينها التي اقرها الشعب عبر ممثليه في مؤسسات الدولة. أي أن لا تربط توجهاتهم ألإنتخابة مثلآ بالعامل الديني , كما فعلت وتفعل بعض ألأحزاب ألإسلامية التي ربطت إنتخاب أوعدم إنتخاب قوائمها بالثواب والعقاب الرباني . والدولة العلمانية لا تتعامل مع رجل الدين الذي يخوض العمل السياسي من منطلق المقدس الذي لا يتعرض للنقد وتفنيد طروحاته السياسية دون أن يرتبط هذا النقد والتفنيد بالصفة الدينية لرجل الدين هذا الذي يجري التعامل معه في هذا المجال كأي سياسي آخردون أخذ أي إعتبار لموقعه الديني , وعلى رجل الدين هذا أن يخضع لنفس القوانين التي يخضع لها أي سياسي آخر حينما يقرر ممارسة العمل السياسي . أي أن إزدواج الشخصية الدينية بالشخصية السياسية , هذا ألإزدواج الذي يسعى له ألإسلام السياسي , أمر مرفوض في قوانين الدولة العلمانية . أما الفصل الذي تسعى إليه الدولة العلمانية  فهو , كما أشرنا أعلاه , الذي يتضمن حيادية الدولة , كمؤسسة إجتماعية عامة , تجاه كل الأديان التي يتبناها أفراد مجتمع هذه الدولة دون تمييز أو تفريق بين أي دين أو آخر. أي فصل الدين عن الدولة ، باعتبار ان الدولة العلمانية لا تتبنى اي دين ، لإلا انها لا تضطهد اي دين او تابعيه بخلاف الدولة الدينية التي لا ترضى إلا بما تتبناه من دين .

 ألدولة أللادينية لا يمكن ألإقتداء بها , في مجتمع كمجتمعنا الذي تتعلق شرائح كبيرة منه تعلقآ فطريآ بالتعاليم الدينية , وبالرغم من الصفة أللادينية لهذا النوع من الدول والتي تناولنا فرنسا كمثال لها , نجد أن كثيرآ من المسلمين يحاولون وبشتى الطرق الوصول إلى هذه الدولة هربآ من الجحيم الذي يلاقونه في دولهم التي تسمي نفسها إسلامية . لقد دلت كثير من ألدراسات التي قامت بها مؤسسات عالمية مختلفة بين المسلمين على تفضيل فرنسا كبلد لجوء او عمل على كثير من الدول , خاصة ألإسلامية منها . ومعروف تمامآ ان ألإمام الخميني وجميع أفراد عائلته وحاشيته ومرافقوه قد لجأوا إلى فرنسا وقضوا فيها طيلة السنين التي سبقت مجيئهم إلى إيران بعد سقوط النظام ألشاهنشاهي . ومعروف أيضآ أن الجالية ألإسلامية في فرنسا والتي يشكل الأفارقة غالبيتها العظمى تحظى بمعاملة من قبل هذه الدولة أللادينية لا تحلم بجزء بسيط منها في أي دولة من الدول الإسلامية التي هربت منها.

أن التعلق ألإجتماعي بالقيم الروحية في المجتمعات ألإسلامية مشوب , في كثير من ألأحيان , بالتشويش المصلحي ألذي تمارسه بعض المؤسسات الدينية التي تستغل المشاعر الدينية للجماهير التي عملت ألأنظمة القمعية المختلفة على حرمانها من أبسط وسائل التعليم والثقافة التي تتيح لها الفرز بين التعاليم الدينية الحقة والمصالح ألذاتية لبعض الفئات التي جعلت من نفسها فيصلآ بين ألديني واللاديني , وذلك حسب ما تقتضيه مصالحها الذاتية وطموحاتها المرحلية . لذلك فإن الدولة ستتحمل مسؤوليتها في هذا المجال لتوعية الجماهير من خلال البرامج التعليمية والثقافة العامة بالمحتوى الإنساني للدين والبعيد عن ألإستغلال الشخصي والتطرف المذهبي والعداء للآخر الذي بلوره الإسلام السياسي في العراق , خاصة في السنين الماضية التي تلت سقوط البعثفاشية .

أما الدولة الدينية التي عشنا أمثلتها في النماذج اعلاه ، فلا أعتقد بوجود عراقي واع لما يدور في وطنه ألآن أوعاش حقب القمع الديكتاتورية أن يرضى بعودة هذه الحقب على شكل ديكتاتورية دينية هذه المرة.  لقد اثبت هذا النوع من الدول التي حاولت تسويق الدين ألإسلامي على طريقتها البدائية في عالم اليوم على أنها غير قادرة على تحقيق طموحات شعوبها التي جعلتها تتخلف عن الركب العالمي في جميع مجالات الحياة . ومن الجدير بالذكر هنا هو رد الفعل تجاه الدولة الدينية ألإيرانية الذي ظهر لدى كثير من العراقيين الذين لجأوا إلى هذه الدولة إبان التسلط البعثفاشي على العراق والذين يتعاطفون فكريآ مع هذه الدولة، لابل والمنضوين تحت راية نفس الطائفة التي تدعي ولاية الفقيه الدفاع عنها او تمثيلها مذهبياً . إن كثيرآ من هؤلاء العراقيين أخذوا يقدمون النصائخ لمن يعرفونهم من طالبي أللجوء من العراقيين أن يذهبوا إلى أية دولة من دول " ألكفر " ولا يحاولون أللجوء إلى إيران، وذلك بسبب المعاملة القمعية التي تلقاها هؤلاء اللاجئين الى ولاية الفقيه بالرغم من انتماءهم الفكري والمذهبي لهذه الولاية.

أما دول الهجين الثيوقراطي العلماني فهي التجربة التي نعيشها منذ ما يسمى بالإستقلال الوطني وحتى اليوم على جميع بقاع المجتمعات ألإسلامية . ولا ضرورة تدعونا الآن لشرح المآسي والنكبات والكوارث والهزائم والإحباطات والتخلف والفساد الذي رافق هذا النوع من الدول منذ وجودها ولحد ألآن , إذ أن كل شيئ بات معروفآ حتى لأبسط الناس في هذه المجتمعات . لذلك فإن المجتمعات ألإسلامية التي تعيش كل ذلك اليوم , ومنها مجتمعنا العراقي , تنتظر التغيير الذي يقودها إلى غدها الواعد بكل شيئ , وإن هذا الغد لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن أُطر الدولة العلمانية .

نظام ألدولة العلمانية , لمزاياه أعلاه , هو نظام الدولة ألأمثل للمجتمعات الإسلامية وللمجتمع العراقي الذي يتألف من طوائف وأديان وقوميات مختلفة يجمعها الإنتماء للوطن الذي يجب ان يظل وطنآ للجميع لا يُفَضَل فيه دين على دين ولا قومية على قومية. الهوية الوطنية هي الفيصل في معاملة الدولة لمواطنيها , وليس أي شيئ آخر غير المواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات . هذه العلاقة الإنسانية الحرة المتفاعلة مع روح العصر هي العلاقة التي نرجوها بين الدين والدولة في عراق الغد , العراق الخالي من الطائفية والطائفيين , العراق الذي يتطلع إلى ألأمام دومآ مواكبآ مسيرة البشرية في قرنها الحادي والعشرين، بعد رحيل عصابات الإسلام السياسي المتحكمة في شؤونه اليوم. فلنشدد من نداءنا برحيلهم الذي آن اوانه بعد كل هذا التردي الذي وضعوا وطننا فيه .






 


 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter