| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الأثنين 9/2/ 2009

 

البشرية وحذاؤها الضيق

صائب خليل

عندما بدأت ياره المشي، كانت مناسبة لشراء حذاء "حقيقي" لها، فلم يعد حذاؤها القماشي مناسباً، فوجدنا لها واحداً جميلاً جداً. أحذية الأطفال في هولندا تشبه أحذية الكبار في شكلها والإهتمام بها, وسعرها أيضاً! يارة صارت أجمل بحذائها الجديد، وتحسنت على الفور قدرتها على المشي!
بعد فترة وجيزة أبلغتنا الفتاة الشابة "ماندي" التي تشرف على ياره في الحضانة بأن حذاء ياره ضاق عليها, وأنها تعاني منه. "ألم تلاحظوا ذلك؟ بدأ يؤلمها، وسوف يعرقل نمو قدمها ومشيها بلا شك"!
لم ننتبه أن يارة تعاني فعلاً من الحذاء، لكن ماندي كانت بلا شك أدق ملاحظة منا. وعدناها أننا سوف نشتري لها حذاء جديداً بأقرب وقت.
حين ذهبت بعد يومين لأستلام ياره من الحضانة، واجهتني "ماندي" بغضب ولوم قاس لأني تأخرت في استبدال حذاء ابنتي، وتحولت ماندي من تلك البنت اللطيفة الودودة، إلى امرأة ثائرة، ووجهت إلي كلاماً أخجلني، ولم تتركني أهرب حتى وعدتها أن ياره ستحصل هذا المساء على حذاء مناسب!
في الطريق بقيت أفكر بـ "ماندي" وتحولها المفاجئ المدهش، والفارق "بيننا" و "بينهم". وفكرت :"ما أسرع ما ينمو الأطفال...هذا الحذاء الجميل الذي كان قبل اسابيع يساعد ياره على المشي، صار يعيقها ويؤلمها!"

لكن ظاهرة "الحذاء الضيق" ليست مقتصرة على الأطفال، فكل ما ينمو، لا مفر من أن يضيق عليه حذاءه يوماً، والبشرية ليست استثناءً من ذلك، لذا فهي تتألم!

"الأزمة المالية" التي مازالت توجع البشرية أوضح دليل على ذلك. الأزمة المالية كلفت المجتمع البشري حتى الآن ما يزيد على 3 الاف مليار دولار، بشكل مباشر...دفعها الناس من جيوبهم، دون أن يعلموا بالضبط إلى أين ذهبت!! ثلاثة ألاف مليار من تعب الناس وعملهم تبخرت إلى مكان ما، ومازال القدر يغلي.

يوجه عصام شكري "أسئلة ملحة وموجعة" عن "الحل" الهائل الكلفة الذي تكبدته البشرية فيقول:
"الدولة تكفل البنوك والشركات وقوى رأس المال بالمليارات ولكن البشر، من يكفلهم؟!
من يدفع كسور ضئيلة من تلك المبالغ الهائلة ليوفر مياه شرب نظيفة وكهرباء ومساكن تليق بالبشر ورعاية صحية وادوية رخيصة واغذية ؟ من يكفل مستويات المعيشة الانسانية المرفهة المتناسبة مع التطور المهول في الانتاج ؟!.
... من يكفل الاطفال الذين يصابون في العراق بالكوليرا والتيفوئيد والجمرة الخبيثة و بالاسهال وسوء التغذية ويموتون بين ايدي امهاتهم وابائهم بعيون غائرة وافواه مصوبة الى السماء؟
لماذا تصادر البنوك الامريكية منازل المواطنين العمال والكادحين وحتى سياراتهم ومدخراتهم الشخصية واثاثهم، في حين لا تقوم تلك الحكومة باي خطوة لحمايتهم من رمي اثاثهم وملابسهم في الشوارع امام انظار جيرانهم؟"

لكن هذا ليس أسوأ ما تمر به البشرية اليوم، ففي دراسة ظهرت مؤخراً بين أحد العلماء أن الخسائر التي يسببها ارتفاع درجة الحرارة حالياً تجعل أرقام خسائر الأزمة المالية تبدو أقزاماً، لكن تلك الخسائر في الغابات والبيئة، لاترى بسهولة مثل ارقام الدولارات. والحقيقة أن خطورة الإرتفاع الحراري أكبر بكثير من تلك الأرقام وحتى من خسائر الغابات...إنها تهدد شكل الحياة على الأرض، ورغم ذلك تصر قيادة العالم الرأسمالية، على أن تجعلنا ندخل الكارثة أكثر وأكثر دون إجراء بحجمها، بل أنهم يتعمدون تزوير الدراسات ليوهموا الناس بأن كل شيء على مايرام.

لكن من الذي يزوّر في مثل هذه الأمور الخطرة؟ كتب محمد التفراوتي محذراً بأن "من ينكر تغيّر المناخ اليوم أنكر مضار التدخين بالأمس" مشيراً إلى محاولة أحد "العلماء" الباحثين في الأمر والذي يحاول أن يعزي التغير المناخي، لا إلى نظام الإنتاج والإستهلاك غير الرشيد للبشرية اليوم، بل إلى "دورة مناخية تمر بها الأرض كل 1500 سنة" وبالتالي فليس بالإمكان عمل شيء لذلك!
والحقيقة أن شركات النفط والسيارات وغيرها جندت إلاف "العلماء" لكي يكتبوا بعدم وجود علاقة بين أسلوب الحياة الرأسمالي البشري على الأرض وبين التغير المناخي، ومحاولة الرد على الأدلة القوية المتوفرة وإقناع الناس بأن الأمر عبارة عن تهويل وتخويف فارغين.
وهذه القصة ليست جديدة أيضاً، فكلما تم اكتشاف علمي لايناسب الأقوياء من الصناعيين أو غيرهم، تم تجنيد "العلماء" والمؤسسات لتفنيد الدليل العلمي ليستمر الإنتاج والربح.
قبل عام، كتب الأستاذ جهاد عقل عن مبادرة للإتحاد الدولي لعمال البناء والأخشاب للقيام بـ "حملة دوليةعمالية لمناهضة إستعمال مادة الإسبستوس" أشار فيها إلى أن هذه المادة التي ماتزال مستعملة في معظم انحاء العالم، تسبب الموت للكثير من العاملين الذين يستعملونها وخاصة في فرع البناء.
ورغم أن المادة منعت في 40 من الدول المتقدمة الديمقراطية، إلا أن الصراع من أجل منعها لم يكن سهلاً، حتى في الدول التي تضطر فيها الحكومة إلى الإستماع إلى كلمة الشعب، فاستمر الصراع في هولندا مثلاً 20 عاماً بين اكتشاف الخطر وحتى تمكنت القوى الشعبية من منعه!
واليوم تلعب شركات صناعة التبغ العملاقة دوراً قذراً ومؤثراً في سبيل عرقلة ومنع قوانين منع التدخين أو عرقلة استيراد التبوغ، وهي تستعمل قوانين المؤسسات التي أنشأتها مثل "حرية التجارة" لفرض قبول تلك السموم على الناس في بلادها وفي البلدان الأخرى. تماماً مثلما فعل البريطانيون في الماضي في الصين حين اجبروها على استيراد الأفيون!
عودة إلى مقالة الأستاذ التفراوتي، نجد أن " نفس المؤلف الرئيسي لكتاب المناخ،(الذي ينكر أثر الصناعة في ارتفاع الحرارة) الدكتور فرد سنغر ، كان المشرف .. ”العلمي” على تقرير نُشر عام 1994، والذي يُنكر وجود صلة بين ”التدخين السلبي”، أي آثار دخان التبغ على الناس المحيطين بالمدخّن، وأمراض القلب والرئة والسرطان. وقد استخدمت شركات التبغ، .... هذا التقرير لمواجهة الأبحاث العلمية لوكالة البيئة الأميركية، التي أوصت بمنع التدخين في الأماكن العامة"!

في النصف الثاني من القرن الماضي، تعرضت الحياة على الأرض لخطر الإنتهاء أكثر من مرة, ونجت بفارق "شعرة" من دمار نووي قد لايبقي أية حياة على الأرض، بسبب التوتر العسكري في جو الحرب "الباردة"!
وهاهي النغمة الخطرة تعود من جديد وكأن العالم لم يكن على وشك الإنتهاء بسببها. رداً على تحركات أميركا، اتهمتها روسيا بالسعي لتطويقها بالأسلحة النووية وتهدد بأنها ستوجه صواريخها النووية إلى كل الدول التي تسهم في ذلك الحصار!
مازال المعتوهين من العسكريين يتصرفون بنفس التهور الخطير الذي كادوا يطيحون بالعالم بسببه في الهاوية، وهاهم قادة عسكريون سابقون في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا يدعون حلف شمال الأطلسي إلى التأهب للقيام بالسبق في توجيه الضربة النووية الأولى في حال انتشار الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل حول العالم! إنهم يفعلون ذلك بعد أن حولوا العالم إلى مكان لايأمن فيه من لايمتلك القنبلة الذرية من أن يتم انتهاكه وتدميره!

لماذا تفشل البشرية بعد كل هذا التقدم من أن تعيش بشكل صحي وسعيد؟ ما الذي يضطرها إلى قبول تجرع السموم واستنشاق ابيرات الأسبست ودفع الأموال إلى حيث لا تعلم؟ ما الذي يدفع حتى بمجتمعاتها المتقدمة صناعياً إلى العودة تدريجياً إلى الخرافات الأقرب إلى السحر والشعوذة ؟ لماذا تسجل كتب مثل "هاري بوتر" أكبر المبيعات في دول في قمة البشرية المتقدمة؟ لماذا مازال الناس يجهلون فلاسفتهم الكبار مثل ماركس ونيتشة وغوته؟ لماذا ما زال مفهوم "لا أخلاق في السياسة" مقبولاً وشائعاً؟ لماذا يفشل الإنسان في الحصول على الأمن الصحي لأطفاله؟ حتى في بعض أكبر الدول المتقدمة والديمقراطية؟ بل لماذا وصف أميركا مدير منظمة هيومان رايتس ووج في الولايات المتحدة ديفيد فاهتي بأنها "اكبر سجان في العالم"؟ ولم مازال يحكم فيها حتى على الأطفال بالسجن المؤبد والإعدام أحياناً؟ هل هي صدفة أن يوجه وزير العدل في بريطانيا، ثاني أشد دولة في رأسماليتها في العالم، مناشدة عاجلة إلى المحاكم في بلاده لإرسال أعداد أقل من المحكومين إلى السجون بسبب وصول عدد السجناء إلى رقم قياس، وأن تضطر السجون التي عبرت طاقتها الإستيعابية إلى "الإطلاق المبكر لسراح السجناء"؟

أي نظام مالي هذا الذي يسمح لمحتال مثل ( برنارد مادوف) بسرقة 50 بليون دولار؟ ولماذا ينتشر الجوع؟ كيف بعد كل هذا التقدم المستمر منذ ألاف السنيين مازال ربع الجنس البشري يعيش تحت خط الفقر؟
لماذا يعيش واحد من كل ثمانية تحت عتبة الفقر في أغنى بلدان العالم وأكثرها قوة؟ ولماذا تخصص مصر التعليم إن كانت الدراسات تقول أنه سيحرم 70% من المصريين دخول الجامعات! لماذا تطالب الشركات اليوم أن يسمح لها بتشغيل منتسبيها أكثر من 8 ساعات دون تعويض؟ بل لماذا مازلنا منذ قرن ونصف نعمل 8 ساعات في اليوم رغم تطور الإنتاجية بشكل مذهل؟ لماذا يزداد التوتر النفسي في كل مكان وحتى لدى الأطفال في الدول المتقدمة؟؟

باختصار...أين نتائج إنجازات البشرية وأثرها على سعادتها وطعامها ووقت فراغها وأمنها وإصلاح مجتمعها وثقافتها وسلامها؟
كتب جارلس سومر: "أعطني النقود التي صرفت على الحرب وسألبس كل رجل وامرأة وطفل ملابس يفخر بها حتى الملوك. وسأبني مدرسة في كل واد في الأرض واتوج كل سفح بمكان يتعبد الناس فيه السلام"!
فمن الذي يقف حائلاً بين البشرية وبين هذا الوعد؟

ينقل لنا رحيم العراقي محاولة للإجابة عن هذا السؤال قام بها كريستيان تروبي حين أوضح في كتابه «المجاعات الجديدة» أن المجاعات الجديدة، على عكس القديمة منها، ليست "طبيعية" بل هي من نتاج النظام الذي تعيشه البشرية اليوم وأن المسؤول عن هذه المعاناة هو سوء توزيع موارد الأرض على سكانها!

لكن لماذا تشمل هذه الأخطار، ويشمل الجوع، ليس المناطق الفقيرة والمتخلفة فقط، بل وأيضاً مناطق في قمة التطور البشري أيضاً؟ ولم تشمل المآسي شعوباً حققت الديمقراطية في بلادها وصار لها القول الفصل في سياستها؟

الجواب ان شعوب تلك المناطق اكتفت بالسيطرة على السلطة السياسية في بلادها ولم تصر على الحصول على السلطة على مواردها المادية أيضاً، وقد أثبت هذا النقص اليوم خطورته الشديدة.
والحقيقة أن المشكلة ليست خفية وجديدة، بل هي معروفة منذ أرسطو الذي كتب بأنه لا يمكن الحديث بجدية عن الديمقراطية في مجتمع يتميز بتطرف في الغنى و الفقر! وينقل عن "روتشلد" أنه قال: "أعطني السلطة على أموال الأمة ولايهمني من الذي سيشرع قوانينها".

هل من حل إذن؟ يذكرنا الأستاذ كريم الشريفي بمحاورة قديمة قيمة فيكتب أن الفيلسوف الأقتصادي برودون إقترح في كتابه "فلسفة البؤس" حلاً للمشكلة الرأسمالية في أنه " يمكن التخلص من الجوانب الردئية للرأسمالية ، مثل تبادل البضائع بدون نقود، والتسليف المجاني للمشاريع..بهذه الزوائد الضارة يمكن ازالة الأستغلال ، وعدم الوقوع بالأزمات الملازمة للرأسمالية ، وبالتالي كبح شهوة الأستغلال"، وأن ماركس رد علية في كتابه ـ "بؤس الفلسفة" بالقول: "لابد من الرأسمالية ان تُخّلي المكان تماماً الى نظام أجتماعي أفضل وأرفع مقاماً."!

لكن الأمر لم يعد مقصوراً على ضياع الثروات ونهبها، فذهب نعوم تشومسكي إلى وصف الحالة في مقدمة كتابه "الهيمنة أو البقاء: السعي الأمريكي من أجل التسلط" (Hegemony or Survival: America's Quest for Global Dominance) بأن الصراع الحالي بين البشرية والرأسمالية لم يعد صراع عدالة مادية فقط بل صار صراع بقاء!
وبنفس العبارة يصرخ إرنست ماندل:" إما الاشتراكية أو زوال الجنس البشري!" ملخصاً رأيه: " أقول لأن الخيار لم يعد حتى بين الاشتراكية و الهمجية، كما كان الأمر في النصف الأول من هذا القرن. بل بات الآن بين الاشتراكية أو استئصال الجنس البشري، إذا نظرتم إلى الكوارث التي تلوح في الافق، وهي كوارث ربما أمكن تأجيلها لأربعين أو خمسين من الأعوام، لكن لا يمكن استبعادها بالكامل. والضمانة الوحيدة لمنعها هو انتصار حقيقي تحققه الاشتراكية على الصعيد العالمي."
****
عودة إلى ياره وحذاءها نقول أن ياره كانت سعيدة الحظ أن كانت لها مربية نبهة وإنسانية وحريصة مثل الشابة ماندي لتنبهنا في الوقت المناسب أن ياره كبرت على حذائها وأنه صار ضيقاً يعرقل نموها ويسبب لها الألم، فهل ستكون البشرية سعيدة الحظ أيضاً، فيكون لها من المثقفين المدركين، من يوقض الجميع من غفوتهم الخطيرة وينبه الناس إلى أن الرأسمالية صارت "حذاءً ضيقاً" للبشرية منذ زمن طويل وإنها تسبب لها الكثير من الألم، وأن قدمها قد تورمت وصارت مهددة بالفناء؟ وهل يتخذ أبناء البشر إجراءهم في الوقت المناسب يا ترى؟
 

9 شباط 2009
 

free web counter