| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الثلاثاء 11/3/ 2008

 

على الإنترنيت كتاب يكتبون بدمهم وقراء اصابهم التعب والإحباط

صائب خليل

قبل ايام استلمت الإيميل التالي، من كاتب مواظب:
"الاخ الاستاذ صائب خليل المحترم، تحياتي الخالصة واحترامي
انك تشجعني كثيرا، بينما الاحظ ردود افعال ضعيفة على هذا المقال حيث اثنان فقط صوت له. انها نتائج محبطة لجهد متعب. اشكرك مرة اخرى وارجو لك التوفيق الدائم."

وكان ردا على ايميل ارسلته للكاتب مهنئاً اياه بمقالة كبيرة الأهمية كتبها منذراً بانهيار الزراعة في العراق ومحللاً اسبابها. لقد اثارت رسالته تساؤلاً قديماً عندي: لماذا يصل الحال ان يشعر كاتب مقالة مهمة بذل فيها جهد كبير بالإحباط من رؤية ثمرة عمله؟ ان من يكتب في الصحافة لايطمح الى ان يصير ثرياً، ومن يكتب في الإنترنيت لايطمح ان يحصل على فلس واحد مقابل وقته والم عينيه. كل ما يطمح اليه هو امتداد يد لتصافح يده الممتدة بعطائه المجاني، كل ما يأمله رد فعل يطمئنه الى ان جهده وصل الى جمهوره وانه لقي اهتمامه.

في السنوات الماضية كنت اجول الإنترنيت يومياً، اقيم كل مقالة امر بها، واكتب بضعة من الرسائل القصيرة، كرد جزء من الجميل لمن قرأت له مقالة جيدة، وأذكّر نفسي ان المقالة التي استحقت ربع ساعة من وقتي للقراءة يستحق صاحبها نصف دقيقة أخرى لكتابة قد تفيده او تسره. ما زلت اكتب رسائل الشكر او النقد لكن اقل من السابق. تبين حساباتي ان عدد من يكلف نفسه بتقييم المقالة بنقرتين من الماوس لا يزيد عن 2% من قراء الإنترنيت واما من لديه الإستعداد ليكتب ملاحظة او تعليق ويرسله فلا يتجاوز 1 الى 2 بالألف.

رغم ذلك فأن لكلمة الحق إغراءها وجمالها وكبريائها المثير، فيكتفي عشاقها منها بالنزر اليسير وبان تسمح لهم بالوقوف قربها والنظر الى عينيها. بعد سنوات طويلة طويلة من المطاولة المبدعة، كتب "طائر الشمال" اعترافاً بهزيمته الى دكتاتور بلاده، وأعلن "استقالته" فكتبت له "استقالتك مرفوضة ايها الطائر الجميل" وكانت تلك المقالة الصغيرة كل ما يحتاج ذلك العاشق المتقشف حجة ليعود الى حبيبته لسنوات عديدة جديدة، وما يزال صدره يعلو ويهبط وكلمته تطير بين الحين والآخر وإن كانت بتكرار اقل من الماضي. كتبت له مرة: يا صديقي المتألم ابدا ..المتشكك المتسائل ابدا عن جدوى احراقك اعصابك وارهاقك عيناك..الا يكفيك انك تعرقل لهم...احترام انفسهم؟". ما زال طائر الشمال يرفرف فوق الإنحطاط ويذكره بمن هو وما قيمته.

مرارة زملائي واحباطهم ليست حالات مفردة، بل عامة تشملنا جميعاً. إننا نتظاهر ان كل شيء على مايرام، لكننا في الحقيقة متعبون ومحبطون ولعل قراءنا اكثر منا تعباً واحباطاً. لقد كتبنا وقرأوا لنا طويلاً ودفعنا بهم وبأنفسنا الى الأمل حتى حين كانت ثقتنا به مهزوزة. غمرتنا السعادة ونحن نرى البعض وهو يكتب الحقيقة ويدافع عنها وتأملنا الخير جميعاً، فنحن، من عاش حيث لاحرية للكلمة، مؤسسين بلا استثناء على تفاؤل مبني على الشعور بأن الخطأ والظلم سيتبخر ان تمكنت الحقيقة من رؤية النور وصمدت لبرهة. لقد كان هذا شعوري حين وصلت اوروبا اول مرة، حتى اكتشفت ان الكذب والظلم قد وجد طرائقه للبقاء على قيد الحياة حتى حيث يمكن نشر الحقائق، وان فقد بعض راحته. لقد تعلمت عقولنا حقائق جديدة، لكن قلوبنا تأبى ان تتعلم ما يؤلمها وتنسى احلامها!

