| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سلام إبراهيم كبة

 

 

 

السبت 23/6/ 2012                                                                                                    

 

ثورة 14 تموز 1958 المجيدة والاقتصاد الاسلامي

سلام  كبة    

·       المقدمة

·       لقاء وزير الاقتصاد  في حكومة قاسم

·       السياسة الاقتصادية وثورة 14 تموز 1958!

·       الوعي الديني والفكر الرجعي في العراق

·       الاقتصاد الاسلامي/الشكل والمضمون

·       اسلمة النظم الاقتصادية

·       اقتصاد النخب الدينية الاسلامية الحاكمة في العراق

·       المقدمة

عام 1961،وعلى هامش زيارة له الى مدينة كربلاء لتفقد بعض المشاريع الاقتصادية،التقى الدكتور ابراهيم كبة وزير الاقتصاد في حكومة الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم المرجع الديني المعروف محمد الحسيني الشيرازي،ودار بينهما حديث مقتضب حول الاقتصاد الاسلامي،قام الشيرازي بذكر فحوى اللقاء وما دار فيه في الفصل الثاني عن العهد الجمهوري الاول من كتابه الموسوم"تلك الايام / صفحات من تاريخ العراق السياسي/مؤسسة الوعي الاسلامي / بيروت / 2000".وابراهيم كبة علم بارز من اعلام الفكر في العراق والوطن العربي،ومناضل صلب من اجل الحرية والتقدم،وشخصية اكاديمية ديمقراطية عرفته جامعتا بغداد والمستنصرية  بحضوره المؤثر منذ اواسط خمسينات القرن المنصرم،وتخرج من مدرسته المئات من حملة افكار الاشتراكية العلمية،كما امتلك مراسلاته الاكاديمية النقدية مع اساتذة الادب الاقتصادي الاكاديمي العالمي!تولى في آن واحد حقيبتي وزارة التجارة(الاقتصاد لاحقا)ووزارة الاصلاح الزراعي،ووزارة النفط وكالة في اول حكومة بعد ثورة 14 تموز 1958،وله عشرات المؤلفات الى جانب البحوث والدراسات في المجلات والصحف العراقية والعالمية.وحول الاستاذ ابراهيم كبة محاكمته بعد انقلاب رمضان الاسود الى محاكمة للبعث والقومجية والرجعية وبرامجها الاقتصادية الانتقائية النفعية،ودافع عن نفسه بنفسه في مرافعة كانت دراسة عن الاقتصاد العراقي في فترة ما بعد ثورة 14 تموز نشرها فيما بعد في كتابه"هذا هو طريق 14 تموز" عام 1967.

حارب البعث الفاشي ابراهيم كبة وأحاله على التقاعد عام 1977 وبذل الجهد لتقزيمه،الا انه ظل وفيا لمبادئه في الفكر المادي الاصيل والاشتراكي العلمي والماركسي والديمقراطي،وبقي في شيخوخته محاصرا وحبيس الضغوطات الدكتاتورية وفي شبه اقامة جبرية،حتى رحيله  في 26 /10 /2004!وكانت آخر اصداراته "الرأسمالية نظاما – 1973 لمؤلفه اوليفر كوكس"و"مشاكل الجدل في الرأسمال لماركس – 1979  لمؤلفه روزنتال"...كما كتب مقالة في مجلة الاقتصاد عام 1973 معنونة"ضوء جديد على مشكلة العلاقة بين الدين ونشوء الرأسمالية"،وفيها جميعا اكد على دور العوامل المادية والفكرية التي ساعدت في تطور النظام الرأسمالي،واهمية الربط الوثيق بين الاقتصاد الرأسمالي ومختلف عناصر التربة الاجتماعية"الرحم الاجتماعي"التي ولد وترعرع فيها النظام...وعلى دور الدين والمذاهب الدينية الاصلاحية في تطور النظام الرأسمالي مع النقد اللاذع للتفسيرات الدينية المتعددة لنشأة الرأسمالية.واكد ايضا على ان الجدل المادي باعتباره علم القوانين الاكثر عمومية لتطور الطبيعة والمجتمع هو في نفس الوقت منطق اي نظرية لمعرفة قوانين الفكر،في الوقت الذي نجح فيه كارل ماركس في الرأسمال بتطبيق الجدل على المعرفة وحل اعقد معضلات نظرية المعرفة التي بقيت حجر عثرة امام جميع المفكرين السابقين،من قبيل العلاقة بين الجوهر والظاهرة،بين التاريخي والمنطقي،بين التحليل والتركيب،بين الاستقراء والاستنتاج،بين المجرد والمحدد ... الخ. 

من جهته،تولى محمد الحسيني الشيرازي"خاله الامام محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق"المرجعية في مدينة كربلاء عام 1961،غير انه اضطر لمغادرة العراق عقب تعرض اتباعه لحملات الملاحقة والقتل على ايدي سلطات حزب البعث وتهديده بالقتل،وحكمت عليه الدكتاتورية البائدة بالاعدام غيابيا في وقت لاحق"نشرت جريدة الثورة البغدادية نص الحكم"وعطلت جميع مؤسساته،وصودر بيته ومنزله.ومن العراق انتقل الشيرازي الى الكويت حيث اسس الحوزة الشيرازية،وتوجه الشيرازي بعد الثورة الايرانية الى مدينة قم حيث توجد اهم حوزة دينية للشيعة في ايران،وسرعان ما تحولت حوزته الى ملتقى لكبار المدرسين واساتذة الحوزة ممن تتلمذوا على يديه علوم الفقه والفلسفة والعلوم الدينية فضلا عن الاقتصاد والسياسة.

ورغم مواقف الشيرازي المعارضة لسياسات النظام الثوري في ايران واحتجاجه المستمر ضد حملة الاعدامات والاعتقالات،ورفضه لمحاكم الثورة ومحكمة رجال الدين،غير ان النظام لم يجرؤ على الاساءة اليه او لاتباعه في عهد الخميني،وبدأت معاناته بعد رحيل الخميني،حينما اعلن عدم شرعية ولاية الفقيه المطلقة،ودعا الى تشكيل شورى الفقهاء.ولم يستطع الشيرازي مغادرة بيته اكثر من 15 عاما،عاش اكثرها تحت الاقامة الجبرية منقطعاً عن اتباعه ومقلديه،كما تعرض اتباعه وابناؤه واقاربه لمضايقات شديدة اواسط التسعينات حيث تم اعتقال العشرات منهم،وكان نجله مرتضى الشيرازي قد تعرض في السجن لتعذيب شديد حيث تم احراقه بصب النفط عليه بأمر وزير الاستخبارات الاسبق علي فلاحيان،ولا يزال يحمل مرتضى الشيرازي،الذي يقيم في الكويت،آثار التعذيب على جسده.وعُرف محمد الحسيني الشيرازي بألقاب عديدة منها الامام الشيرازي والمجدد الشيرازي الثاني،وآية الله الشيرازي،وكذلك عُرف بلقب سلطان المؤلفين،حيث ان مؤلفاته تجاوزت الالف.وقد بدأ بتأليف موسوعة الفقه،وهو في الخامسة والعشرين،ووصل تصنيفها الى حوالي 165 مجلد.توفي الشيرازي في قم عن 75 عاما في 17 كانون الاول 2001.

حرصت ان انقل للقراء نص الحوار الذي جرى بين الدكتور ابراهيم كبة والسيد محمد الحسيني الشيرازي عام 1961،مثلما مدون في كتاب الشيرازي"تلك الايام / صفحات من تاريخ العراق السياسي"،واترك للقراء والباحثين التقييم.كان حوار بين شخصيتين،علمانية ودينية...عسى ان يستفيد منها رجل الدين السيد كاظم الحسيني الحائري الفقيه السابق ل"حزب الدعوة الاسلامية"والذي افتى مؤخرا"يحرم التصويت في اي مرفق من مرافق الحكم العراقي الى جانب انسان علماني"!ويعد الحائري الذي يتخذ منذ 1974 من مدينه قم في ايران مقرا له من بين المراجع الشيعة البارزين!وقُتل ولده جواد دفاعاً عن ايران الاسلامية في حربها مع العراق!ويبدو ان الحائري يبعث برسالة الى الشعب العراقي ليؤكد فيها ما ذهب اليه الباحثون من ان النظام الايراني ومنظمة القاعدة الارهابية في وفاق وتنسيق دائمين،بعد ان عين نفسه وكيل الله وولي امر العراق!وهو العالم قبل غيره ان الدين والحقد والبغضاء والكراهية لا تلتقي مطلقا!

وموقف الحائرى تجاه العلمانية ليس جديدا في التاريخ السياسي الحديث،وسبقه البابا الذي عبر عن تخوفه من العلمنة في اوربا وبولونيا"انظر:مجلة ناشينال كاثوليك ريبورتر/عدد 13 نيسان 1990/الولايات المتحدة"..ومن قبله حكمت روما والكنيسة الكاثوليكية على حقوق الانسان لأنها غير مسيحية الى ان حدث التحول مع يوحنا الثالث والعشرين والمجمع الفاتيكاني الثاني في النصف الثاني من القرن العشرين،والفاتيكان آخر مملكة اوربية مطلقة لم توافق على اعلان حقوق الانسان في المجلس الاوربي.هكذا خسرت وتخسر المؤسسة الدينية كثيرا من مصداقيتها في اطار نموذج العصر الحديث والثورة المعلوماتية!

العلمانية مبادئ لتنظيم المجتمع يأتي في مقدمتها احلال مفهوم المواطن محل مفهوم الرعية،واعتبار ان الشعب هو مصدر السلطات،ولابد من ضمان حرية التفكير والبحث.وتدعو العلمانية الى فصل الدين عن الدولة،لأن السلطة شأن بشري والبشر احرار في التشريع لأنفسهم،لكنها لا تنفي الدين كتفكير حر مستقل.     

·       لقاء وزير الاقتصاد  في حكومة قاسم

وكان لنا لقاء مع وزير الاقتصاد فـي حكومة عبد الكريم قاسم(1)،وقد تمّ فـي مقبرة(2)والدي في الحرم الحسيني (عليه السلام)،حيـث كـان مكان تدريسي ولقـاءاتي،وقـد حضـر هـذا اللقـاء لفيـف من الأصدقاء،وقد دونت مقتطفات مـن هـذا الحوار في منشور،قد وزّع في حينه على المعنيين(3).

وقـد ناقشت الوزيـر حـول موضـوع الاقتصاد الإسلامي،وقلت له:لمـاذا لا تقدمـون على تطبيق الاقتصاد الإسلامي؟ 

فقال:لي وقد بدت عليـه آثار التعـجب،ما هو الاقتصاد الإسلامي؟

قلت:الاقتصاد الإسلامي:اقتصـاد مستقل ليس اقتصاداً شيوعياً ولا اقتصاداً رأسمالياً ولا اقتصاداً اشتراكياً،بل لـه خصائص وميـزات معينة تفرزه عـن المذاهب الاقتصادية الأخـرى،وقـد كتب فقهاؤنا معالم هذا الاقتصاد في كتبهم.

قاطعني وفي حالة استغراب: مثلاً !

قلت:يقول الله سبحانه في محكم كتابه:( فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)(4)،ثم أردفت قائلاً:انظر إلى احدى كتبنا الفقهية،فقد ضم هذا الكتاب أكثر من خمسين موضوعاً اقتصادياً.

ازداد تعجبه وقال في حالة دهشة!خمسين موضوعاً؟

قلت:نعـم،كتاب(جواهـر الكلام)(5)يتضمن موضوعـات عـن البيع والرهـن والإجارة والإعارة والمساقات والمزارعة والمضاربة و...

وطفقت أعدد له عنـاوين المعامـلات فـي الفقه الإسلامي،فازداد انبهاره.

ثم افصح عن انبهاره هـذا بقوله:لم اسمع من قبل بكل الذي قلته.

اجبته:أمـر طبيعـي،إنـك لا تعرف شيئاً عن الاقتصاد الإسلامـي،لأنك لم تـدرس شيئاً عن هذا الاقتصاد في المدارس بكافة مراحلها،وعندما دخلت إلى كلية الاقتصاد درستَ كل شئ إلا الاقتصاد الإسلامي.

وإنك لو تصفّحت المنهج الدراسي فانك لا تجد شيئاً عن الإسلام بكافة حقوله،ولو وجدت شيئاً فهو صور ولقطات مشوّهة عـن التاريخ الإسلامي،عن الحروب والصراعات،وعن بطش الخلفاء وبطرهم،ومـا أشبه ذلك،وهـي أمـور ليس فيها أيـة فائدة لمن يريد التعرف علـى حقيقة الإسلام،بل هـي تسبب عنده الاشمئزاز والنفور.

أما الأمـور المفيـدة للمجتمع وبالأخـص الأمور الحياتية،فلا تجد في هذه الكتب شيئاً عنها.

لذا أرى من الضروري إضافة الاقتصاد الإسلامي إلى المناهج الدراسية وعلى الخصوص كلية الاقتصاد ليُدرَّس إلى جانب الألوان الأخرى من الأنظمة الاقتصادية،وشيئاً فشيئاً يتم تطبيق هذه القوانين،حـتى يتم إزالة الفقر والفاقة من المجتمع،فعند تطبيق الاقتصاد الإسلامي سوف لن تجد فقيراً ولن تجد شخصاً بدون مسكنٍ،وما أشبه ذلك.

وضربت له مثالاً ببلد أوربي وهو النَـرويج،وقلت له:في هذا البلد الأوربي ينعدم الفقراء،بينما تجد الفقراء والمساكين والمتكففين فـي بلادنا أينما ذهبت وبالمئات،ناهيك عن الفقـراء الآخـرين الذين لا يسألون الناس إلحافاً.

ثم ذكرت له قصة من التاريخ الإسلامي عـن مدينة (نيشابور)(6)وكانت سابقاً مدينة علمية كبيرة وذات شأن كبـير في العالم الاسلامي وفيها كثـافة سكانية عالية،كما يظهر من رواية ورود الإمام الرضا(عليه السّلام)والتفاف أربعة وعشرين ألف عالم وصاحب قلم وتأليف حـوله ليكتبوا ويدونـوا الأحاديث التي يمليها عليهم،فأية مدينة كبيرة تلك التي يتواجـد فيها أربعة وعشرون ألف عالم في ذلك الزمان؟

دخل رجل فقير إلى هذه المدينة ولما كان فقيراً وجائعاً مدَّ يده إلى الناس طالباً منهم المساعدة، فلم يعطـه أحدٌ شيئاً،وقالوا له:ليس في بلدنا فقير ومحتاج،وإن أهل البلد لا يعطونك،لأنّ عطاءهم سيشجـعك على الفقر والفاقة.

فقال لهم:إني جائع،فدلوه على مكان يستطيع فيه أن يسدّ رمقه.

ثم قال لهم:أريد مكاناً للنوم.

فقالوا له:المكـان الـذي تطلبه مخـصص للعجزة والمعوقين،أما أنت فإن كنت منهم،فانهم سيعطونك مكاناً فـي تلك الدار ويمنحونك ما تحتاج إليه من طعام وكساء،أما إذا كنت قادراً على العمل،فانهم سيمنحونك فرصة الاشتغال والعمل.

ثم قالوا له:ليس فـي مدينتنا من يتكفف طالما كان كل شئ مهيئاً له.

وهو علـى ما يبدو حـال بقيـة البلاد الإسلامية لايختلف عن حال هذه المدينة.

إن التاريـخ يحدثنا أنه من كان يأتي إلى رسول الله(صلّـى الله عليه وآله وسلّم) كان يسأله سؤالين،ولا أعلم هل سؤال الرسـول(صلّى الله عليه وآله وسلم) علـى نحو الإحصاء أو التقريب؟

السؤال الأول:هـل أنت متـزوج؟ فإذا لم يكن متزوجاً كان يحثَّه على الزواج،وفـي كثير من الأحيان يقوم بتزويجه.

وقد ذكر صاحب المستدرك الرواية التالية: عن عكّاف بن وداعة الهلالي قال: أتيتُ إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)،فقال لي:يا عكّاف ألك زوجة؟

قلت: لا يا رسول الله.

قال: ألك جارية؟

فقلت: لا.

قال: وأنت صحيح موسر؟

قلت: نعم.

قال:إذاً أنت من إخـوان الشياطين،إما أن تكون من رهبان النصارى وإما أن تصنع كما يصنع المسلمون،وإن مـن سنّتنا النـكاح،شراركم عزّابكم،وأراذل موتاكم عزّابكم ـ إلـى أن قال ـ ويحك يا عكّاف،تزوج تزوج فإنك من الخاطئين.

