| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الجمعة 2/5/ 2008

 

صديقي الذي قضى في بشتاشان، حلبجة العرب

صائب خليل

لم تكن علاقتي بـ جبار شهد علاقة قوية، لكن النقاشات السياسية الساخنة في شوارع جامعة الموصل، تحت شمس الربيع الرائعة حفرت خطوطاً لازالت واضحة في ذاكرتي. كانت "الجبهة" تتآكل أواسط السبعينات والطلاب الشيوعيون يدورون كالنحل قلقين يشرحون لزملائهم الذين يثقون بهم - ولو بدرجة ما - ما يحدث وراء الكواليس، وكان (بعض) الطلبة البعثيين يرصدون أي وجود لجريدة طريق الشعب لدى أي طالب، بعضهم بحماس أمني قبيح، والبعض الآخر ينفذ التعليمات باستحياء ظاهر ورجاء خجول. من هذه التعليمات أذكر قرار منع ترك الجريدة على الرحلات أو على المناضد في المطاعم، وأذكر نقاشاً لي مع أحد الأصدقاء البعثيين المتورطين في مثل هذه المهمات المخجلة، حين حاول إقناعي أن شراء الجريدة وقراءتها ليسا ممنوعين، لكن تركها على المنضدة يعتبر محاولة نشر غير مسموح بها. دار النقاش بحضور مجموعة من الطلبة من الشيوعيين والبعثيين والمستقلين وكانوا الأكثرية.
بعد ذلك تفرقت الجماعة وبقي جبار يتابع الحوار معي عن تصرفات بعثية أخرى، ثم سألني بشكل مباشر إن كنت أفكر في الإنتماء إلى الحزب الشيوعي!
بعد ردود قصيرة متبادلة لم يقتنع بأسبابي تماماً لكنه لم يشأ أن يلح، فاختتم الحديث بأن قال لي: "على كل حال، فكّر بالأمر"، وقبل أن نفترق سألته كيف تجرأ ووثق بي ليطرح مثل هذا الإقتراح رغم أن معرفته بي ليست قوية، خصوصاً وأن مثل هذا السؤال قد يسبب له مشاكل كبيرة في تلك الظروف. قال إنه يحس بالمقابل ويعتمد على إحساسه، وأضاف: "من طريقة نقاشك، أعتقد أيضاً أن من يكسبك يكسب أمراً ليس بالقليل".
لم يكن إنطباعي حينها أن الحزبيين بشكل عام، ويشمل ذلك الشيوعيين، يتحمسون لـ "كسب" شخص كثير الجدل لتفاصيلهم حتى إن اتفق معهم في العموميات، فشعرت أن جبار كان يعبر عن رأي ومحبة شخصيتين بالدرجة الأولى.

بقيت هذه الجملة في ذاكرتي، ولم نلتق بعدها لقاءات خاصة أذكرها، لكن وجه جبار النحيف ذو الضحكة الخاصة الرائعة وجرأته التي كانت تشع من عينيه وتواضعه الشديد التأدّب تجعلك تشعر أنك قريب منه تماماً حتى حين يشير بيده من بعيد.

في يوم ما إكتشفنا أن جبار شهد إختفى ولم يعد إلى الدوام. كانت هناك نظريتان ألأولى هي أن الأمن البعثي ألقى القبض عليه، والثانية هي أنه هرب بعد أن إستشعر الخطر. أصدقاؤه ألمقربون أكدوا أنهم لايعرفون شيئاً عنه، ولم ألح عليهم بالسؤال. وفي يوم، بعد أكثر من ربع قرن، قرأت اسمه في مقالة عن شهداء الأنصار، فأرسلت إلى كاتبها مستفسرا ً، فأجابني إنه نفس جبار شهد الذي أعرفه وأنه التحق بالإنصار في السبعينات وأصبح ضابطاً وكان معروفاً بشجاعته النادرة وإنجازاته وانه استشهد في معركة بشتاشان!

في الفترات التي تلت قرأت عن هذه المجزرة وعن حرب الأنصار البيشمركة العديد من المقالات وتعرفت من خلال ذلك بشكل أكبر على صفحة هامة من تأريخ نضال الشعب العراقي ضد الدكتاتورية، قصصاً رائعة يتوجب تحويلها إلى أفلام روائية وأناشيد لتثير في الإنسان العراقي وليس الشيوعيين وحدهم، فخراً واعتزازاً هو بأشد الحاجة اليهما في ظرفه الصعب، فهو لايكاد يعرف سوى قصص الهزائم والإحباط تتلقفها وتنشرها أقلام كثيرة مغرضة وأخرى متبرعة.

لكن قصة بشتاشان تثير تساؤلات عديدة لم تتم الإجابة عنها حتى اليوم، وقد تمكن من فرضها على الساحة الثقافية نفر من الأنصار ذوي الذاكرة العنيدة، والإخلاص الشديد للأسئلة التي آنست ان تعشعش في رؤوسهم فوعدوها بإيصالها إلى كل الناس. أسئلة إلى حزب الإتحاد الوطني الكردستاني الذي نفذ المجرزة بقيادة الرئيس الحالي جلال الطالباني وبقيادة مباشرة من نوشيروان مصطفى، وأيضاً إلى الحزب الشيوعي العراقي الذي يلومه المطالبون، بمجاملة الحزب الديمقراطي الكردستاني على حساب ضحاياه.

من جملة ما قرأت ورأيت كانت مقابلة نوشيروان مصطفى مع قناة البغدادية (1)، وهو الذي اتهمه بعض من أرخ الجريمة بأنه من قاد المعركة وأمر البيشمركة لاحقاً بقتل جميع الأسرى. أثارت أجوبة نوشيروان في ذهني مقارنات مؤلمة مع مقولات صدام ومع جريمة حلبجة. فها هو يبرر أن ما حدث قد حدث ضمن حالة حرب بين جبهتين، وأن الإتحاد الوطني كان في ذلك الوقت في حالة قتال مع الحكومة الإيرانية، وهو ما يقوله المدافعون عن صدام بالضبط، ممن لم يلجأوا إلى أكذوبة أن إيران هي التي قصفت حلبجة, فقالوا إن ضرب حلبجة كان خلال ظروف الحرب مع إيران، وإن حلبجة كانت تقف في الخندق الآخر وكانوا صادقين تماماً مثلما كان نوشيروان صادقاً في ما قاله، ولم يكن تبريره بأفضل من تبريرهم. كلاهما كان يجد في "حالة الحرب" مبرراً كافياً لإطلاق كل ما في داخله من وحشية!

مع ذلك فهناك حادثة تشير إلى أن "حالة القتال" التي تحدث عنها نوشيروإن لم تكن بالحجم الذي يفسر ما حدث في بشتاشان من قتل شامل وفضائع تمثيل بالجثث. فقد تحدث من نجا من المذبحة أن رتلاً عسكرياً تابعاً للإتحاد الوطني أراد عبور روابي بشتاشان إلى خلفها، وأحسَّ الشيوعيون وقتها بالخطر حيث أن ذلك يعطي هؤلاء فرصة لمحاصرتهم ومهاجتمهم من منطقة ذات أفضلية عسكرية، وهو على ما يبدو الهدف الحقيقي من هذا الإلتفاف. أوقف الشيوعيون الرتل ومنعوه من العبور دون أن يشتبكوا معه، مما يدل على أن حالة العداء بين الطرفين لم تكن قد عبرت خط المفاوضات والحديث. وقد طلب الرتل من المقاتلين الشيوعيين الإتصال بقيادتهم للإستفسار عن الأمر، وتم ذلك بالفعل، وأمرت القيادة بالسماح للرتل بالمرور، وهذا دليل آخر على أن العلاقة لم تكن قد وصلت إلى إنعدام كل ثقة بين الطرفين. وبالفعل نفذ البيشمركة الشيوعيون الأمر، ولو كانت المسألة بينهم وبين الإتحاد الوطني مسألة حياة أو موت كما يحاول شيروان أن يوحي لنا، لكانوا رفضوا تنفيذ أوامر القيادة، ولما صدّقوا قصة الرتل بأنهم ذاهبون لصد هجوم متوقع للجيش الإيراني (حسب اتفاق بينهم وبين بغداد!!). وقد تركهم المقاتلون يمرون تعاوناً منهم معهم لتنفيذ إلتزاماتهم، رغم ما يحسون بأنه قد يشكل خطراً جسيماً عليهم.

كل هذه النقاط تشير إلى أن العلاقة المتوترة بين الطرفين كان يشوبها بعض الأمل في التفاهم والتعاون، وأن قيادة الإتحاد الوطني الكردستاني كانت على علم بذلك وإلا لما أملت أن الشيوعيون سوف يسمحون للرتل بالعبور إلى وراء ظهورهم، وقد استغلت قيادة الإتحاد الوطني هذا الأمل للإيقاع بضحاياها.

كذلك حاول نوشيروان إعطاء انطباع بأن عدد الضحايا التي إدعاها الشيوعيون والتركيز عليهم لم يكن بسبب كثرة الضحايا منهم وإنما لأن الشيوعيين كانوا يملكون جهازاً إعلامياً قوياً (!) ولذلك "عملوا ضجة كبيرة في العالم، وضخموا من المسألة" حسب تعبيره. إنها نفس حجج المدافعين عن جريمة صدام في حلبجة والذين يؤكدون أن عدد ضحاياها قد بولغ به، وإنهم ليسوا خمسة ألاف وانما بضع مئات أو أقل. والحقيقة أن "الجهاز الإعلامي" الحالي الموضوع تحت تصرف الساسة الكرد يعتبر هائلاً بأية مقاييس عراقية، كما أن تجارباً سابقة تقول انه لا يوجد أي شيء يدعو إلى الثقة بالأرقام التي يعطيها هؤلاء الساسة، خاصة بعد فضائح نسبة الـ 17% وما تم كشفه من أحداث الإنتخابات وتزوير الجوازات من قبل السفارات. لكننا نرفض مناقشة عدد الضحايا، فمسألة الأرقام ليست موضوع النقاش، ولا يجب أن تكون، لا في حلبجة ولا في بشتاشان.

وعندما سأله مدير المقابلة إن كانوا قد راجعوا هذه الأحداث لاحقاً واتخذوا موقفاً آخر منها أجاب نوشيروان: "عندما تتعرض إلى هجوم من الآخرين، ألا تدافع عن نفسك؟". إنها مرة أخرى نفس دفاعات الصداميين. هم حاولو اقناعنا أن الجيش العراقي تعرض إلى الهجوم من قرية صغيرة استقبلت الجيوش الإيرانية ووفرت لهم موقعاً، رغم أنه لم يكن فيها وقت القصف سوى كبار السن والنساء والأطفال، ونوشيروان يريد أن يقنعنا بأن بشتاشان هي التي هاجمت محاصريها، وأن من حاصرها كان يدافع عن نفسه! إن قصة "الدفاع عن النفس" هذه مجانية تماماً ولم يسبق لمعتد ان قال انه اعتدى، بل كانوا دائماً يدافعون عن انفسهم. هتلر قال انه كان يدافع عن نفسه عندما احتل جيكيا، وصدام قال ذلك عندما احتل الكويت واميركا قالت إنها كانت تدافع عن نفسها في كل هجوم تقوم به من فيتنام إلى العراق، فلماذا لايحق لنوشيروان ان يستعمله؟ ما كان يفترض بمدير المقابلة ان يسأل ضيفه: لماذا لم يكن الرتل العسكري للإتحاد الوطني، والذي سمح له الشيوعيون بالمرور مشمولاً بهجوم الشيوعيين هذا؟

التشابهات بين الجريمتين كثيرة كما نرى، لكن هناك بلا شك فروق هامة أيضاً. ففي حلبجة إستخدمت أسلحة دمار شامل لاتفرق بين المقاتلين والمدنيين وبين الرجال والنساء والكبار والصغار، وكان المنظر الذي تركته بشعاً مقززاً لأي شعور إنساني. لكن من الناحية الأخرى فإن النساء في بشتاشان لم يتم إستثناؤهن من القتل، وأن الأوامر كانت بإعدام جميع الأسرى العرب خصوصاً بلا استثناء، ومن الصعب أن نقول لو أننا رأينا أشلاء الضحايا التي تم تشويهها والعبث بها بعد القتل، أيهما أشد إثارة للتقزز، هي أم منظر الأب الذي قتلته سموم صدام في أزقة قريته وهو يحتضن طفله!

ومن الفروق التي يجب الإهتمام بها أيضاً هي أن قادة ومنفذي جريمة حلبجة والأنفال قدموا للمحاكمة وبسرور العرب قبل الكرد، وطالب العرب بنيلهم لجزائهم العادل قبل الكرد، أما مجرمو بشتاشان فما زالوا طليقين أحرارا، بل مازالوا قادة في كردستان والعراق. ألفرق أيضاً أن جريمة حلبجة تم الإعتراف بها من قبل البرلمان العراقي وتقديم الإعتذار عنها، وهو إعتذار سخيف في الواقع طلبه القادة الكرد من نفس رفاقهم الذين كانوا معهم في معاركهم ضد دكتاتورية صدام حسين التي كانت توجه النار إلى صدورهم جميعاً بلا تمييز. لا يستطيع الكردي أن يشعر بمدى سخافة هذه المطالبة وهذا الإعتذار إلا إذا طلب أبناء الجنوب منه أن يعتذر عن مذابح الجنوب التي نفذها الرئيس العراقي باعتبار أن الكردي عراقي أيضاً، أو كان محسوباً كذلك حتى إن لم يشأ أن يسمى عراقياً، أو إذا طالبت الكويت من البرلمان الكردستاني أن يقدم اعتذاراً مشابهاً لنفس السبب! لقد تم تحويل هذه القضية الإنسانية إلى قضية قومية باهتة، رغم أن هناك الكثير من الكرد من المشاركين في الأنفال ورغم أن هناك الكثير من العرب الذين شارك الكرد القتال ضد صدام، لكن بعض الحقائق يجب ان تصمت!
بلا خجل يتقبل الساسة الكرد، وجود المجرمين المباشرين في الإنفال، من اكراد، وحتى من العرب، بين أحضانهم ويحمونهم من القانون الذي كان يريد الإقتصاص منهم، بل يسلمونهم المناصب القيادية الخطرة، ويحولون حساب جرمهم إلى الشعب العربي في العراق والذي كان يئن تحت الدكتاتورية مثلهم. لو أردتُ زيارة كردستان فيجب علي، حتى لو لم المس كردياً بأذىً في حياتي، أن أشعر ببعض الذنب لأني عربي، ربما أتصل جينياً بصدام حسين في أعماق التأريخ، أما كولن باول الذي منع العالم شخصياً من إدانة صدام في جريمة حلبجة، أو رامزفيلد ألذي أسهم في دعم صدام حسين وتسهيل حصوله على الإسلحة من الغرب حين كان يقصف الكرد بها، فيمكنهم أن يثقوا بأنهم سيستقبلون في كردستان إستقبال الأبطال، رغم أننا لانحتاج إلى الذهاب إلى أعماق التأريخ لنرى مساهمتهم الموثقة بالأفلام والوثائق!

هذه هي النتائج المثيرة للسخرية والألم، للجهود الكبيرة التي بذلها قادة الحزبين الكرديين الكبيرين ومن يشير عليهم من الخارج، من أجل تحويل الجرائم التي لحقت بالشعب الكردي إلى جرائم قومية ورفع ذنبها عن مقترفيها وتوزيعه على الأبرياء من قومه لتشمل حتى من حارب منهم هؤلاء الجناة وضحى بحياته أو خاطر بها للوقوف ضد الجريمة.
ليس هذا غريباً فالكثير من هؤلاء الجناة مازالوا يقودون كردستان ويتعاونون على نهبها ويريدون لهذا الحال ان يستمر.

بالمقابل فأن المطالبين بحق بشتاشان ترفّعوا جميعاً عن إفسادها بصبغة القومية العنصرية وهذا شرف لهم. فرغم إشارتهم إلى أن الضحايا العرب عوملوا بقسوة خاصة، فقد اقتصرت مطالبهم على تقديم المذنبين إلى المحاكمة باعتبارهم أشخاصا متهمين بجريمة ارتكبوها بأنفسهم وليس اقربائهم أو أبناء قومهم. لم يقل أي منهم أو يوحي بأن الشعب الكردي، الذي كانوا ومازالوا وسيبقون يعتبرونه صديقاً، مسؤولا عنها بأي قدر، ولم يرشّوا الذنوب عليه.

إن البعض من القادة الكرد الذي شوه قدسية حلبجة بصبغة ذنب عنصري، هو نفسه الرافض لفتح حساب قتلة بشتاشان وهو من يقرر اليوم كيف توزع الذنوب مثلما يقرر كيف توزع الثروات في كردستان. هم ماضون في سبيلهم، ورفاقك ذوي النفوس الآسرة مثل نفسك يا جبار، من عرب وأكراد، لم ييأسوا، وهم ماضون في سبيلهم أيضاً.


http://www.irakna.com/index.php?option=com_content&task=view&id=9141&Itemid=57 
(1

2-5-2008

 



 



 


 

Counters