***

(*) - "الذي يتعاطى الكتابة ويحس بشغفها، لايكاد يتعلم من كل ما يقوم به او يشعر به، سوى ما يمكن ايصاله للآخرين بطريقة ادبية. انه لايعود يفكر في نفسه، بل في "الكاتب وجمهوره". يريد ان تكون له آراء عميقة، لكن ليس لكي يستعملها شخصياً. الذي يدرّس يكون اغلب الوقت عاجزاً عن التصرف الشخصي من اجل مصلحته. انه دائماً يفكر في مصلحة مريديه، ولا يجد المتعة في أية معرفة إلا إذا كان سيلقنها لهم. أنه ينتهي الى ان ينظر الى نفسه كمعبر للمعرفة، واجمالاً كوسيلة ليس إلا، حتى ان جديته بخصوص نفسه لايعود لها وجود."

***

لامفر من الإعتراف ان ثنائي الكذب والمصالح اكثر تكاملاً وانسجاماً كنظام قابل للحياة وإدامة نفسه من ثنائي الحقيقة والحماس التطوعي. الأولان يشكلان ثنائياً متعاوناً يجدد كل منهما طاقة الآخر: المال يدفع ثمن الكذب، فيعيد الكذب الهدية مضاعفة الى المال، وهكذا تستمر الدورة. الحماس التطوعي يوقد شعلة كلمة الحق، لكن كلمة الحق تنثر فائدتها في العالم فلا يصل منها للحماس ما يلزمه للبقاء على قيد الحياة. الكذبة سيارة خصوصية نتفع دائماً جهة معينة تتكفل بالعناية بها، اما الحقيقة فباص عمومي لايشعر احد من ركابه انه ملزم بإدامته.

الصحفية المصرية ذات القلم الرائع النشيط، إكرام يوسف، كتبت قبل سنة مقالاً طويلاً تعبر فيه عن حزنها عما آلت اليه حالة الأمة العربية ومثقفيها وانهيارهم وعبرت عن المها بشكل خاص من تجني الكثير من الكتاب العرب على مصر والمصريين فلا يذكرون منهم سوى المساوئ ونسوا كل ما عداها...كان احساساً بالغبن والتعب واللاجدوى.
كتبت لإكرام : "سيدتي اكرام يوسف...اكتب لك والساعة تقارب الثالثة صباحاً وقد اكملت قراءة مقالك الجميل والهام...لاتبتئسي سيدتي...اسمعي مني هذه القصة القصيرة لعلها تخفف المك...انا عراقي, ولي صديق فلسطيني, كثرما جلسنا نتمتع بعزفه للعود ونغني معاً, وكانت طبعاً معظم الأغاني مصرية...نغنيها بكل حب وتفاعل, ونشعر انها اغانينا نحن حتى ان انكر المصريون انفسهم علينا ذلك!...اتفقنا يوماً, صاحبي وانا, ان العرب بدون مصر ايتام...وكنا سعيدين (هو وانا) اننا اتفقنا على ذلك دون اي نقاش, كأنه بديهية بسيطة! اي عربي له ان يلغي اثر السينما والتلفزيون والكتاب المصري عليه؟"
ثم حدثتها عن أغنية السد العالي التي احب سماعها لأنها " رائعة....اتعرفين...فيها طيبة غريبة...اتخيل الكورس مجموعة من الناس تشاغب "الإستعمار" كما تشاغب ولداً وكيحاً لا اكثر, وتقول له اننا بنينا السد العالي رغم عنه فلينفجر في غيضه..." ثم كتبت: "لا تبتئسي يا سيدتي...لن تنهار صورة المصريين لدى العرب ابداً, فاغانيكم تدافع عنكم باستماتة في قلوبنا وذاكرتنا.."

أجابت اكرام يوسف بارتياح.وتحدثت عن حضارة الرافدين ومصر والأخوة والحكام واللصوص، وتحدثت عن المها لما جرى في العراق. كتبت: " أصابني انهيار عصبي أثناء عملي بالجريدة وأنا أطالع على شاشة التليفزيون وقائع نهب متحف بغداد.. لأنني شعرت حقا أن أختي الشقيقة تغتصب وتاريخنا ينهب ليسهل تزييفه.. وأنا جالسة أتفرج.." قالت انني ذكرتها بـ "السد العالي" بما كانوا يغنون وهم اطفال وكيف تحولت الآن الى "بوس الواوا".. وقالت ان كلمات "الواوا" و "دح" و "أح" كلمات فرعونية تعني "الوجع" و "جيد" و "اللهب" .. ويبدو انها جزء من المؤامرة المؤلمة لفصل مصر عن العرب يشارك بها مثقفون كبار مثل اسامة انور عكاشة الذي تألمت منه انه يرفض تسمية الدول العربية ويبدلها بـ "الدول الناطقة بالعربية" وهو تعبير سمعته من صهيوني قبله. لتنهي رسالتها الجميلة بـ “(
You made my day ) الف شكر...".
كتبت إكرام ردها هذا في السابعة صباحاً رغم انشغالها بالإستعداد للسفر من الدوحة الى القاهرة بعد ساعات!

زميل ذو قلم رائع صار صديقاً رائعاً ايضاً، يكتب من العراق. علمت صدفة انه كان يكتب مقالاته على صفحة الموقع مباشرة لأنه لم يكن يعلم انه يستطيع ان يكتبها ثم ينقلها الى صفحة الموقع بالنسخ واللصق، فتصوروا معاناته وهو يكتب بلا برنامج مناسب يتيح له سهولة التحرير، وعليه ان ينهي مقاله في جلسة واحدة (احتاج انا العديد من الجلسات واحياناً عشرات الجلسات لمقالة واحدة)، متوسلاً بالشبكة ان لاتهبط وبالكهرباء ان لاتنقطع حتى يكمل مقالته، ولم تكونا تصغيان الى توسلاته دائماً!
وصديق اخر، عرفت انه لم يكن فقط يكتب على الموقع مباشرة بل يكتب مقالاته الممتازة الحيوية لسنوات، حرفاً حرفاً بواسطة الماوس، لأنه لم يجد من ينصب له الكيبورد العربي!

هذه يا قارئي العزيز امثلة من معانات كتاب الإنترنيت، فمن هم هؤلاء الذين يكتبون بدمائهم واعصابهم وبلا ثمن؟
ولماذا يفعلون ذلك؟

"ولكن الشيء الذي أثلج قلبي في تصويبك هو إحساسي للمرة الأولى بان هناك متابعه لكتاباتنا الكثيرة التي ننشرها في مواقع عدة"....."انه إحساس طالما افتقدته واعتقد يشاركني في ذلك العديد من الكتاب الذين يهمهم تقويم مسيرة العراق الديموقراطى الفيدرالي الموحد الجديد."..."لا تعجب مرة أخرى إن قلت لك سيدي بأنني فكرت أن اترك الكتابة بعد أن طرحت في مقالاتي أموراً لا تعد ولا تحصى .. ولكن أسفاً .. بلا مجيب !!! .. عندها أيقنت بان كتاباتي هواء في شبك واني انفخ في جربه مثقوبة !حقيقة أقولها.. إن ردك على مقالي بعث الأمل في نفسي من جديد ودفعني إلى عدم التوقف والاستمرار بالكتابة."
هكذا كتب واحد من الكتاب الهامين قبل ايام والسعادة تتقافز من كلماته لأنه وجد مسؤولاً كلف نفسه بالرد عليه ببضعة اسطر. من اين لهذا المخلوق هذه الكفاءة القادرة على تحويل ابسط اهتمام الى سعادة غامرة؟

***

(*) - حبور الشيخوخة: " المفكر، وكذلك الفنان، الذي أنقذ أفضل ما لديه وضمّنه أعماله، يشعر بفرحة تكاد تكون ماكرة حين يرى جسده وعقله وقد عدى عليهما الزمن وجعلهما حطاماً، وكأنه يرقب من زاوية لصاً يبذل جهده ليفتح خزنته، وهو يعلم ان الخزنة فارغة وان كل كنوزه في مأمن!"

***

يمكننا ككتاب ايضاً ان نزيد سعادتنا وصمودنا بأن نزيد تفاعلنا مع بعضنا. فمن الأمور التي لاحظتها ان المقالات لاتستثير بعضها ولا تتفاعل فيما بينها إلا قليلاً. إنها كقطرات المطر: كثيرة ومنفصلة لاتعني احداها شيئاً للأخرى. لايكاد احد يرد على اخر إلا أحياناً، ولا يشير احد الى مقالة للآخر ولايستقطع منها إلا نادراً، ومن تجربتي فأن الإشارة الى مقالة تعطي كاتبها احساساً ايجابياً جميلاً بأن جهده تم تقييمه وأثار امواجاً اضافية في محيطه.

وإن ننس لا ننسَ حلقة الوصل بيننا وبينكم. تلك العمالقة الحديدية التي تدير وتديم وتطور باستمرار مواقع الإنترنيت يومياً ولسنوات بلا تعب ولا ملل، واغلبهم لايحصلون على شيء بالمقابل. شخصياً أعرف بطلاً كان يدير لوحده موقعاً سياسياً نشطاً رغم مرضه، حتى اوقفه الإعياء عند حده فترك مهمة ادارته لأحد اصحابه. واعرف العديد غيره مازالوا مسمترين في هذا الجهاد. وهناك ايضاً من اخذ على عاتقه المهمة الأشق فأنشأ صحفاً ورقية وهو لا يأمل من جهده المضني اكثر من ان توفي مصاريفها! إن كان ما تقدمه لكم هذه المواقع والصحف يستحق من وقتكم بضعة ساعات كل اسبوع او يوم، فلا شك انه يستحق دعمكم ببضعة دولارات او يوروات كل عام وإلا نضبت طاقة التطوع ووجدنا انفسنا تحت رحمة ما تموله جهات نجهلها لتوجيه عقولنا نحو ما ترغبه وليس الحقيقة التي نود معرفتها.

نعم يا احبتنا جميعاً، لقد تعبتم وتعبنا...وبالفعل افتقد اقلاماً جميلةً لم اعد اراها، وقل عدد القراء وقل اكثر منهم من يتجشم عناء التعليق والكتابة وتمرير المقالات لإصحابه. انتم محقون ونحن محقون. نحن بحاجة الى ما يعيد التفاؤل والعزيمة فينا، ولا بد من زيادة كفاءتنا لتقل معاناتنا، فهو جهد ضائع لا مبرر له. ليس من العدل تجاه نفسه ولا من طاقة البشر، مهما كانت ارادته، مثلاً ان يستمر انسان يكتب مقالاته حرفاً حرفاً بالماوس! لا بد من جهد اضافي لإستعمال الحاسبة والإنترنيت بشكل اكثر كفاءة لتوفير طاقتنا.

ما زالت المعارك التي دخلناها جنباً الى جنب مستمرة وتزداد عنفاً، ومازال لنا ولكم دور ورأي لنقوله فيها ومصلحة ندافع عنها، فلنكن اكثر كرماً مع بعضنا يا قراءنا الأحبة، ولنتحمل تعبنا والمنا خطوة اخرى، ولا ننس بعضنا بدقيقة او دقيقتين إضافيتين يومياً تساعد زميلاً على تحمل الإستمرار.

***

(*) - "ضمن الإشياء البسيطة، لكن التي تتضاعف بلا نهاية وتكون بالتالي فعالة جداً......الأشكال التي يتجسد بها الود في العلاقات الإنسانية. تلك الإبتسامة في العينين، تلك المصافحات، طيبة القلب التي تغلف برهافة كل تصرفات الناس تقريباً....إنها استعمال دائم للإنسانية وكأنها موجات الضوء المنبعثة منها، والضرورية لإزدهار جميع الأشياء. إن الحياة في المجال المحدود، خصوصاً في اطار العائلة، لاتخضر ولا تزدهر إلا بفضل هذا "الإرعاء المتبادل". المودة واللطافة ولياقة القلب منابع دوافع الإيثار التي لا تنضب وقد أسهمت بقوة أكبر من غيرها في تشييد صرح الحضارة لكننا غالباً ما نغمطها حقها."

***
لتشع إذن موجات الضوء المنبعثة من انسانيتنا لتزهر الحياة في عائلتنا الجميلة، عائلة قراء وكتاب الإنترنيت!


(*)
فردريك نيتشة: كتاب " إنسان مفرط في إنسانيته"
 

11 آذار 2008

 

Counters