| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صباح الجزائري

 

 

 

الثلاثاء 12/2/ 2008

 

شهداء...غالية، و مصدر عزيمة لا ينضب، شهادتهم...

المهندس صباح الجزائري

لم يكن الشيوعيون في يوم من الأيام عشاقاً للموت، على الإطلاق ، كانوا عشاقاًً للحياة ، عشاقاً للمستقبل ،ذلك لأنهم ببساطة عشاق الحرية والسعادة. و لم تكن شهادتهم يوما و لن تكون شهادة من اجل الشهادة.
لكن هؤلاء الشيوعيون ليسوا كبقية عشاق الحياة اللذين لا يترددون أبدا ًً عن بيع الغالي والنفيس من اجل المحافظة على حياتهم، كلا فالشيوعيون معدن آخر تماماً. أنهم يحبون الحياة من اجل الوطن وحريته، انهم يحبون الحياة لأنهم يريدون ان يبنوا مستقبلاً سعيداً لأبنائه وزاهراً بهم ولهم.

تضحيتهم بحياتهم قمة في العطاء و نكران الذات . لم تكن في يوم من الأيام ، موعودة بشبر بالجنة او بمكافأة من قائد او حاكم، أو براتب تقاعدي لاحق أو بامتيازات لأسرة، وألا مالذي يدفع الشهيد غير نكرات ذاته عندما يهتف" يسعدني ان اشنق في نفس المكان الذي تنطلق منه تظاهرات الشعب" . و كأن شهادته تقول هذه مكافأتي رضا الشعب، العطاء يمنح هذه الساحة القدرة على التواصل مع القادم دوماً. ما أكرمك يا رفيق.

أنها تضحية صادقة كصدق الإنسان مع ذاته، إن استطاع ان يكذب على الجميع فأنه لن يستطيع الكذب على نفسه، وفي تلك اللحظات التي يكون فيها في موقع التحدي مع الموت، وألا ماذا يدفع الشهيد ،غير صدقه عندما يكتب على جدران زنزانته الانفرادية، وهو وحيداً ألا من الأمل و الصدق مع الذات في لحظة التجلي هذه " الحياة حلوة ولكن الموت في سبيل الشعب احلى". ما أصدقك يا رفيق.

أنها تضحية مخلصة بكل المقاييس، كإخلاص الأم لوليدها عندما تهم بإرضاعه الرضعة الأولى لأنها تعلم بأنها بذلك انما تمنحه الحياة، وألا مالذي يدفع الشهيد غير إخلاصه متحدياُ جلاديه " ان استطعتم القضاء على أجسادنا فإنكم لن تقضوا على أفكارنا" ، كم هي متحدية شهادتك يا رفيق.

تضحية معطاءة تروي الحياة كما يروي ماء النهر أرض معطاء لكي يخلق فيها ديمومة العطاء، يؤكدها الشهيد بهتافه"لو كتب لي ان اعود الى الحياة مرة أخرى لما اخترت غير هذا الطريق".انها كعذوبة ماء نبع بارد يدفعك عطشك للاستزادة منه اكثر، كم هي عذبة هذه الشهادة يا رفيق.

تضحية مؤمنة بالإنسان و بالغد الأفضل، غد العدالة و الإنسانية، تماماً كالأيمان بأن ظلام العالم كله لن يقوى على إطفاء شمعة، قوة الأيمان هذه تجسدت في هتاف الشهيد المدوي حتى هذه اللحظات في أذان أعداء الشيوعية " الشيوعية اقوى من الموت و اعلى من أعواد المشانق". كم هي قوية عزيمتك يا رفيق.