قلت : يا رسول الله زوجني قبل أن أقوم.

فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):زوّجتـك كريمة بنت كلثوم الحميري(7). 

أما السؤال الثاني الذي كان يسأله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):ما هـو عملك؟ فإذا عرف أنه لا عمل له، قال له: سقط من عيني.

عن ابن عباس:أنه كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):إذا نظر إلى الرجل فأعجبه، قال لهم هل له حرفة،فإن قالـوا لا: قال سقـط من عيني، قيل وكيف ذاك يا رسول الله،قال:لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه(8).

وكان (صلى الله عليه وآله وسلـم) يستخـدم شتى وسائل التحريـض والتشجيع لدفع الشباب إلـى العمل والمتاجرة.

وكان يقول لمن يأتـي إليه يسأله المال: (من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله)(9)،وهذا كناية عن أن الأفضل للمسلم هـو العمل والمثابـرة وليس التكفّف والاستجداء.

وكما كان يكـرر عبارة:(اليد العليا خير من اليد السفلى)(10)،حيث أن اليد التي تعطي دائماً هي يد عليا، بينما اليد التي تأخذ دائماً يد ذليلة وسفلى.

من هذا المنطق اهتم الإسلام بالاقتصاد ووضع حلولاً لمشاكل البشر الاقتصادية.

ثم خاطبـت الوزير:وأنتم من مصلحتكم إن أردتم البقاء،ومـن مصلحة البـلاد أن تفكـروا بتقدمها،وأن تطبّقوا بنود الاقتصاد الإسلامي واحداً تلو الآخر(11).

قال الوزير بعد أن أصغى لكلامي : الإسلام غير قابل للتطبيق.

قلت له: هذه العبارة يكررها الذين يجهلون حقيقية الإسلام في كل زمان ومكان. ثم أضفت: أي جزء من الإسلام غير قابل للتطبيق؟

هل وجدت شيئاً من الإسلام غير قابل للتطبيق؟

كلامك أيها الوزير يخالف مقولة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):(حلال محمـد حلال إلـى يوم القيامة وحرامه حرام إلـى يـوم القيامة)(12)،ليس في الإسلام بندٌ واحدٌ غير قابل للتطبيق.

صحيح أن هناك حالات نعمل فيها بقانون (لا ضرر ولا ضرار)أو قانون (الأهم والمهم)،وهـذا لا يعني خروجاً عن الإسلام بل يعـني الدخول من الإسلام إلى الإسلام،لان هذه القوانين من واقع وصلب الإسلام.

سمع الوزير كلامـي وقال: إنشاء الله سأخبر الزعيم عبد الكريم قاسم بهـذا الموضوع ثم قام وودعنا متوجها إلى بغداد.  

1 ـ الظاهر أنه الدكتور إبراهيم كبة الذي يعتبره الشيوعيون ممثلهم في وزارة قاسم، وكانت الصحافة الشيوعية تشير إليه على أنه ممثل القوى الشعبية، وظلّ فـي الوزارة حـتى عام 1380هـ (1961م) ثم أُحيل على التقاعد.

2 ـ وهي عبارة عن صالة كبيرة تقع في روضة الإمام الحسين(عليه السلام) وكان الإمام المؤلف يتخذها محلاً للتدريس والمباحثة ومركزاً للقاءاته والبت في القضايا الحقوقية والاجتماعية وقضاء حوائج الناس، علماً إن والديّ الإمام المؤلف قد دفنا في تلك الصالة.

3 ـ ولعـل من الاخوة والأصدقاء من لا يزال يحتفظ بهـذا المنشور حتى الآن.

4 ـ سورة البقرة: الآية 279.

5 ـ ويحتوي على 43 جزء لآية الله العظمى الشيخ محمد حسن باقر عبد الرحيم الجواهري، ويعتبر هذا الكتاب من مفاخر الكتب الشيعية، ولهُ مؤلفات أخرى رسالة في المواريث، هداية الناسكين في مناسك الحج. توفى سنة 1266هـ‍.

6 ـ تقع شمال شرق إيران.

7 ـ مستدرك الوسائل: ج14 ص155 ب2 رقم الرواية 16359، ورواها باختصار القطب الراوندي في(لب الألباب) عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مثله.

8 ـ مستدرك الوسائل: ج13 ص11 ب2 رقم الرواية 14581. 

9 ـ الكافي(أصول): ج2 ص318 ح2.

10 ـ الكافي(فروع): ج4 ص11 ح4.

11 ـ أشار الإمام المؤلف إلى هذه البنود في طيّات كتبه الاقتصادية : الفقه الاقتصاد، الاقتصاد بين المشاكل والحلول، الاقتصاد الإسلامي المقارن.

12 ـ بصائر الدرجات: ص148 الباب الثالث عشر: باب آخـر فيه أمر الكتب ح7 عن أبي عبد الله(عليه السلام)......"

·       السياسة الاقتصادية وثورة 14 تموز 1958!

عبرت ثورة 14 تموز 1958 المجيدة عن السفر العظيم والجبار لشعبنا في تثبيت استقلاله السياسي والاقتصادي وما قدمه من تضحيات وشهداء لبناء مجتمع قائم على الرخاء والرفاهية والعدل الاجتماعي والنهوض السليم المعافى للبناء المؤسساتي المدني!وبعد البيان الاول الصادر في 14 تموز 1958،والذي عكس الطبيعة الوطنية والديمقراطية للثورة"ان الحكم يجب أن يعهد الى حكومة تنبثق من الشعب وتعمل بوحي منه،وهذا لا يتم الا بتأليف جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة"،توالت التشريعات التقدمية"الدستور المؤقت 1958،"بيان النفط"والحرص على استمرار جريان النفط والشروع بالمفاوضات مع شركات النفط وتشريع قانون رقم (80) لسنة 1961 والذي حدد مناطق الاستثمار لشركات النفط الاحتكارية،قانون الاصلاح الزراعي لتصفية الاقطاع رقم (30) لسنة 1958 والغاء قانون المنازعات العشائرية،قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959،بيان لجنة التموين العليا رقم 1 لسنة 1959 الذي حدد منهاج الاستيراد الجديد ومنع استيراد المواد الكمالية والترفية الاستهلاكية والمواد المنتجة المحلية وتشجيع استيراد المنتجات والمكائن والمعدات الضرورية للتصنيع او للاستهلاك الشعبي..

كما حررت العملة العراقية من الكتلة الأسترلينية،وتم بناء مئات الأحياء السكنية وجرى توزيعها على الفقراء من أبناء شعبنا في كل محافظات العراق(ومدينة الثورة هي معلم وشاهد على هذا الأنجاز الكبير لثورة 14 تموزالخالدة)،وتهيأت الظروف لأجازة احزاب سياسية ومنظمات اجتماعية ومهنية تمارس النشاط العلني مثل نقابات العمال والاتحادات الفلاحية ورابطة المرأة العراقية وبقية التنظيمات النسائية واتحاد الطلبة العام واتحاد الشبيبة الديمقراطي ونقابات مهنية للمعلمين والمهندسين والحقوقيين والاطباء ..الخ.وقد تطورت وازدهرت الصناعة الوطنية اثر الاتفاقية الاقتصادية العراقية السوفييتية،والاتفاقيات الاقتصادية والتجارية والثقافية الاخرى مع بلدان اوربا الشرقية والصين الشعبية!

استرشدت وزارة الاقتصاد بعد ثورة 14 تموز المجيدة بعدد من المبادئ التي كانت نقيض السمات التي ميزت الاقتصاد العراقي في العهد الملكي المباد،وهي:التوجيه الاقتصادي والقضاء على التسيب،تحرير الاقتصاد من التبعية الاستعمارية،محاربة الاحتكار وتقوية الفئات الوسطى وتعميم منافع القطاع الخاص الموجه،جذب الرأسمال الوطني والعربي نحو الصناعة،القضاء على الطفيلية في الاقتصاد وعلى الوساطة غير الانتاجية بتعميم التعاون التسويقي الحكومي،محاربة الندرة الاقتصادية بالعمل على زيادة الانتاج والانتاجية،محاربة التحيز في العلاقات التجارية في الداخل والخارج،التكافل الاقتصادي عربيا،تقوية القطاع العام في جميع الحقول الاقتصادية (انشاء الهيئة العامة لشؤون النفط،القطاع الصناعي العام عن طريق مشاريع الاتفاقية السوفييتية،انشاء مصلحة المبايعات الحكومية ومؤسسة التصدير الخارجي للتمور وتعاونيات التمور ومصلحة المعارض الحكومية وشعبة الاقطان ومكتب تصدير الاسمنت وتقوية شركة النقل البحري ...على طريق انشاء نواتات للقطاع التجاري العام،انشاء المزارع الحكومية الكبرى ومحطات تأجير المكائن والآلات الزراعية كنواة للقطاع الزراعي العام ومنع تجاوز القطاع المجنب الخاص على القطاع التعاوني،انشاء منظمة الانشاء الحكومية كنواة للقطاع العام فب البناء والانشاءات..)،انشاء اجهزة التخطيط الجديدة .. الخ.  

