|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  6  / 12 / 2014                                 د. صباح قدوري                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ملاحظات بشأن الموازنة الاتحادية 2015 *

د.صباح قدوري

ان من يحاول التأمل في مسار الاقتصاد العراقي من منظور المستقبل ، لابد ان يتناول العديد من المتغيرات الخارجية والداخلية ، اذا ما اراد ايفاء هذا التأمل حقه . وهنا اود ان احصر هذه المتغيرات ، ببعض ملاحظاتي المتواضعة بشأن الموازنة الاتحادية لعام 2015 ، بدءاً بما أصاب الاقتصاد العراقي ، وخاصة نظامه المالي والنقدي بما فيه الميزانية العامة من التدهور والانهيار والأمراض المزمنة ابان النظام الديكتاتوري المقبور ، وذلك للاسباب التالية :

أولا:

1. الحروب العبثية التي قام بها النظام ضد الاكراد 1975، ، وشن حملات الانفال السيئة الصيت على الشعب الكردي وقصف حلبجة بالاسلحة الكيماوية المحرمة دوليا في اواخر 1980، الحرب ضد ايران 1980، ودامت ثمان سنوات ، غزو ومحاولة احتلال الكويت 1990، وفرض الحصار الجائر على الشعب العراقي ، طال امده 13 سنة، قمع انتفاضة الشعب العراقي 1991، واخيرا الأحتلال الانكلو - امريكي 2003 . كلفت هذه الحروب المجنونة خسائر بشرية بملايين من البشر ، والخسائر المادية بعشرات المليارات من الدولارات من عوائد النفط.

2. صرف احتياطي العملات الاجنبية الذي كان يمتلكه العراق في حينه ، قدرت قيمته بين 35-40 مليار دولار . تفاقمت مديونية العراق وبلغ الدين الخارجي بحدود 100 مليار دولار، وترتب عليه دفع 200 مليار دولار لتسديد التعويضات المطلوبة منه بقرارات الامم المتحدة، وان كلفة الاضرار التي لحقت بايران خلال الحرب حسب تقديرات الامم المتحدة ، كانت بحدود 100 مليار دولار ، وبذلك بلغ مجموع الالتزامات المطلوبة من العراق في حينه 400 مليار دولار.

3. ارتفاع معدلات التضخم بشكل سريع، نتيجة الانخفاض الشديد في القدرة الشرائية للدينار العراقي ، واصبحت نسبته 2000% صعودا ونزولا بعد فرض الحصار الاقتصادي عام 1990.

4. تدمير شامل ومبرمج للبني التحتية، وتدهور الانتاج ، وخاصة في القطاعات الانتاجية المهمة ، كالزراعة والصناعات التحويلية، وغيرها. وتدني الخدمات والحاجات الاساسية للمواطنين من الماء والكهرباء ، والتعليم والصحة والجوانب الاجتماعية. وقد ادى التأثير المشترك للحروب والعقوبات على تقلبات دراماتيكية في انتاج النفط وتصديره ، اذ انخفض انتاج النفط من 2,5 مليون برميل في عام 1980 قبل الحرب على ايران الى 1 مليون برميل يوميا عام 1983، مع القدرة التصديرية للعراق الى (700) الف برميل يوميا فقط ، واصبح بيعه تحت اشراف الامم المتحدة ، مقابل تأمين الغذاء للشعب العراقي .

5. استخدام الاموال العامة لعسكرة الاقتصاد والارهاب، بدلا من توظيفها في خدمة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.

6 . تفشي ظاهرة الفساد الاداري والمالي على كافة المستويات الادارية وأختراق مؤسسات الدولة من قبل البعثيين السابقين .

ثانيا:

وفي ظل النظام الجديد بعد الاحتلال 2003 ، فشلت كل الحكومات التي شكلت لمعالجة الاثار الكارثية التي تركها النظام السابق على المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئة ، وذلك لاسباب منها:

1- انعدام رؤية شفافة واستراتيجية و/ او ايدلوجية واضحة في عملية التنمية الاقتصادية / الاجتماعية المستدامة. وقد بلغت موارد الدولة العراقية منذ الاحتلال في 2003 ولحد اليوم نحو 700 سبعمائة مليار دولار امريكي ، لم تستثمر منها الا مبالغ قليلة جدا في تطوير القطاعات الانتاجية، وخاصة الصناعة والزراعة ، ولا في مجالات بناء واعادة بناء البني التحتية ، و/ او جلب التكنلوجيا المتطورة، ولا في تحسين وتأمين الخدمات العامة الضرورية من الصحة والتعليم ومياه الشرب والكهرباء ومشتقات النفط، ولا لتنفيذ خطط جادة للقضاء على البطالة الواسعة . اذ تم تبديد غالبيتها في مشاريع وسياسات لا علاقة لها بتحقيق التنمية الوطنية. كما جرى نهب عشرات المليارات منها من قبل المحتلين والفاسدين والمافيات والطفيليين على المستويات الادارية والحزبية.