نعم أرعبهم هذا التحدي و تجسد رعبهم هذا بحجم جرائمهم التي توالت على الحزب ورفاقه و خيبتهم في كل لحظة في القضاء عليه، أرعبهم هذا الهتاف و لما يزل ، مثلما أرعب الشهيد جلاديه بصمود أسطوري في قصر النهاية اثر انقلاب شباط الأسود من عام 63، أطار صوابهم وأشعرهم بضآلتهم و صغرهم وسفالتهم و جبنهم، مرعوبون وهم يقطعون أوصاله، يرعبهم وهو المقيد أمامهم بهدوئه ، من إصراره على الموت شامخا و متحديا. انها وصمة عار في جباههم الى الأبد لم ولن يتمكنوا من غسلها على الإطلاق. ما اقوى وأروع تحديك يا رفيق.

كل شهيد في درب الحرية يغرس في الأرض نبتة، يغرس في الضمير فكرة، لم ولن يتمكن الطغاة من قلعها، العكس تماماً، كلما سقط شهيداً جديداً ترسخت جذور الحزب، اكثر عمقاً، في ضمير الشعب وكلما سقط شهيدا جديدا على ارض العراق او في سبيل العراق ، كلما رويّ بدمائه هذه الأرض الطيبة لكي يستمر العطاء ابدا.
ولهذا هم خالدون في ضمير الشعب ، لهذا لم يتمكن أعداء الحزب من القضاء عليه، ولن يتمكنوا، هم شهداء الشعب والوطن بحق و سيبقون شهداء هكذا بنظر أبناء شعبنا الأبي نفسه، خالدين ابدآ، مهما حاول المتجبرون إنكار ذلك ومهما حاولوا مصادرة تكريمهم كشهداء للوطن و الشعب.

الشهداء متساوي القامة. انهم يختلفون في مسؤولياتهم، في دورهم السياسي و التنظيمي، في موقعهم الحزبي ، في مكان استشهادهم، في طريقة استشهادهم ، و حتى في طريقة تحديهم، وفي أسلوب مقاومتهم لجلاديهم ، لكنهم أبداً متساوون القامة لأنهم قدموا أغلى ما عندهم وهي حياتهم في سبيل أهداف آمنوا بعدالتها.

هل نذكر الأسماء ؟ كلا فالقائمة تطول و تطول و لكن دعونا نتذكر سوية التنوع الهائل للشهادة. لأنها تمتد من التأسيس في ثلاثينات القرن الماضي أيام حكم الملكية التي لم تكن سوى أداة لتنفيذ مشيئة الاستعمار الأنكلوــ امريكي لبلادنا، فكانت شهادة التعذيب في أقبية السجون، وشهادة التصدي في الانتفاضات والتظاهرات الاحتجاجية ضد الإنكليز ومعاهداتهم الجائرة وأحلافهم العدوانية التي كبلت العراق آنذاك ظلماً وجوراً، لكن أين الإتعاض من دروس الماضي عندما نرى عملية تكبيل العراق مجدداً، تجري حثيثاً اليوم أمام أعيننا دون تصدي فاعل لها و كأن التاريخ يكرر سخريته و استهانة وبشدة هذه المرة .عسى و لعلنا ننتبه قبل ان يكون الأوان قد فات و قبل ان نصل الى الطريق المسدود . آنذاك سيكون ثمن التغير كبيراً جداً في زمن ٍ يتقزم فيه العالم كله ليتحول الى قرية صغيرة، كما يقال، وفي زمن تنصب الدول " الاستعمارية " القديمة وصية ً على مقدرات شعوب العالم.

و بمقدار ما كانت خسارة تلك السنين كبيرة من حيث النوع والكم، كانت الآثار التي خلفها الحزب في ضمير الشعب عميقة جداً، و العلامات البارزة التي لا زالت مثار مفخرة ودليل بطولة الحزب و عزيمته النضالية الفذة، حتى يومنا هذا : التظاهرات و الإضرابات والعصيانات والانتفاضات التي تكللت بانتصار ثورة 14 تموز الخالدة التي حررت الشعب و الوطن من الاستعمار و لكن حتى في زمن الثورة كان الحزب هدفاُ للإبادة و التصفية من قبل أعداء الثورة فكانت شهادة الاغتيال هذه المرة وفي التصدي للدسائس و التأمر ضد الجمهورية جسد بحق شهادة الدفاع عن الجمهورية.