في السياسة النفطية،جرى انشاء ادارة وطنية لمصلحة المصافي الحكومية وطرد الخبراء الاجانب من مصفى الدورة بعد تعريقه بالكامل،ثم انشاء الهيئة العامة لشؤون النفط واعدادها للسيطرة التامة على قطاعات الانتاج والتصفية والتوزيع والتصنيع والتصدير على السواء،تصفية شركة نفط خانقين خلال عام واحد دون ضجة دعائية،استرجاع المياه الاقليمية واخراجها من امتياز شركة نفط البصرة،انشاء جهاز لتوزيع الغاز السائل على المواطنين،تخفيض اسعار المشتقات النفطية وخاصة البنزين منذ الايام الاولى للثورة. كما وضعت حكومة ثورة 14 تموز اسس التخطيط الصناعي العلمي وانشأت وزارة ومجلس التخطيط واصدرت قانون السلطة التنفيذية واجرت اصلاحات هامة في معمل النسيج الحكومي والمباشرة بتشغيل معمل السكر الحكومي.

قامت حكومة 14 تموز المجيدة باعادة تنظيم اجهزة مديرية الصناعة العامة واستحدثت فيها شعب للبحوث الاقتصادية وللتنمية الصناعية،كما وضعت عشرات الدراسات الفنية الصناعية تحت تصرف القطاع الخاص كصناعات عرق السوس والتعليب وخميرة الخبز والطباشير الملون والحبال من سعف النخيل والانابيب لمشروع المياه القذرة،وعشرات الدراسات الاقتصادية ايضا كدراسة المواد الاولية لمعامل السباكة وكفاءة معمل الجوت ومعامل السكائر ومشروع الاحذية الشعبية ودراسة استثمار النفايات في مصافي النفط،وعشرات التحاليل الفنية للمواد الخام الصناعية كالاسمنت والاتربة والاخشاب والفحم والاملاح والدهون والصابون والجلود ومعجون الشبابيك واللباد المانع للرطوبة والقصب والرخام والورق والكحول..الخ.وباشرت الحكومة العراقية باجراء مسح صناعي عام للمشاريع الكبرى والمتوسطة وفق اسس اقتصادية وفنية سليمة،واجرت دراسات موضعية كاملة للمشاريع المطلوب حمايتها بالاعفاء"الحماية الصناعية اقتصاديا وتكنيكيا".آنذاك،جرى اعتماد اشراف الدولة على توجيه القطاع الصناعي الخاص ومنع النمو الاحتكاري فيه والحيلولة دون تغلغل الرأسمال الاجنبي المقنع بأقنعة وطنية وتشديد شروط الحماية للمشاريع المختلطة"اشتراط حد ادنى من رأسمالها العراقي لا يقل عن 60% وحد ادنى من نسبة الكلفة لا تقل عن 25%".وجرت عملية تنويع اساليب الحماية الصناعية بانسيابية عالية"التوسع في مدى وآجال ومواد الاعفاءات الصناعية عبر قانون تشجيع المشاريع الصناعية،تشجيع استهلاك المنتجات الوطنية،وضع القطاع التجاري في خدمة القطاع الصناعي،الاهتمام بالجانب الدعائي في الحماية الصناعية،الحيلولة دون نمو الاحتكارية في التسويق الداخلي".

ومن منجزات ثورة 14 تموز تأسيس وكالة حكومية لشراء المعامل الصناعية الصغيرة من بعض البلدان المشهورة بانتاجها على اسس الدفع المؤجل والمقايضة بالصادرات العراقية،وتأسيس شركة كبرى مختلطة لابتياع المعامل المذكورة من الوكالة الحكومية بشروط مريحة وبضمانات المصرف الصناعي وبتوفير حد ادنى من الارباح..الا ان المعارضة الشديدة التي جوبه بها هذا المشروع التخطيطي الهام من اصحاب المصالح حال دون اتمامه بالكامل لينتهي الى مشروع شركة الصناعات الخفيفة.

كان عقد الاتفاقية الاقتصادية العراقية السوفييتية عام 1959 واحدة من التهم التي وجهها الادعاء العام راغب الفخري الى الدكتور ابراهيم كبة اثناء محاكمته عام 1963.ورد الدكتور كبة ان مشاريع الاتفاقية وضعت على اساس تركيب نموذجي لاقتصاد وطني متحرر سليم استنادا على:القيام بالمسح الصناعي والنفطي الجيولوجي والمغناطيسي والسيميكي العام،التركيز على الصناعة في المشاريع بحيث احتلت 80% من مجموع قيمة مشاريع الاتفاقية،التركيز في القطاع الصناعي العام على الصناعات الثقيلة كمعامل الفولاذ والاسمدة الكيمياوية والكبريت وحامض الكبريتيك واللوازم والعدد الكهربائية،وعلى الصناعات الزراعية كمعامل المكائن والمعدات الزراعية والاسمدة النيتروجينية ومحطات الجرارات الزراعية ومعامل النسيج والتعليب،وعلى الصناعات التحويلية كمعامل النسيج القطني والصوفي والتريكو والخياطة والزجاج والمصابيح الكهربائية والتعليب والادوية.وفي حقيقة الامر،لم تكن طريقة الحساب بالروبل آنذاك المشكلة،ولم تكن التكنولوجيا السوفياتية المتدنية هي الآخرى المشكلة!انما كانت المشكلة هي ظهور قوة متحدية للامبريالية مدت يدها الى الشعوب المسحوقة لنيل الاستقلال السياسي والاقتصادي،ومن اراد نيل الحرية عرف كيفية الاستفادة من هذه الفرصة التأريخية،وقد احسنت ثورة 14 تموز المجيدة ووزير الاقتصاد آنذاك الدكتور ابراهيم كبة فهمها وحاول الامساك بها،ومن اراد ان يبقى ذليلاً تفنن في كيفية بتر هذه اليد التي امتدت لمساعدته.

بالتكنولوجيا السوفياتية تسنى للصين بناء صناعاتها،ولمصر بناء السد العالي.وبالتكنولوجيا الحربية السوفياتية هزمت الفيتنام الولايات المتحدة ونالت سيادتها الوطنية.ويكفي النظر الى التدهور الذي وصلت اليه مصر لنفهم الى اين تقود الآيديولوجية المتعفنة التي يتبجح بها الاغبياء المنتقدون لابراهيم كبة المهندس الاقتصادي لثورة 14 تموز.فهؤلاء يجهلون حقيقة تحريم الغرب آنذاك لعمليات نقل التكنولوجيا في مجال الصناعات الاستراتيجية كالحديد والصلب والصناعات الميكانيكية والكهربائية الى البلدان النامية!فعملية نقل التكنولوجيا كانت هي جوهر المعاهدة السوفياتية التي يحاولون الانتقاص منها،ويحاولون تصويرها كأنها عملية نهب.وكان القصد من عرقلة عملية نقل التكنولوجيا في الصناعات الاستراتيجية هو عرقلة عملية التنمية الاقتصادية،ولنفس الاسباب رفض البنك الدولي تمويل مشروع السد العالي.