2- سوء الادارة المالية والنقدية ، وعدم الاسترشاد باركان الادارة الرشيدة.

3- انتهاج النظام السياسي على اسس المحاصصة الطائفية والمذهبية والاثنية.

4- استشراء الفساد الاداري والمالي في كل المفاصل الادارية والحزبية.

5- انعدام الامن والاستقرار، من جراء الخلافات السياسية والطائفية والاثنية، والصراع على المال والسلطة والنفوذ ، مما يهدد السلم الاهلي ، وخاصة بعد تصاعد العمليات الارهابية من قبل ما يسمى بالدولة الاسلامية (داعش)، بعد احتلالها مدينة الموصل و بعض المناطق من صلاح الدين، وديالى،والرمادي.

6- استمرار الخلافات السياسية بين الحكومة المركزية وحكومة اقليم كردستان ، وذلك فيما يتعلق بالحصة المخصصة للاقليم من مداخيل النفط والموازنة العامة .

وبناء على ما تقدم ، ارى بأن التغييرات التي حصلت على الحكومة السابقة، نتيجة للانتخابات التشريعية التي جرت في نيسان من العام الحالي، وانبثاق الحكومة الجديدة برئاسة السيد حيدر العبادي، وبمشاركة الاطراف السياسية ، ينتظر الشعب العراقي بفارغ الصبر من هذه الحكومة الاستفادة من الاخطاء والويلات السابقة والتوجه نحو الاصلاح والتغيير الحقيقيين على المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وفق رؤية واضحة وشفافة واستراتيجية بناءة لعملية التنمية الاقتصادية / الاجتماعية المستدامة، وترجمة اهدافها في اعداد خطة الموازنة الاتحادية لعام 2015 ، وفق بعض الملاحظات ، اراها مهمة بهذا الخصوص ، اوردها ، كالاتي:

1- ان مشروع قانون الميزانية هو اداة رئيسة لتنفيذ التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة للدولة.

2- استخدام معايير علمية ومنطقية في تبويب واعداد الموازنة العامة . تعتمد على قياس كفاءة الاداء والانتاجية ، على ضوء الحسابات الختامية للميزانيات السابقة (عادة للمزانيتين السابقتين) لكل مؤسسة او دائرة حكومية. قياس نسبة التبذير والنفقات غير الضرورية ، وحسب كلفتها وانتاجها المادي والمعنوي ضمن موقعها من مخطط الاقتصاد الوطني ،والرقابة الصارمة على الفساد المالي والاداري.

3- التحكم بالموارد المالية المتاحة بشكل عقلاني ومنطقي حتى تكون تقديرات ميزانية 2015 اقرب الى الواقع على اسس الاهداف والبرامج الحقيقية ، وليس فقط الارقام المجردة كما متبع لحد الان ، والاستعانة بالاساتذة والاكاديميين والباحثين المهتمين في هذا المجال ، لوضع الدراسات عنها لغرض التقييم والمحاسبة ، وتطوير العمل والانتاجية ، واشباعها بالمناقشات على كافة المستويات المطلوبة.

4- العراق ما زال يعاني من نزاعات داخلية، ولم تتوافر له بعد أسباب الأمن والأستقرارعلى نحو يسمح بوضع برامج واقعية وطموحة للتنمية واعادة الأعمار. ففي ظروف انعدام استراتيجية تنموية واضحة وخلل امني كبير بشكل أساسي ، سيتم التوجه إلى القطاعات ذات الربحية السريعة دون إعطاء أية أهمية للقطاعات المنتجة.