و بانقلاب نفطي مخابراتي قومي فاشي، وبدعم مباشر من مصر عبد الناصر الذي لن يغفر له التاريخ قتل العراقيين برشاشة البور سعيد ، سلاح الحرس القومي آنذاك، انقلاب 8 شباط الدموي عام 1963 ، تمت تصفية رموز ثورة تموز الخالدة و قادتها الوطنيين الأحرار والكثير من قادة و رفاق الحزب و أعداد هائلة من أبناء الشعب . وكان التصدي بطولياَ للانقلاب كانت المقاومة باسلة في الكثير من المناطق جسدت أروع صور شهادة المقاومة الباسلة.على يد انقلابي 8 شباط عبر حملات الإبادة التي شنها الحرس القومي (
National gards) ــ هل هي مصادفة تاريخية سيئة عندما يتكرر العنوان الآن ولكن ـ عربيا ًـ الحرس الوطني هذه المرة ــ على غرار الحملات التي استخدمها مطايا الـ CIA ، الحرس القومي في دول أمريكا اللاتينية والجنوبية، وعلى غرار حملات الإبادة الفاشية والنازية. لقد اقترنت شهادة الإبادة بشهادة الصمود والتحدي، فكانت ملاحم سطرها الشيوعيون في أقبية الأمن وقصر النهاية. المجد لكم على تحديكم .

تستمر المسيرة و يكبر معها التحدي وينهض الحزب بعد خسارة اخرى فادحة . يعود انقلابي شباط انفسهم
مرة أخرى في انقلاب آخر17 تموز 1968 وبالتعاون أيضا مع عملاء المخابرات الأمريكية والبريطانية ، لتسجل هذه المرة شهادة التصفيات و شهادة التآمر، فاستخدم البعث وسيلة جديدة مزدوجة المعايير و مبيتة النوايا ، فالالتفاف على الحزب والسعي لإفلاسه وقطع جذوره عن الشعب عبر دعوته للتحالف و تشكيل جبهة الغاية منها احتواء الحزب من ناحية، والاغتيالات والتصفيات الجسدية وبطرق مبتكرة هذه المرة من جانب آخر، متوهمين القضاء عليه هذه المرة عبر عملية كشف واسعة لتنظيماته و رفاقه.
تتنوع الشهادة اكثر لتسطر تنوعاً آخر من العطاء فتسجل شهادة التيزاب وشهادة الاختطاف وشهادة التغييب. و لكن الشموخ هو الشموخ كلما ازدادت الظروف قسوة و صعوبة كلما سمى عالياً اكثر و اكثر، فجائت الحركة الأنصارية رداً بالغاً اثبت لهم و لأسيادهم و لأدواتهم في المنطقة أيضا، إنهم لن يستطيعوا القضاء على الحزب الشيوعي العراقي، فكانت شهاداتها ذات نكهة خاصة هنا فسجلت شهادة العبور وشهادة نقل السلاح وشهادة المفرزة وشهادة الاقتحام وشهادة الكمين وشهادة الهجوم وشهادة الكيمياوي بجانب شهادة الغدر والتواطؤ في بشت آشان وغيرها التي تكللت بشهادة الأنفال ومن بعدها شهادة الانتكاس وشهادة الانسحاب. بموازاة ذلك كان للمنفى وجوداً في مسيرة حزب الشهداء فكانت شهادة الغربة، شهادة القصف في لبنان وشهادة كاتم الصوت من قبل سفارات النظام وأزلامه في الخارج. واصل النظام غيّه و أزداد التنوع أيضا فكانت شهادة الحروب وشهادة الحصار و شهادة الجوع، و بعد هزيمة الكويت سطرت انتفاضة آذار ملاحم بطولية أثبتت للعالم اجمع ان شعباً يعيش الظلم و الطغيان لن يسكت الى الأبد على ظلمه . كان للحزب حضوره رغم السوادات التي أحاطته من كل جانب، لكنه موجود بين الشعب وفي القلب ، فكتب بلغة البندقية شهادة الانتفاضة، تلتها شهادة الحصار وشهادة الجوع و شهادة المقابر الجماعية.