الصراع كان يدور حول عملية نقل التكنولوجيا.وكان على الاغبياء مراجعة الاضابير الخاصة بمشروع الحديد والصلب في وزارة التخطيط للوقوف على اساليب العملاء التي اتبعت من اجل عرقلة اقامته.ومن اجل فهم دور الاتحاد السوفياتي في عملية نقل التكنولوجيا من الضروري مراجعة كيفية تطويره للقدرات العراقية على استخراج النفط مما تسنى للعراق التحرر من قبضة الاحتكارات النفطية.وكلفة المشاريع المتضمنة في المعاهدة الاقتصادية العراقية السوفييتية عام 1959 لم تكن المشكلة،فمجموع تكاليف جميع مشاريع المعاهدة لم يتجاوز تكلفة مشروع واحد من ابسط المشاريع الاساسية لما يسمى بالتنمية الانفجارية عهد البعث المقبور،اذ كانت كلفة المشروع الواحد من مشاريع التنمية الانفجارية تضرب بالمعامل 3.فلماذا لا يتكلم هؤلاء الاغبياء عن نهب الشركات الغربية عن طريق هذه التنمية الكاذبة،ولماذا لا يتكلمون عن تكاليف مشروع المفاعل الذري الذي ضرب ايضاً بالمعامل 3،وتم تفجيره بعد قبض المبالغ المخصصة؟وقد اثبت بأن الفرنسيين هم الذين قاموا بالتفجيرات من الداخل اثناء القصف الاسرائيلي،لأن قلب المفاعل لم يكن آنذاك قابل للنيل بواسطة القذف الخارجي.ولماذا لا يتكلمون عن عملية نقل التكنولوجيا الغربية في مجال انتاج اسلحة الدمار الشامل التي كلفت بالمليارات،هذه الاسلحة التي استخدمت اولاً في الحرب مع ايران،وفيما بعد كذريعة لتدمير كردستان والعراق؟!

شجعت حكومة ثورة 14 تموز على خلق بورجوازية متوسطة تجارية بتقليص مبالغ الاستيراد للشركات وكبار التجار وتجزئتها خلال العام الواحد،وتسعير المواد الهامة المستوردة بالجملة والمفرد منعا للاحتكار والمضاربة والاستغلال،وتشجيع التجار الصغار والوسط على الاستيراد،وكذلك تشجيع الاقبال على تأسيس الشركات ذات المسؤولية المحدودة وخاصة الصناعية والانتاجية منها وذلك لصرف الرأسمال الوطني من ميدان التجارة الى الميدان الصناعي"امكن تأسيس 24 شركة من هذا القبيل برأسمال يزيد عن مليون دينار خلال العام الاول من الثورة".

جاءت الضربة التي تلقتها العلاقات الإنتاجية شبه الاقطاعية وبالتالي وزن ودور الشيوخ من الاقطاعيين وكبار ملاكي الاراضي الزراعية  في اعقاب ثورة تموز عام 1958 وتسلم السلطة من قوى وقفت من حيث المبدأ ضد الاقطاعيين وهيمنة المشايخ على الفلاحين وصدور قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 والبدء بتوزيع الاراضي على فقراء وصغار الفلاحين.لم تملك 85% من العوائل الريفية حتى ثورة 14 تموز شبرا واحدا من الارض في حين ان 1% من العوائل الريفية امتلك ثلاثة ارباع الاراضي!وبقي فقراء الفلاحين هم المرتبة او الطبقة الاشد ثورية في الريف ولا يفتقرون الى الارض وحسب بل يفتقرون ايضا الى  الرأسمال"النقود وادوات الانتاج".وحسب احصاء 1957 كان لكل 6 عوائل فلاحية حصان واحد اي سدس حصان لكل عائلة .. وكان مابين 60%- 70% من مجموع العوائل الفلاحية لا يملك حصانا واحدا او بغلا او حتى حافرا!كان تملك الفلاح او عدم تملكه لحيوان حراثة قوي يمكن ان يتخذ مقياسا لتصنيفه من مرتبة فقراء الفلاحين او اغنياءهم او متوسطيهم الى جانب المقاييس الاخرى..لقد استغلت في زراعة ما قبل 1958 (2712 ) ساحبة و( 1056 ) حاصدة دارسة وآلاف الآلات الزراعية مما اسهم في تفكيك العلاقات الابوية الا ان انتشار الوعي السياسي بين الفلاحين فجر غضبهم على الاقطاع لا الآلة فايدوا الاصلاحات الزراعية.

لقد سجل القانون رقم 30 لعام 1958 الذي اخذ بحد الألف دونم في الأراضي المروية والفي دونم في الاراضي الديمية مع الأخذ بمبدأ التعويض عن الفائض عن الحد الاعلى يدفع للمالك بأقساط تؤخذ من الفلاحين المستفيدين،بداية جيدة لمسيرة الاصلاح الزراعي..الا ان السنوات التي اعقبت صدور القانون شهدت تراجعا خطيرا في تطبيق فقراته،او تجاوزا عليها في كثير من الاحيان مما اعطى الفرصة للملاكين الكبار للالتفاف على القانون وافراغه من محتواه.واسهمت اجهزة الزراعة والاصلاح الزراعي التي ترتبط مصالحها بالاقطاع من تحقيق تلك الاغراض للعودة بالريف الى ما كان عليه ايام العهود السابقة.واصطدم تطبيق القانون رقم 30 لسنة 1958 بالمقاومة الضارية من كبار الملاكين الذين لجأوا الى كل سلاح بما فيه اغتيال انشط المناضلين من الفلاحين حتى بلغ عدد القتلى العشرات.ولجأوا الى تخريب الانتاج وخاصة في الاراضي الخاضعة للاصلاح – فوق الحد الاعلى – والتي لم يتم الاستيلاء عليها بل بقيت ادارتها بايدي الملاكين بالامتناع عن التسليف وتجهيز البذور كليا او جزئيا.لقد رزخ الفلاح تحت وطأة الديون الحكومية مما دعاه الى ترك الارض والهجرة الى المدن بسبب سلبيات القانون رقم 30 رغم الصراع الساخن بين الاغوات والشيوخ القدامى وبين الفلاحين المستفيدين من تشريعاته وتعديلاته..ولم يكن اتحاد الجمعيات الفلاحية  المشكل وفق القانون رقم 139 عام 1959 سوى اتحادا لكبار مالكي الارض والشيوخ القدامى عرقل عمليا  تنفيذ القانون رقم 30.اضافة لذلك لم يقدم القانون رقم 30 العلاج لحل مشاكل الفلاح المنتج كالتقاليد البالية والمفاهيم المخطوءة والقيم العشائرية،ومشاكل السلوك وضعف القدرات والنشاط وسوء التنظيم وتخلف المستوى التكنولوجي.

حال صدور القانون رقم 30 الذي شرع بتوزيع الاراضي على فقراء وصغار الفلاحين،ساند البعثيون الاقطاع ضد الاصلاح الزراعي،وحاربوا القطاع العام في الاصلاح الزراعي،وشهروا بسياسة وزارة الاصلاح الزراعي واطلقوا الاكاذيب والافتراءات ضدها وجهدوا في مضايقة خيرة الموظفين ومحاولة شل جهاز الاصلاح الزراعي.كما ساند البعثيون الاجهزة القاسمية للقيام بالمخالفات القانونية الصريحة مثل تأجير اراضي الفلاحين للاقطاعيين وجعل حق الاختيار مطلقا من قبل الاقطاع في الاراضي المجنبة خلافا لروح القانون وتأجير اراضي الاوقاف لغير الفلاحين وتزوير الجمعيات الفلاحية والتدخل للسيطرة على انتخابات جمعيات الفلاحين.وضاعف البعثيون محاولاتهم المسعورة لاجراء التعديلات الرجعية الخطيرة في قوانين الاصلاح الزراعي وتأجيل الاستيلاء على اراضي بعض الاقطاعيين خلافا للقانون.

كان هناك اتجاهان متضاربان بشأن تطبيق القانون رقم 30.الاول اتجاه تسوده عوامل سياسية ويتمثل في القضاء على الاقطاعيين كطبقة،وتنظيم الجمعيات الفلاحية لغرض القيام بالمهام التي يقوم بها الملاك،خصوصا وان طبقة الاقطاع كانت العمود الفقري للحكم الملكي البائد،وينتظر منها ان تكون مصدرا للتآمر على الثورة التي تهددها.والاتجاه الآخر تسوده عوامل اقتصادية تتمثل في التريث بالاستيلاء على الاراضي الزراعية المملوكة لأجل تجنب الخلل والارتباك الناشئ عن فقدان الاستثمارات والاعمال التي قدمها الملاك في سبيل عملية الانتاج الزراعي،واستمرارها لتأمين حاجة البلاد من الغذاء المطلوب،ولأجل تجنب ما يعرقا التنمية الاقتصادية،وما يحدثه ذلك من أثر على النشاط الاقتصادي العام،وعلى الوضع المالي للدولة.وظهرت هذه الاختلافات في مجلس الاصلاح الزراعي،وكان الدكتور ابراهيم كبة الى جانب الاسراع بالاستيلاء على الارض وطرد الاقطاعيين بتشجيع من تنظيمات الحركة الديمقراطية في الارياف التي جهدت في مهاجمة الاقطاعيين بحيث ان قسما كبيرا منهم هرب الى المدن،بل وغيروا ملابسهم من الملابس القبلية الى الملابس المدنية!وسبب استمرار هذا الخلاف تذمر الدكتور كبة الى ان حدا به الوضع الى تقديم استقالته من الوزارة!...