5- اعتماد منهجية اقتصادية شفافة ومحدده لعملية التنمية الاقتصادية / الاجتماعية المستدامة ، وفق الرؤية الاستراتيجية الواضحة والمتكاملة لافاق التطور الاقتصادي في المرحلة الراهنة . ان الخلفية الايدلوجية والفكرية المعتمدة للحكومة العراقية وبمؤازرة من الاقتصاديين اللبراليين الجدد للموازنات السابقة ، تحث وتشجع وتدعم فقط نظام اقتصاد السوق والخصخصة ، متماشيا مع سياسات وتوجيهات المؤسسات الدولية (الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية) على الاقتصاديات المتخلفة في الوقت الراهن، مما تفتح هذه الحالة الطريق امام رؤوس الاموال الاجنبية لفرض هيمنتها على النشاط الاقتصادي الوطني، فعليه ارى انه من الضروري التوجه نحو تطبيق نوع من الأقتصاد المتوازن، تحدد فيها الأهداف والأوليات، وذلك من خلال برنامج اصلاحي معلن ، تحدد فيه دور ومهام كل من القطاع العام والخاص والمشترك والتعاوني في هذه العملية .

6.- أقترح ان تكون بنية الموازنة العامة لعام 2015 ، كالاتي :

اولا : الايرادات العمومية للدولة ، تكون تركيبتها، كالاتي :

- عائدات النفط ، المساعدات الخارجية النقدية وتنفيذ المشاريع ، الضرائب ، الديون الخارجية والداخلية ، ايرادات اخرى.

- الأعتماد بالدرجة الأولى على الريع النفطي حتى الان، وبقاء بنية الموازنة احادية الجانب للأقتصاد العراقي على هذا الريع ، وتبعيات كمياته واسعاره المنتجة، بدلأ من التفكير في استراتيجية واضحة لتنشيط القطاعات
الأنتاجية الأخرى وخاصة الزراعية والصناعية منها.

- اما المساعدات الخارجية لتنفيذ اعمار وبناء بعض المشاريع بشكل مباشر من قبل الدول المانحة للمساعدة، تكرس نوع من تبعية واعتماد الأقتصاد العراقي على الخارج في تحديد اتجاهات اعادة هيكليته، وبالتالي يشكل تدخلا مباشرا في شؤون العراق وانتقاصا لسيادته الوطنية.

- اما الاقتراض الداخلي ، فيتم عن طريق اصدار سندات حكومية بربحية عالية، وتقديم تسهيلات كبيرة
الى المستثمرين تجعل من مخاطرتهم باموالهم مجزية.

- اما الديون الخارجية ، يجب الألتجاء اليها بعقلانية في حالة الضرورة القصوى، بما لها من التبعيات والمشاكل الادارية والمالية والتنظيمية والقانونية. وتكون عادة فوائدها مرتفعة ، مما تشكل عبئاً كبيرا وثقيلا على الاقتصاد العراقي مستقبلا .

- اما الأيرادات الناجمة عن الضرائب فهي في تناقص مستمر، بسبب صعوبة الجباية وانتشار الفساد الأداري والمالي في اجهزتها ، كذلك ايرادات الرسوم الجمركية تخضع لشروط المنظمات المالية والنقدية الدولية منها منظمة التجارة الدولية التي تهدف الى ازالة الحواجز الجمركية بمرور الزمن.

ثانيا : نفقات جارية – التشغيلية العمومية، يمكن تصنفها ، كالاتي:

- نفقات اقتصادية، وتشمل (الطاقة ، والماء ، والصناعة ، والزراعة ، والتجارة ، النقل والمواصلأت
الأنشاءات والبناء، والتكنلوجيا الحديثة ، والبنية التحتية ، وغيرها).

- نفقات اجتماعية، وتشمل (الصحة ، والتعليم ، التشغيل والتنمية الأجتماعية ، والضمان الأجتماعي والشيخوخة، والمرأة ، والثقافة ، والاوقاف ، والشباب والرياضة، والسياحة ، والغابات ، والبيئة ،وغيرها) .

- نفقات سياسية وامنية، وهي مهيمنة لحد الان على الموازنة ، وتشمل (الدفاع ، والأمن ، والخارجية ، والداخلية ، والعدل ، نفقات عسكرية اخرى، والبرلمان ، ورئاستي الوزراء والدولة ، وغيرها ) ان سياسة التمويل بالعجز لهذه النفقات العمومية ، لأ تؤدي الى خلق الزيادة في تراكم رأس المال الثابث كما يذهب اليه البعض ، وكما هو الحال في الأنفاق العام الأستثماري ، بل تشكل وسيلة لمراكمة الثروات في أيدي الأقلية ، وبالتالي زيادة المديونية وتفاقم عجز الميزانية العامة وتتحول الى حالة مزمنة ترافقها ارتفاع معدلأت التضخم و الكساد والبطالة وارتفاع العبء الضريبي، وكل هذه النتائج تعكس على الحقوق الأقتصادية والأجتماعية للطبقات المسحوقة.

ثالثا: موازنة الخطة الاستثمارية 2013-2017

هناك خلل بنيوي في تركيبة االموازنات السابقة ، وذلك بسبب تفاوت كبير في نسبة توزيع نفقات الموازنة بين الأنفاق العام التشغيلي التي تمثل بحدود 70% والأنفاق العام الأستثماري وتشكل بحدود 30% من مجموع الموازنات . تسبب هذه الحالة عجز الموازنة في خلق ديناميكية على مستوى تحقيق النمو الاقتصادي ، فمثلا 5-7% في موازنة 2015، والذي يشترط وجود استثمارات ضخمة يحتاجها البلد وخاصة في مجال بناء واعادة بناء البنية التحتية ، تأهيل القطاع النفطي الى 3-5 مليون برميل يوميا ، وباسعار معتدلة للنفط في المستقبل المنظور ، كذلك النهوض بالقطاعات الأنتاجية ، وفي مقدمتها القطاع الصناعي والزراعي وغيرها، وتوزيع نفقات الميزانية بالمناصفة بين التشغيلية والاستثمارية في المرحلة الراهنة.

والخلأصة يمكن القول ، بان مشروعات الميزانيات السابقة لم تؤدي مهامها في عملية انتعاش الأقتصادي في العراق الجديد ضمن اوضاع امنية منفلتة، وفشل السياسات الأقتصادية للحكومات قبل وبعد سقوط الديكتاتورية، وما دام هناك التأكيد وبشكل مستمر على زيادة الأنفاق العسكري والأمني بالنسبة للوضع الراهن ، مما تسبب في زيادة النفقات العمومية بمعدلأت كبيرة . هناك تبذير كبير في مجال الأنفاق العمومي في رواتب المسؤولين للأجهزة الحكومية على مستوى الوزارات واعضاء البرلمان العراقي ، ونفقات حماياتهم واسكانهم ، كذلك نفقات السلك الدبلوماسي في الخارج ، دعم الأحزاب المشاركة في الحكومة وميلشياتها بأموال ضخمة ، نفقات المهجرين والمرحلين ، تفاقم مشكلة سياسة الدعم والمديونية الخارجية ، مع اتساع وتفاقم ظاهرة الفساد الأداري والأقتصادي وغسيل الاموال على كافة المستويات الأدارية، وغياب الضمانات الكفيلة بحماية الثروة الوطنية والمال العام.

والبديل لهذه السياسة هو الاعتماد على سياسة مالية تستند الى استراتيجية تنموية ، من خلال وجود رؤية جادة في ما يتعلق بأولويات واهداف التنمية ضمن (استراتيجية التنمية الوطنية) ، وتوسيع اطار هذه الأستراتيجية بما يكفل صياغة اهداف وبرامج قطاعية محددة ، واعادة ترتيب الأولويات بشكل يتناسب والتطورات الجديدة في الحالة العراقية ، بحيث تضمن معدلات مقبولة للنمو والاداء الأقتصادي ، وتهدف الى اشباع الحاجات الملحة والمتنامية للمواطنين في المستقبل المنظور ، والقضاء على البطالة ، وبعث الحيوية في قدرة الدولة على اداء مهامها بأحسن وجه ممكن ، وتنفيذ البرامج الاستثمارية المهمة، وايجاد اليات وادوات فعالة لتحقيق هذه الاهداف. التوجه نحو تطبيق مبدأ اللامركزية الادارية للاقاليم والمحافظات ، والاسترشاد بأركان ومبادئ الادارة الرشيدة (الديمقراطية ، الشفافية، والنزاهة ، والمسؤولية والواجبات … وغيرها).


* ورقة عمل مقدمة الى المعهد العراقي للاصلاح الاقتصادي ، للمناقشة في الجلسة الحوارية بتاريخ 6/12/2015 حول الموازنة الاتحادية 2015، والمنعقدة في مقر المعهد في بغداد .
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter