| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
saieb.khalil@gmail.com

 

 

 

                                                                                     الخميس 21/6/ 2012


 

الكاتب السياسي والأديب – أن تلقي بنفسك في المعركة الوسخة أم لا!

صائب خليل 

لماذا ليست للمقالة السياسية مكانة القصيدة والقصة في المجتمع؟ لماذا لا نجد "نقاداً" للمقالة السياسية، بينما يحظى الشعراء وكتاب القصة بوفرة من النقد؟ لماذا يتفق الناس أن الأديب والشاعر الجيد، مبدعٌ، ولا يحظى الكاتب السياسي الجيد بمثل ذلك الإجماع؟

يبدو لي أن بعض الأسباب مفهوم، فالشاعر "يبتدع" قصيدة و "يخلق" منها صورة، بينما الكاتب السياسي "يجمع" حقائق وأرقام و"يقدمها" مرتبة في أحسن الأحوال ليستنتج منها فكرته التي يحاول أن يقنعنا بها.

صديق لي عبر عن الأمر بالشكل التالي:

"أتخيل المقال السياسي مثل أداة نستخدمها لعمل شيء وقد لا نعتني كثيرا بها اثناء الاستخدام ( مقص ، مطرقة ..) بينما الأدب يشبه قطعة توضع للزينة مثل مزهرية ... وقد يكون هذا سر النفور من الحديث في السياسه – وليس الترفع عنه – يعني مثلا هل تعرف كم تكره معظم النساء الأحاديث السياسية ؟"

لنحاول تحدي هذه المفاهيم قليلاً: لاشك أن معظم الأدباء سيرفضون فكرة أن يعتبر نتائجهم "مزهرية للزينة"، فالأدب الجيد شيء يتفاعل معك بقوة ويفترض أن يتمكن من مراكمة تغيير فلسفي بعيد المدى، ومع ذلك الفكرة لها بعض الحق.

تحدي آخر يمكن توجيهه لفكرة أن الأدب أمر يعتنى به، وليس المقالة السياسية، بالسؤال هل هذا صحيح دائماً؟ أقصد أن كاتباً سياسياً جيداً قد يعتني بمقالته كثيراً. يراجع مفاهيمها وصحتها، يحاول تخيل رد فعل القارئ عليها، أي العبارات غير مفهوم أو غير سلس، وأيها يصبح أوضح وأفضل تعبيراً عن الفكرة إن تغير. ماهي المحاججات المضادة التي قد تخطر ببال القارئ وما هو الرد عليها؟ هذا عدا أن الإهتمام بإقناع القارئ يعني الكثير من البحث عن المصادر وترتيبها بشكل يسلط الضوء قدر الإمكان على الفكرة الأساسية من المقالة، دون أن تضيع تلك الفكرة الأساسية في غابة التفاصيل، وأن يبقى "الخيط الأحمر" واضحاً خلال مجرى المقالة كلها.

صحيح أن الأديب سيدقق كلماته بشكل أكثف، ويلزم نفسه بالحبكة والشكل والموسيقى الخ، مما لا يحتاجه الكاتب السياسي، لكن الكاتب السياسي الجيد بدوره، يلزم نفسه إلزامات إضافية عن تلك التي يلزم الأديب نفسه بها، مثل الحيادية والصدق والموضوعية في نقل الواقع بلا مبالغة أو انتقائية قد تخدم الفكرة لكنها لا تكون صادقة. الأول يحلق حراً من الواقع والتزاماته، لكنه يفقد إسناده، فعليه أن يخلق واقعه بنفسه، والثاني يلتصق بالأرض فتحمل ثقله، لكن يتوجب عليه بالمقابل أن يحترم شروط الجاذبية والعوائق، ليتمكن من الحركة برشاقة بينها.

حتى الآن يبدو أن المخلوقين يستحقان من قراءهما معاملة متقاربة على وجه العموم، فمن أين أتى الفرق؟

مقابل الرأي بأن "الأدب شيء جميل"، هناك رأي شائع بأن "السياسة شيء وسخ" وبالتالي فكل ما يتعلق بالسياسة،- كالكتابة عنها- سيصيبه بعض هذا الوسخ.

عندما نراقب التعليقات على الأدب، نجدها إيجابية دائماً (تورط كاتب هذه السطور مرة بكسر هذه القاعدة لما تعوده في نقد المقالات السياسية، فقرر أن لا يكررها J ) وتنم عن احترام القارئ للكاتب والشعور بالإمتنان له، ولا يحصل الكاتب السياسي على هذا الرفاه. ويتوقع من الكاتب السياسي أن يبقى هادئاً مؤدباً مع قراءه حتى من يهاجمه بغير أدب، وكأن الكاتب السياسي عاهرة في ملهى يحق لأي زائر أن يمد يده إلى أي مكان فيها دون أن يحق لها أن تحتج. ويبدو الأمر وكأن القارئ يحمّل الكاتب منّةً لأنه يقرأ له.

وبعيداً عن المقالات، نجد أنه عندما تحدث شخصاً عن الأدب قد يقول لك بخجل وشعور بالتقصير، أنه "لا يفهم في الشعر" أو أنه "لم يجد وقتاً لقراءة الروايات للأسف"، لكن إن سألته عن رأيه بقضية سياسية لم يتابعها، فسوف يجيبك بحيادية، أو ربما بلهجة أقرب إلى الفخر والترفع بأنه "لا يتدخل بالسياسة" أو "لا يحب السياسة" أو "لا يؤمن بالسياسة".

المواطن المثقف عموماً يشعر أنه أخفض من الأدباء، وأرفع من السياسيين، وإذ يصبغ السياسيين بالسوء، فإنه يستطيع أن يعفي نفسه من متابعة ما يجري في البلد دون شعور بالتقصير، لكنه يشعر به بالنسبة للأدب.

لعل قائل يقول: الأديب أوالفنان إنسان مبدع، إنسان من نوع خاص، لذا فمن الطبيعي أن يقدر عمله أكثر من عمل الكاتب السياسي، حتى لو بذل الأخير جهدا ً أطول وتضحية أكبر. لكن هذا ليس حكماً دقيقاً، إلا ربما فيما يخص القمم الإبداعية الأعلى فقط.

دعونا ننقل دفاعنا عن الكاتب السياسي، إلى الهجوم، فنقول أن الكتابة السياسية، وفق مبادئ ومقاييس معينة، يفترض أن تكون محترمة، لا بقدر الأدب فقط، بل أكثر منه.

لنتخلص أولاً من الإفتراض بأن كاتب السياسة لا يلجأ للأدب والفن، لنقص في قدرته الإبداعية. إسمحوا لي أن آخذ نفسي وتجربتي كمثال هنا، لأني أعرفها أكثر من غيرها، وليس لسبب آخر. فأنا الكتابة (السياسية) ليست عملي ولا هي تعليمي ولا هوايتي الوحيدة، بل لم تكن في مقدمة هواياتي قبل بضعة سنين، حين كانت الأولوية للرسم والموسيقى والشطرنج، والتكنولوجيا، وتمكنت من تحقيق بعض الأمور المبدعة في كل منها، ورغم ذلك فقد تركتها جميعاً لحساب الكتابة السياسية التي تأخذ كل وقتي اليوم تقريباً، فلماذا فضلتها على إتجاهات يفضلها المجتمع ويقدرها أكثر؟ هل هو حب الكتابة السياسية؟

****

يقول حمزتوف: القصيدة التي تكتبها مرة واحدة، تبقى معك العمر كله. ليس الأمر كذلك بالنسبة للمقالة السياسية، التي تنتهي معظم قيمتها بمجرد مرور الحدث الذي كتبت من أجل إيضاحه. كتابة المقالات السياسية عموماً، جهد قيمته سريعة التبخر، إضافة إلى ان الأدب يقيم إجتماعياً بشكل أفضل. ويستطيع الأديب أن يجمع نتاجه في كتاب فيما بعد، لكن الأمر ليس بنفس السهولة بالنسبة لكاتب المقالة السياسية.

وفي حين يستطيع الفنان أو الأديب أن يتحرك دون قلق، فيكتب عن الإنسانية والوطن والحب وجمال الطبيعة، فان الكاتب السياسي مضطر إلى أن يتخذ موقفاً في كل مقالة، معرضاً نفسه للوقوع في الخطأ وان يدفع ثمنه، فطريقه مليء بالألغام. وفي الوقت الذي يكتب الشاعر قصيدة جميلة تسعد القراء وتكسبه امتنانهم وصداقتهم، فأن المقالة السياسية الجيدة عمل مشاكس يثير انزعاج عدد من الناس أكبر مما يسعد.

الحقيقة أن الكتابة السياسية تبدو كتضحيات متعددة حين مقارنتها بالأدب، وهذا ما دفعني في نهاية الجزء الأول (1) إلى التساؤل لماذ يصرّ كاتب السياسة أن يمارسها، حتى عندما يكون بإمكانه أن يمارس اعمالاً وهوايات اخرى أكثر "إبداعاً" واحتراماً من قبل المجتمع؟...الجواب ببساطة إنه "الواجب"!

نحن كتاب السياسة نرى أن كلمة "السياسة" تطلق اليوم على كل ما يقرر مصيرنا كبشرية وكمجموعات وكأفراد أيضاً، وبالتالي لا يسع الشخص الناضج إلا أن "يتدخل بها. ولذلك فأن القول المعتاد : "لا أحب التدخل في السياسة" يصبح ضمن هذا التعريف، موقف غير ناضج.

إنني أتصور المشهد التالي لتمثيل عالمنا اليوم والموقف من السياسة: أنت تتمشى مع عائلتك، فيهاجمها قطاع طرق، فليس لك إلا ان تهجم عليهم لدرء الخطر عمن تحب. تبحث بسرعة عن أي سلاح تراه الأكثر تأثيراً وتضرب به بما تستطيع من قوة، حتى لو لم يكن "إختصاصك" القتال، ولم تدخل دورة في الملاكمة، وحتى لو كنت تعلم أنك خاسر. لا تستطيع أن تقول هنا أنك "لا تتدخل في العراك"، ولو فعلت ذلك لنظر الجميع إليك وليس عائلتك فقط، نظرة خيبة أمل. رغم ذلك تبقى عبارة "لا أتدخل في السياسة"، متداولة ولا يشعر صاحبها بحرج. لقد أدرك اليونانيون القدامى هذه المشكلة فكان لديهم قانون يحكم بالموت على كل رجل تجاوز الثلاثين ولم يتخذ موقفاً سياسياً في فترة تمر فيها البلاد بموقف حرج!

أن ما يفعله الأديب أو الفنان الذي يبعد نفسه عن المناقشات السياسية بالكتابة والتعليق، هو إنه في مثالنا، يترك أسرته تواجه مصيرها وحدها، ويستمر في قراءة الكتاب الذي يتمتع به مترفعاً عن المشاركة في "العركة"، وهو يقنع نفسه بـ "انها ستنتهي بشكل أو بآخر، كما انتهت التي قبلها"، "وما الذي سيغيره تدخلي أمام عصابة أقوى مني وأكثر خبرة في العراك؟" "ما الذي حصل عليه الذين قاوموا؟"...الخ.

بعض هذه الحجج له أساس براغماتي، لكن كلمة "براغماتي" ليست سوى مرادف أخترعه بعض الساسة لكلمة "أناني" لتتيح لهم الإستفادة من مزايا الموقف الأناني، دون دفع ثمنه الإجتماعي. فبالنتيجة، يخرج من "تعارك في السياسة" مجرحاً ومكسراً، بينما يبقى وجه الأديب الذي ترفع عن "التدخل في العركة" نقياً وعيناه صافيتان! وربما يغمز: "أنظر أين أوصلتك السياسة. ألم اقل لك أنها لا تفيد؟"، وكأن السياسي كان يلهو، ولذا دفع الجزاء "العادل" للهوه!

"قف!"، سيصرخ الأديب بوجهي: "أنا لست كما تقول، ويشهد تاريخ حياتي أني رفضت الأنانية طوال حياتي وقدمت الكثير من التضحيات لشعبي ولأهلي، ولا اشعر أني ملام إجتماعياً ولا كذلك ضميري متألم، وهو بالتأكيد ليس ضمير نائم"!

نجد أنفسنا أمام حيرة كبيرة: نساء ورجال من أرقى الناس تعليماً و أخلاقاً وإثرةً، ضحوا خلال حياتهم بالكثير، لكنهم يأنفون أن يشاركوا في معركة الدفاع عن أهلهم بل ويرون ذلك امراً غير مشرف! أين الخطأ؟ أليس واضحاً أن بلداننا تتعرض لمؤامرة للإستحواذ على ثرواتها وتدمير أهلها؟ ما فرق بين ما يحدث بالفعل ونموذج عصابة قطاع الطرق؟ لماذا إذن يهاجم الجميع قطاع الطرق ويأنفون من عراك قطاع الطرق الدوليين؟ وحتى لوذهب هؤلاء، فأن نتيجة المعركة السياسية بين مختلف الإتجاهات هي التي ستقرر مصير البلد وأجياله، فأية معركة يمكن ان تكون أولى باهتمامهم؟

تصوري أن ما يؤثر على رؤية معركة "المشاركة في السياسة" هو تراكمات الخوف والألم والتجارب المرة التي صاحبت هذه القضية خلال حياة الإنسان، وما قرأه ايضاً، فصار يبحث دون وعي عن الحجج للتهرب من الحقيقة، دون ان يكون أنانياً بحق. ولكثرة من مر بمثل هذا الظرف، فأن "التراث المنتج" في تبرير الهرب من السياسة صار واسعاً جداً ، وصار من يبحث عن منفذ للهرب من ذلك الواجب "القبيح"، يجد الكثير من المعونة في المتوارث من الأدب المكتوب والمنطوق. كذلك لا يستبعد أن يتعمد المستفيدون من رفض مثقفي البلد المشاركة في الجدل السياسي، إلى المساعدة الواعية في تشييد وتقوية الغطاء الأخلاقي لكل من يرغب في الهرب من تلك المعركة، وخلق الفرص للإنشغال بأي أمر آخر.

هذا "الغطاء الأخلاقي" مركب ومعقد ومكون من طبقات متداخلة ومراوغة. فحتى من يقبل تجشم عناء الكتابة السياسية يستطيع أن يستخدم غطاءاً جزئياً يبعد به الطين المتطاير عن نفسه. ويكتفي هذا عادة بالكتابة العامة غير المحددة. فهو يهاجم "مجلس النواب" كله، ويسب الكتل ا لسياسية كلها، ويؤكد أن "جميع السياسيين" لصوص دون أن يحدد لصاً واحداً، ويعتمد على إدعاءات شائعة لا يكلف نفسه بإثباتها. هذا الكاتب يحصل على التصفيق الأكثر، لأن كل قارئ سيكمل بخياله، ما نقص في المقالة بشكل يناسبه، وسيكون سعيداً بذلك. هذا رغم أنه لن يخرج من المقالة بأية فكرة جديدة، وليس له أن يأمل منها بأي ضوء قد ينير له منطقة غامضة أو يصحح له خطأً في معرفته أو يحدث تغييراً في موقفه.

يبقى هذا النموذج مبسط للغاية، (كأي نموذج ناجح) فليس كل أديب، يتهرب من الدفاع عن أهله، وليس كل من كتب في السياسة فعل ذلك دفاعاً عنهم، بل أن الكثير منهم يشارك اللصوص في فرهدة أهله. كذلك رب أديب يضرب اللصوص بكتاب أدبه بقوة لا يقدر أن ينافسه فيها حامل السكين. لكن بشكل عام، يبقى الكاتب السياسي، هو من يواجه المعركة بشكل مباشر، ويوجه كل جهده وبوعي لهدفه في هذا الصراع.

كذلك نستطيع القول بشكل عام أيضاً أن الأديب أوالفنان غالباً ما يكون شخص منشغل بنفسه، وندرة من الشعراء هم مثل يحيى السماوي أو أحمد مطر. ففي الوقت الذي يجهد الكاتب السياسي نفسه بحثاً عن طريقة لإيصال أثر مفيد لمجتمعه في معركة قوى "الخير والشر" من وجهة نظره، يرى الفنان أنه إن تمكن من أن يجد الطريقة التي "يعبر بها عن نفسه" - كما يقول الفنانون - تكون أسمى أهدافه قد تحققت، وشعر أن مهمته اكتملت وأنه أدى واجبه تجاه مجتمعه، وعلى العالم أن ينحني له شاكراً ومقدراً إبداعه!

هذا لا يعني على الإطلاق أن المبدع يعيش حياته مدللاً، فهذا المجتمع الذي نعيش فيه، والمندفع نحو أخلاق الرأسمالية الحادة، لا يقدم شيئاً إلا لمن يأخذ منه عنوة، والشاعر أو الأديب أو الفنان، هو أضعف الناس في هذا الأمر، بل هو ينتحر إن برع فيه. الكاتب السياسي الممتنع عن بيع قلمه بما يخالف ضميره، يشاركه في هذا الظلم، مضافاً إليه ظلم التقييم وشراسة معركته ووساختها، وحفنة من مظالم أخرى. لكنه لا يشكو، فهو يرى نفسه مقاتلاً في معركته، "وليس لمقاتل أن يطالب بأن يعامل بالمراعاة"، كما يقول نيتشه.

 

(نشرت هذه المقالة بشكل حلقتين في زاوية "جدل سياسي" في "المثقف".)

 

free web counter