·       الوعي الديني والفكر الرجعي في العراق

في العراق،لعب رجال الدين دورا مشهودا في ثورة العشرين الوطنية التحررية ضد الاستعمار الانكليزي الى جانب البورجوازية الوطنية والاقطاعيين من صغار ومتوسطي شيوخ العشائر والجماهير الشعبية.كما انخرطوا في صفوف حمعية"حرس الاستقلال"بقيادة جعفر ابو التمن ورجل الدين محمد الصدر.ورافقت الجمعية ثورة العشرين،وكان لها دورا واضحا في النضالات آنذاك.ولجأ الانكليز بعد ذلك الى سلاح التفرقة المذهبية والقومية والدينية لمنع وحدة الحركة الوطنية منذ ورقة عمل ويلسون قبل انشاء الحكم الأهلي.واكتسبت الحركة الوطنية الزخم بتوسع التجمعات العمالية وانبثاق تنظيماتها النقابية والسياسية،الا ان الادارة الكولونيالية التجأت الى سلاح التأويل السلفي للدين،وامامة تنظيمات الاخوان المسلمين السنة (محمد محمود الصواف)،وحض المرجعيات الدينية الشيعية على مواجهة الشيوعية في خمسينيات القرن المنصرم.  

تسببت الهجرات الكبرى للفلاحين من الريف بفعل جاذبية الحياة في المدن والفارق الكبير في دخل عامل المدينة ودخل عامل الريف،والطابع القمعي للنظام الاقطاعي،وجفاف النهيرات المتفرعة عن دجلة بسبب تطور نظم السحب بالمضخات في دفع شغيلة المدن الفقراء والاعداد الكبيرة من المهاجرين الى التأثر الشديد بالافكار الثورية الديمقراطية مما اثار حفيظة المرجعيات الدينية المحافظة التي صدمت مرة اخرى باكتساح المد الديمقراطي الشعبي والافكار العلمانية وقيم التدين الشعبي للشارع العراقي بعيد ثورة 14 تموز 1958 والاجراءات الاقتصادية اللاحقة!خاصة اثر التغيرات العميقة في طبيعة الملكية،وتفتيت الملكية الاقطاعية للارض واعادة توزيعها على الشرائح الفلاحية الفقيرة،وتنامي تطور ملكية الدولة الخدمية والانتاجية،وبروز البورجوازية الوطنية التجارية والصناعية بوضوح!

في هذه الفترة بالذات بدأ الاصطفاف والفرز يأخذ مجراه في الوعي الديني السائد،وحصل تمايز بين المؤسسات الدينية التي تنظم انتاج واعادة انتاج الفكر اللاهوتي وبين الجماهير الشعبية المؤمنة،فظهر مناصري التدين الشعبوي والاقتصاد الاسلامي الشعبوي،الا انهم لم يحددوا معالم ما سموه الاقتصاد الاسلامي وآليات تطبيقه بوضوح"انظر:مؤلفات السيد محمد باقر الصدر التي صدرت في عام المد الديمقراطي - 1959"!وشهدت هذه الفترة ايضا انضمام عدد غير قليل من رجال الدين الى الحزب الشيوعي والقوى اليسارية الديمقراطية الاخرى!كما شهدت الفئات الوسيطة والتقليدية من التجار وكبار ملاكي الأرض والاقطاعيين انبثاق شتى الحركات الدينية السياسية ذات المضامين الاحتجاجية،غير معادية للرأسمالية بل لشرورها!الشيعية منها تدعو الى اقامة الحكم الاسلامي بقيادة الولي الفقيه وليجري اخضاع الدستور والحياة السياسية لأحكام الشريعة والمذهب الأثني عشري،الا ان حزب الدعوة رفع شعار اقامة حكم ديمقراطي دنيوي ثم تراجع عن هدفه هذا بفعل الضغوط!" اختلف السيد محمد الحسيني الشيرازي مع حزب الدعوة حول الايمان بالمرجعية الدينية وولاية الفقيه،بينما تشكل الحزب على اساس نظرية الشورى والانتخابات،وكان السيد محمد باقر الصدر قد وضع الأسس الفكرية والخطوط العامة لحزب الدعوة،ومع اقتراب الصدر من نظرية ولاية الفقيه في السبعينات بعيد الثورة الاسلامية في ايران،اقترب السيد محمد الشيرازي قليلا من نظرية الشورى وقال بها في ظل قيادة الفقهاء المراجع،بعد ان كان يرفضها رفضا باتا"(انظر:حسين الشامي/المرجعية الدينية..)

الآيديولوجيا الدينية تستمد قوتها من الريف والاقتصاد الزراعي الخاضع لرحمة قوى الطبيعة،فالوعي الفلاحي غيبي محدود الأفق لا يخفت بانتقال ابناء الريف الى المدينة وتعرضهم لرحمة قوى السوق.وتربة الغيبية تضرب جذورها عميقا في المجاهيل وفي الحياة الاجتماعية وفي الطبيعة على حد سواء!ويطغي النمط الغيبي بحدة في فترات الفراغ السياسي!لكن التمدين الجاري هو في اطار عملية تحديث رأسمالي ينقض كالصاعقة على دعة الحياة الريفية البليدة الراكدة ليقذف بها في لجة التغيرات العاصفة مولدة براكين من السخط.وهو بأسلوبه والظروف المحيطة علة بقاء واستمرار تأثيرات الفكر الغيبي. 

معروف ان المؤسسة الدينية تعني مجموع المراكز المقررة"المراجع"ومؤسساتها العلمية"الحوزات"والمؤسسات الاقتصادية"املاك الوقف،الثروات الشخصية،والمؤسسات الاقتصادية الاخرى"،والمؤسسة الفكرية"الاجتهادات الفقهية السائدة،الآراء السياسية الاقتصادية التي تدرس في الحوزات"،المؤسسة الجماهيرية"المقلدين والاتباع والاتقياء الورعين من المراتب الدينية ومن الناس..".والمؤسسة الدينية – مؤسسة انتاج فكري تخضع للطبقة المهيمنة على الانتاج المادي،وتتميز بمصالح مادية مغايرة لمصالح الجماهير الشعبية،وتنخرط في علاقات الملكية القائمة لنجدها اما مالكا اقطاعيا"الاوقاف والحبوس"او طرفا منخرطا في العلاقات الرأسمالية،وهي تضم مراجع كبيرة رئيسية ومجتهدين وحجج اسلام واتباعا واتقياء ورعين،وهي ليست كلا متجانسا ولعبت على امتداد التاريخ ادوار متفاوتة في السعة والمضمون السياسي والاجتماعي.

ان سبل حصول المؤسسة الدينية على اسباب العيش يلعب الدور المهم في تحديد سلوكها السياسي والاجتماعي الاساسي،وان نشوء تيار سياسي ديني هو من صلب المؤسسة الدينية،ويمكن ان يحظى باستقلالية نسبية في ظروف المعارضة عن مجموع المؤسسة،الا انه يضطر الى ان يأخذ بنظر الاعتبار مصالح مجموع المؤسسة الدينية عند وصوله الى الحكم!والمؤسسة الدينية مجموعة ضغط مستقلة وقوية نسبيا،وهي في البنية السياسية تعين قواعد السلوك التي يجب ان يتبعها المجتمع والدولة في اتخاذ القرارات.وغالبا ما تستخدم الشعارات الدينية السياسية لتغطية المصالح الشخصية للزعماء السياسيين والدينيين الذين يعتمدون على تقاليد الدعم العشائري او الديني. 