هل توقفت مسيرة الاستشهاد عند هذه الحد؟ كلا ، فالعزيمة لا تفل ولا تلين ولن تفل ولن تلين. ولذلك يكون التواصل هو التجلي الأخطر على الأعداء. فجاء سقوط الصنم هذه المرة من قبل أسياده و صانعيه الذين سئموه و قرروا التخلص منه، ليثبت سقوط الأعداء وبقاء الحزب، فكان الحزب من الأوائل على الساحة وحضوره في القلب الشعب. لكن لماذا اسقطوا نظام البعث؟ هذه قضية اخرى تستحق التفكير.أن الأسياد الجدد من النوع الذي لا يهتم لشعوب العالم إن كانت تعاني من ظلم، اضطهاد او من استغلال، لأن هذه هي أساليبهم وسياسياتهم. مهما حاولوا التبرقع بشعارات الديمقراطية، الحرية او حقوق الإنسان، ان المحتلين الجدد لن يختلفوا عن رواد البعثات التمدينية سابقا.

نهض الحزب واعداً هذه المرة، و ثقة الجماهير الشعبية به كبيرة على أثر سقوط الديكتاتورية و إرهابها، لكن ليس الأمر سهلا ً كما يمكن التصور. فجاءت البدائل بعيدة عن أمل الشعب بالديمقراطية والحرية. فكان احتلال وكانت طائفية مقيتة و كانت قومية عنصرية، وتقاسما ً وفق محاصصات اقل ما يمكن ان يقال عنها سيئة الصيت،محاصصات وطدت المحتل وتؤسس له إستراتيجيا ً، صنعت الطائفية و تكرسها اجتماعيا وسياسياً و ثقافياً، خلقت تقسيماً و عززته دستورياُ. و على الحزب ان يواصل لأنه الأمل، لأنه الرجاء في ظل لوحة مظلمة حقاً، خطرة جداَ، مواجهة مع الماضي وآثاره مع التخلف و معوقاته ومع الاحتلال ووجوده، أعداء كثيرين مجهولي المكان و الزمان و ساعة الحضور، لكنهم يلتفون حول الحزب . فكان لهذه المسيرة حقها من الشهادة أيضا ً، فالتحرك بين ألغام كثيرة متنوعة مستترة، يمتاز بالخطورة و الخسائر، واقترنت هذه الحركة أيضا بالشهادة التي أضافت الى التنوع تنوعا آخر. فكانت شهادة المفخخات، شهادة التفجيرات و شهادة الهاون ، شهادة القنابل البشرية ، شهادة الحزام الناسف وشهادة الجثث الملغومة، شهادة الإرهاب ( من كل مصادره المنظورة وغير المنظورة، المعلنة وغير المعلنة) و شهادة الميليشيات بجانب شهادة قطع الرؤوس و شهادة الخنق و شهادة سمل العيون ،إضافة الى شهادة الفدية و شهادة أمراء الإسلام الإرهابي . و لم تكن شهادة المد الطائفي وشهادة التعصب القومي ألا مكملة لشهادة " التحرير" التي لا يمكن ألا ان تسمى ألا شهادة الاحتلال.

ولا زال الدرب ممتدا الى المستقبل، الى النور. ولا زال مشروع الشهادة قائماً رغم ان الشهادة ليس هدفاً بحد ذاتها، ليخط للحزب مسيرته الظافرة الى الأمام، و ليرسخ جذوره اكثر في ضمير الشعب، و ليحمله مسؤولية الحفاظ على روح تلك الشهادة والأمانة لها والوفاء لآلاف الشهداء و كرمهم، بهم نفتخر دوما ً و منهم نستمد العناد والإصرار على النضال المتفاني من اجل تحقيق شعارنا العتيد وطن حر وشعب سعيد.

مالمو 12 شباط 2008


 

Counters

 

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس