| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الأحد 3/2/ 2008

 

 أغنية الخوف

صائب خليل

ترددت اصداء الطبول في الغابة الشاسعة قادمة من شمالها القصي حيث تعيش تلك القبيلة المنعزلة وحيث تكثر الفواكه وأيضاً الوحوش والثعابين. لاتخطئ الأذن ذلك الإيقاع الممزوج بالرهبة ، والذي يعلن بدأ احتفالات "عيد الخوف". عيد يقام كل سنتين لتمجيد اله "الخوف والشجاعة"، اكثر الآلهة قدسية للقبيلة ولإنتخاب زعيم القبيلة الجديد للسنتين المقبلتين.
في ساحة احتفال القبيلة كانت طقوس عيد الخوف واصواته المميزة تملأ المكان: على دق الطبول المستمر، كان طبيب القبيلة – الساحر – يجلس عند اقدام تمثال اله الخوف - الذي يتوسط الساحة وله وجه قط نصفه مخيف ونصفه يكاد يغفو، ويتكفل الساحر بالراغبين في سحب عيونهم الى الجانبين بعملية تجعلهم اقرب الى الشكل الصيني، حيث يعتقد هؤلاء ان عيون البشر كانت في الجانبين قبل ان يصيبهم اله الرعب بلعنته التي جعلتهم خائفين وعنيفين، واهم من ذلك حرمتهم رؤية الأخطار التي لاتكون امامهم مباشرة وافقدتهم القدرة على متابعة اكثر من خطر واحد في الوقت نفسه وصارت الأخطار "المتحايلة" قادرة على تصويب انظارهم الوحيدة بعيداً عنها. كان الطبال يضع هذا كله في اغنية قديمة:

أغنية الخوف

قديماً كانت عيون البشر،
وجميع الحيوانات
على جوانب رأسها...
لتراقب الخطر من جانبين..
فالخطر لا يأتي وحيداً ابداً..
وجاء الرعب ليلة..فاصاب حيوانات ونجت اخرى..
اصاب الإنسان والقط وحيوانات اخر..
ومن الطيور اصاب البوم
من اصابه الرعب، زحفت عيناه الى وجهه
وهربت حكمته إلا القط، فقد امسك بذيلها
من اصابه الرعب، صار عنيفاً
ينشر الرعب حوله..
يا اله الخوف
لتشفنا من رعبنا وعنفنا...
أعد الينا حكمتنا ونظرة الود الى جفوننا
أعد لنا عيوننا المتوازنة،
لنكتشف سراط الشجاعة الدقيق بين خطرين


***
في النهار ينشغل الطبيب الساحر وفريق من مساعديه في ورشة "تعديل المخاوف المنحرفة" وهنا يتم فحص المتقدم الذي يشكك في سلامة شجاعته لإكتشاف ان كان يخاف اكثر او اقل مما يجب من اي من الأمور.
تتم اجراءات الفحص بان يطلب الطبيب من المتقدم ان يتكلم عن امر ما، ثم تطفأ الشموع ويقوم المساعدون بتقليد اصوات مختلف "الأخطار": الكلاب الوحشية، القطط الكبيرة، الثعابين، التماسيح، ورجل يمثل محارب عدو، القردة، وايضاً الحشرات والحيوانات الضخمة وكذلك أصوات النساء والرجال.
وبينما يستمر الشخص بالكلام يسجل رجل قرب الطبيب ملاحظاته بغصن يابس على الأرض، حتى إذا انتهى العرض كان لدى الرجل تقرير مفصل عن كل تشوه في مخاوفه.
وعلى اثر الفحص يتكفل مساعدي الطبيب بإجراءات لإعادة خوف المتقدم الى قيمته الصحيحة فيعدل خوفه الزائد او تهوره في موضوع انحرافه فإن كان يخشى شيئاً اكثر من اللازم، حرص القائمون على تقريبه منه اكثر من مرة وتبيان محدودية خطره, وان كان متهوراً امامه، حرص الطبيب ان يجعله يتسبب له بالألم مرات عديدة ايضاً، فإن كان الموضوع حيواناً جعله يعضه او يخدشه وان قرر الطبيب ان الرجل متهور امام النساء اجبروه على تلقي اهانات مؤلمة من ثلاث نساء على التوالي، وهكذا..
يسلم "المريض" بعد ذلك قائمة بما مطلوب منه عمله خلال السنتين القادمتين ويعين له شخص يراقب انجازه ويمنعه من التراجع او المبالغة لتجنب الإنحراف الى الجهة المعاكسه.
بجانب هذه الخيمة، هناك ايضاً خيمة خاصة لفحص الأطفال وتصحيح مخاوفهم ويعين لهم مرشدون من اطفال اكبر منهم سناً ممن يعتبرون من الأكثر توازناً في القبيلة وهي منزلة مشرفة يفخر بها هؤلاء وتعدهم للسباق على مركز قائد القبيلة في السنوات التالية، ويتم الفحص فيها بنفس الطريقة بشكل اساسي..ويستمر الغناء على ايقاع الطبول...

أغنية الغزال

الذئب والتعب
فكين لخطر مزدوج
الذئب والتعب
يحاصران الغزال
الذئب يدفع الغزال إلى التعب
والتعب يدفع الغزال الى الذئب
الذئب يراه الجميع
لكن الغزال الشجاع وحده
يبقى يراقب فك التعب ايضاً
الغزال الشجاع وحده
يجد الطريق الضيق بينهما
الغزال الشجاع وحده
يعيش طويلاً

مع غروب الشمس بدأت احتفالات "سراط الشجاعة", وهي قمة العيد واثارته القصوى. على انغام الطبول والإغاني يتم اعداد صفين متقابلين من الحيوانات المفترسة المربوطة جيداً بأوتاد متعددة لتحديد حركتها حيث سيتقدم المتسابقين على زعامة القبيلة بالمرور بينهما. يبدأ الأطفال المساء بالمرور في المنطقة السهلة نسبياً بين الكلاب المفترسة والفهود والثعابين السامة وجميعها مربوطة جيداً. يصحب الأطفال الصغار مرشديهم الأكبر سناً، اما الأطفال الأكبر قليلاً فيسير كل طفل خلف قط يتقدمه ويرشده الى الطريق الدقيق الأمين، حيث تعتقد القبيلة ان القط دقيق جداً في تقدير مسافة الخطر. ثم يبدأ الشباب الصغار استعراضهم في منطقة اكثر صعوبة ومع وحوش اكثر خطراً، لكنها تتم بالكثير من المرح وضحك الفتيان والفتيات.
وأخيراً تبدأ الرقصات واغاني تمجد الخوف والشجاعة وتعلم الشباب الخوف السليم، ثم يسحب الأطفال للنوم بعيداً عن الإحتفال حيث يخشى على سلامة شجاعتهم من مشاهد مرعبة قد يتسبب بها اي خطأ للمتسابقين. يعاد فحص حبال الحيوانات ومسافات وصولها للتأكد ويعلن الساحر بدأ احتفال انتخاب زعيم المقبيلة فيتقدم خمسة من الشباب سيفوز احدهم في نهاية المساء اما الأربعة الباقون فسوف يموت اغلبهم وقد ينسحب بعضهم في منتصف الطريق...وتتحمس الحيوانات هي الأخرى واغلبها قد مر بالتجربة واستأنسها وازداد بها وحشية، فتدور الذئاب حول نفسها بانتظار المتسابقين بينما تتقافز الفهود والنمور وتصرخ وتزأر....يتقدم اول المتسابقين ليخترق المجاميع الأولى من الفهود والثعابين والذئاب بسهولة وحين يقترب من الغوريلاً يهيج هذا ويثور ويستفز النمر الجالس مقابله في الصف حيث ينهض هذا وهو يشد الحبل بقوة هائلة في كل مرة يحاول فيها القفز على القرد، الذي هدأ في هذه الأثناء وجلس بيعداً يتظاهر بالهدوء بخبث. وحين مر المتسابق الأول وجد نمراً هائجاً مرعباً من اليسار وغوريلا هادئة تمضغ الأغصان في اليمين فانحرف نحو الأخير قليلا، فإذا بالغوريلاً يقفز عليه كلمح البرق ويمزقه ارباً....

صرخت القبيلة صرخة واحدة وهم يرون ابنهم الشجاع يتقطع تحت اسنان ومخالب الغوريلاً، لكنهم لم يتدخلوا....فتلك من طقوس الإحتفال وشروطه...وعادت الطبول التي صمتت وجيزة كأنها الدهر، لتعزف من جديد وعادت الحناجر الى أغنياتها تشجع بقية المتسابقين على الإستمرار في الإحتفال وتشرح حكمة الخوف المتزن الشجاع:

أغنية سراط الشجاعة

من اسرف في الأمان من الشمال
تهور دون ان يدري..على اليمين..
لاتحسب كثير الأمان حكيماً

وإن رأيت متهوراً على اليمين،
فابحث عن قلقه في الشمال
لاتحسب المتهور شجاعاً

لاتبق طويلاً في امان
فتصدأ شجاعتك،
ولا تتعرض للكثير من الخطر
فتستهلك شجاعتك


للشجاعة فضل ردع الدوار
عن العيون المحدقة بالأخطار
لتجد السراط بينها
سراط الشجاعة الحكيم

لا تحتقر الخوف
لاتدفعه بعيداً عنك..
الخوف صديق


إعتن بمخاوفك وعد اليها...
زنها وتأكد ان احداً لم يسرقها..
مخاوفك الموزونة تعويذات غالية
فلتوزع تعاويذك بإعتناء
على ابواب الخطر
كما توزع قطرات الماء الأخيرة
على خطوات المسافر في الصحراء
ما الشجاعة إلا التوزيع الأمثل للخوف
يقودك للسراط الدقيق
سراط الشجاعة الحكيم


03-02-2008


 


 

Counters