لم تدن المرجعيات الدينية التقليدية الكبرى والجيل الاقدم من "العلماء"المحافظين الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذتها ثورة 14 تموز المجيدة بشكل مباشر وعلنا،الا انها تحولت الى مهاجمتها والتعرض لقادة الثورة بشكل سافر عام 1960 حيث ارسلت البرقيات تلو الاخرى الى الزعيم عبد الكريم قاسم تطلعه ان الاصلاح الزراعي خرق للشريعة الاسلامية التي تحمي الملكية الخاصة،كما انتقدوا بصراحة قانون الاحوال الشخصية لعام 1959 والمساواة بين الرجل والمرأة في الارث وفرض احادية الزواج!يذكر ان شيوخ الاقطاع والعشائر كانوا يغرقون المدارس الدينية بأموال الحقوق الشرعية،وكانوا مصدرا ثرا للخمس- الضريبة الدينية!واستخدموا المنشورات لمهاجمة الالحاد والدعوة الى اعتناق الاسلام المحافظ،وفي شباط 1960 صدرت الفتوى الدينية المشهورة ضد الشيوعية!وهذه المواقف تدرج عادة ضمن الفكر الرجعي الذي عاود انبعاثه لتضرره الشديد من منجزات ثورة تموز.

في نظر المؤسسة الدينية التقليدية شكلت الماركسية تهديدا للاسلام كعقيدة ومصدرا مقدسا للتشريع،وعدوها قوة اجتماعية من شأنها ان تهدد سلطة الدين الاسلامي على العامة من ابناء الحضر وابناء الريف،بعد ان بلغت درجة المشاركة الجماهيرية التي يقودها الشيوعيين حدود غير مسبوقة في تاريخ العراق السياسي،خصوصا في صفوف الطبقات الوسطى والدنيا والطبقة العاملة والصناعيين في المدن والفلاحين الفقراء في الارياف.

انبعاث الفكر الرجعي في العراق بداية الستينيات من القرن المنصرم،لا يعود لأسباب فكرية خالصة تتصل بتشبثه بحجج جديدة مقنعة تستحق المناقشة،بل هو يعود في الأساس الى دوره القديم – الجديد كسلاح من اهم اسلحة الردة على مسيرة 14 تموز المجيدة،والتي بدأت طلائعها في الواقع السنوات الأخيرة للحكم القاسمي،وبلغت ذروتها عبر انقلابي شباط وتشرين 1963،وذلك لاسباب موضوعية كثيرة اهمها تغير المواقع الطبقية بعد تموز،قيادة البرجوازية وبعض مراتب البرجوازية الصغيرة لحركة الردة،وتطلعها للسيطرة السياسية المطلقة في ظل الاستعمار الجديد واعتمادها على جبهة رجعية واسعة تضم اليمين الرجعي القديم(الاقطاع،البرجوازية العقارية الكبيرة،البرجوازية الكومبرادورية)والوسط الرجعي الجديد(البرجوازية الوسطى او الوطنية)وبعض مراتب البرجوازية الصغيرة المتخلفة المتقنعة بالأقنعة القومية.والتكنيك الرئيسي الذي استخدمه الفكر الرجعي هو تكنيك(اللاديمقراطية)،بالترويج لنظم الحكم الفردية والمؤسسات السياسية القائمة على المبدأ الأبوي،مبدأ الوصاية على الجماهير الشعبية،وفلسفة وتبرير الاحتكار السياسي والقيادة الانفرادية.والشعار الرئيسي الذي ما زال يستخدمه للتغطية والتضليل هو شعار(معاداة الشيوعية)مع توسيع هذا المفهوم ليشمل جميع المؤمنين بالديمقراطية وسيادة الشعب والحقوق القومية والاشتراكية العلمية.

هاجم الفكر الرجعي قانون رقم 80 وفكرة التأميم بحجج اقتصادية(خنق الاقتصاد الوطني) وقانونية (مخالفته للقانون الدولي العام) وعقائدية (اجراء شيوعي)– واقترح حلول تساومية مع الشركات النفطية (كمبدأ المشاركة الوطنية الاجنبية في الامتيازات).وفي حقل الاصلاح الزراعي جرى شجب فكرة القانون رقم 30 من حيث الأساس وتحميله مسؤولية تدمير الجهاز الانتاجي في البلاد،والزعم بأنه مشوب بالأفكار الماركسية والمساس بحق الملكية المقدس!ويطمس الفكر الرجعي التناقض الجوهري بين التنميـة الكومبرادورية (الاستثمار الأجنبي المباشر او المقنع،اعتماد المؤسسات الأجنبية والتابعة للقيام بالتنمية،تبني اسلوب الشركات الاستشارية والمقاولة،اسلوب المناقصات العالمية الرأسمالية …الخ)والتنمية الوطنية!ورفع هذا الفكر الوسطي في حقل العمل والسياسة الاجتماعية شعارات (المشاركة الاختيارية) كستار للاستغلال الطبقي للعمال،و(السلام الاجتماعي) كبديل عن الصراع الطبقي،و(طرق المزاملة في السيطرة الاجتماعية) كبديل لأشكال النضال الطبقي للطبقة العاملة … الخ.في هذا الاطار لقت افكار من قبيل الاقتصاد الاسلامي والاشتراكية الاسلامية والاشتراكية الاسلامية المتطورة الصدر الرحب من لدن فرسان الفكر الوسطي الجديد.

·       الاقتصاد الاسلامي/الشكل والمضمون

يكثر القرآن باعتباره المختصر فيما يتعلق بالمبادئ السياسية في توضيح دقائق التعاملات"فقه المعاملات"،وتوضح الاحاديث النبوية تطبيق المعاني القرآنية،لكن ارادة العيش المشترك تتجلى في المعاملات اكثر مما تتجلى في اختيار شكل الحكم،وتخضع المعاملات لمقتضيات الزمان والمكان اي للمبدأ التقليدي قي الحقوق العامة والخاصة في الاسلام.وهنا يظهر الاجتهاد كأستنباط الاحكام من قبل الفقهاء التي تحل مشاكل الساعة والعصر في ضوء تعاليم القرآن.وعندما ينال قرار اعمال امر الفعل العملي والذي يحكم كل قرار جديد بالنسبة الى القواعد الاساسية،ينال الموافقة الجماعية يصبح نوعا من القانون.لقد حلت رابطة الايمان الديني محل روابط الدم في المدينة المنورة بين المهاجرين والانصار وعبر عقد "الصحيفة"الذي منحه النبي بأسم الله.والعقد – ميثاق ازلي لنوع من الاسلام الفطري يعلو على العشائرية،وهو اساس عقود الخلافة بين الامة وقادتها.

للقانون الاسلامي تسميتان:

  1. الشريعة وتطبيق القانون عبر ركائز ثابتة اكيدة"القرآن،السنة،الاجماع،والعقل".
  2. الفقه او الاجتهاد السائد عند الجماعة الاسلامية"العبادات او شعائر وواجبات العبادة،المعاملات او العقود".  

   من اهم الخصائص المميزة لاقتصاد المسلمين وفق منظروه على اختلافهم- البرامج والسياسات الاقتصادية الاسلامية:

  • الاقتصاد الاسلامي - اقتصاد موجّه اخلاقي انساني عالمي واقعي عقائدي،التعامل فيه حرّ ما لم يصطدم بمانع شرعي او يتعدّ حقوق الآخرين،لا يأبى الاقتباس من غيره فيما لا يتعارض مع خصائصه الذاتية.
  • الاقتصاد الاسلامي هو حقول غير مترابطة من التوزيع والتداول والانتاج.
  • الاقتصاد الاسلامي ايسر المناهج واسرعها انجازا للتنمية من النظم المادية.
  • الاسلام يرفض تقسيم الناتج الاقتصادي الى فوائد واجور وريع وربح.
  • المال بمختلف انواعه ملك لله،والانسان مستخلف على هذه النعم بتسخيرها له ولخدمته.
  • الناس مسلطون على اموالهم.
  • الانسان يجب ان يتصرف بالمال وفق ارادة المالك الحقيقي"الله"،ولا بد من تنفيذ ما أمر به لتحقيق النظام.
  • ان الله سبحانه وتعالى يطلب من عباده انفاق المال في منفعة تعود على خلقه واقتصادهم.
  • حق الملكية المنسوب للانسان مقيد بشرع الله.
  • الملكية فطرة واهم مظهر من مظاهر الحرية،وحرّية التملك والتصرف بالملك هي القاعدة العامة والأصل فى الاسلام.
  • ان الله فوض الملكية للانسان،لكل شئ حتى الانسان العبيد والاماء في حدوده الاسلامي المقرر.
  • حماية مبدأ الملكية المزدوجة الخاصة والعامة،وملكية الدولة.
  • مسؤولية الدولة في الاسلام تحقيق المساواة الاجتماعية والمحافظة على درجة من الأمن والرفاه الاجتماعيين.
  • "دع كل شئ يعمل"،وحماية الملكية الخاصة لوسائل الانتاج:"حق الافراد في تملك الارض والعقار ووسائل الانتاج المختلفة مهما كان نوعها وحجمها،مع بعض القيود التي تمنع تجاوز الافراد للحق العام""المحافظة على اموال الناس بكل اشكالها نقودا او منتجات او عقارات او منافع او غيرها وعلى ملك أي كان""تحريم تأميم الملكيات الكبيرة""الملكية الخاصة استخلاف من الله لعباده على الأرض لينظر ماذا يعملون".
  • الملكية الخاصة لا يصح ان تجعل وسيلة لاستثمار الانسان للانسان.
  • يوفق الاقتصاد الاسلامي بين المادة والروح وبين مطالب الحياة ومطالب الآخرة،من خلال ارتباط الاقتصاد بالاخلاق والثقة والاطمئنان والتعاون في التعامل والتبادل.والضوابط الاخلاقية للاقتصاد الاسلامي:الاخاء،الاحسان،التضحية،الاستقامة،التقوى..الخ.
  • التكافل العام او المصلحة العامة هي المصلحة التي تتفق وشرع الله.
  • التوازن الاجتماعي في رعاية المصلحة الاقتصادية للفرد والجماعة.
  • الاسلام لا يقسّم الناس الى فئات وطبقات متناحرة ومتصارعة وانّما يجعل كلّ الناس مشتركين فى العقيدة والتربية الروحية والتعليم.
  • تحييد الصراع الطبقي"عدم الاقرار بالطبقات الاجتماعية اصلا".
  • المشاركة في المخاطر،في الربح والخسارة،هي قاعدة توزيع الثروة بين الرأسمال والعمل،والأساس الذي يحقق العدالة في التوزيع.
  • العمل فعل انساني ومصدر وحيد لخلق المنافع الاجتماعية،يسهم في تنمية ذات الفرد وتجديدها والارتقاء بالنوع الانساني،ويشتمل على فروض العبادة والنشاط الاقتصادي.
  • لا ملكية بلا عمل،والعمل مصدر الملكية الوحيد لكنه ليس اساس القيمة.
  • لزوم عمل النساء في بيوتهن لأنّه مجال عملهن،والانصراف الى شؤون البيت و التفرّغ له،حفاظا وصيانة للمرأة من استغلال العابثين،لرقّة شعورها.
  • الاقرار بتعدّد الزوجات وقطع اليد والجلد والشنق.
  • تحريم الانتفاع بالقيمة الحاصلة دون جهد بشري كالربا مثلا او بجهد بشري محرّم والاغتصاب والاتجار بالمحرمات واتيان الفاحشة وغيرها،ولا تعتبر قيمة اصلا.
  • قوّة العمل لا تباع ولا تشترى كالبضاعة،بل منافع الأبدان هو محلّ البيع والشراء،ومنافع الابدان هو الأثر الذي يتركه عمل العمّال اثناء عمليّة الانتاج.
  • من العامل عمله وله حصته.
  • تتحدد القيمة التبادلية في سوق العرض والطلب"لم تؤشر العلاقة بين كمية العمل المنفقة في انتاج السلعة وبين القيمة التبادلية".
  • العامل فى النظام الاسلامي مدعوّ شرعا الى نبذ البطالة والاقبال على العمل والانتاج لأنّ فى ذلك الخير كلّ الخير له ولكلّ المجموعة.
  • " نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضا سخريا".
  • وجوب تداول الثروات وعدم جواز انحصارها بأيد قليلة.
  • الرأسمالي يخلق الربح من خلال مواهبه التنظيمية والادارية فى تسيير المشروع الصناعي.
  • لا يتميز العمل المأجور بالاستغلال وهو عمل قانوني مشروع!اما الربح المتحقق فسببه امتلاك الفرد للمادة،ولا يعبر عن اي شكل من اشكال الاستغلال.
  • الارض تتسع لبني البشر مكاناً ورزقاً مع امتداد الزمن،وهي مصدر انتاجي اساسي تتميز بالندرة وترتبط وظيفتها الاجتماعية بالاهداف العامة التي لا يمكن تحقيقها الا من خلال جعل الارض ملكية عامة!
  • قواعد خراج(ضريبة)الارض وحقوق الريع(مساحة الارض وخصوبتها وموقعها الجغرافي)،مصدر التشريع الخاص بحقوق حيازة الارض.
  • المحافظة على المزارعة(المحاصصة)والمغارسة والمساقاة(العمل التعاقدي في البساتين)والخماسة...وكل عقود العمل والحقوق الاقطاعية،واهمال الدول الاسلامية لهذا النمط من الانتاج يوقعها في التخلّف.
  • يملك الارض الذي يعمرها بلا قيود،والمعادن والثروات الطبيعية لمن استخرجها.
  • الاصلاح الزراعي وتأميم المعامل والغابات وما اليها لا وجه له فهو باطل.
  • الاعتدال والتوسط في الانفاق والنهي عن الاسراف والتبذير.
  • الاسلام يحرم اكتناز الاموال،ويطالب بتوجيه المال للاستثمار ويعد حبس المال واكتنازه جريمة نكراء نستوجب اشد العقاب.
  • جعل الاسلام من الفرائض المالية "الزكاة مثلا" عبادات شرعية!والجزاء على الفرائض لا تعلق الواجبات!
  • للنقود وظيفة هامة في الاقتصاد وهي تيسير المعاملات وتحريك الطاقات.
  • عدم جواز انحصار مصارف توزيع الثروة بأيد قليلة.
  • تحريم تعطيل الطاقة البشرية.
  • الاسلام لا يعترف بمشكلة الفقر كأمر واقع،والتاريخ الاسلامي يؤكد ان الدولة الاسلامية كانت تنفق من بيت مال المسلمين على الفقراء والعجزة والأرامل وغيرهم!
  • لا يجوز ان يكون الفقر سببا للخضوع الى الغني فهذا حرام.
  • "انّ الله هو المسعر القابض"و"ان التسعير فى الحالات العادية هو اخلال بنظام الله فى الكون واخلال بتقسيم الله للارزاق بين عباده على الارض واخلال بعملية التوزيع العادلة"!
  • نظام الحسبة(ضوابط الاسواق)والمحتسبين(المشرفين على السوق).
  • التجارة خير.
  • يحق ان يأخذ المقرض من المقترض ربحا!

يبدو ان هناك خلط لدى منظرى الاقتصاد الاسلامى بين القواعد الاخلاقية التى يفرضها الاسلام فى التعامل وبين القواعد التى يضعونها هم ويستوحونها من التراث،ويقولون انها قواعد هذا الاقتصاد.من القواعد التي يضعها الاسلام للتعامل هى :

1-      استبعاد التعاملات التى تتضمن الربا والترف الحرام والاكتساب الحرام.

2-      استبعاد المضاربة على السلع بمعنى اخفاء السلعة حتى يرتفع ثمنها وهذا يسمى (الغرار)بكسر الغين.

3-      الابتعاد عن انتاج السلع التى يحرمها الاسلام كالخمور وغيرها.

4-      الاخذ بنظام الضريبة الاسلامية او الزكاة.

5-      الزكاة والجزية والنفقة والخمس والخراج والكفارات والنذور وما سواها،تهدف الى توفير شروط كرامة انسانية وحمايتها من الانزلاق في اتجاه الضياع،وتجبى في جميع الانماط التي يحصل فيها تراكم بسبب سوء التوزيع حتى لا يشعر المحرومون بالحرمان!

6-      الالتزام بالقواعد الاقتصادية الاسلامية في القروض،استخراج المعادن،الأجارة،المضاربة،المزارعة والمساقاة،الحمى،الصيد،الاحتشاش،احياء الموات،الهدايا والهبات،الصدقات،ثروة ووظائف بيت المال،الخمس،الجزية،الانفال،مال الخراج،المقاسمة،نظام الارث،توزيع التركة.

برزت الكتابات الاقتصادي الاسلامية النظرية الهامة اواسط القرن المنصرم،ثم ما لبثت ان توسعت بعيد الثورة الاسلامية في ايران،والشروع بانشاء البنوك الاسلامية،ومنها:

1.      "الاسلام والملكية"/1944/محمود الطالقاني.

2.      "العدالة الاجتماعية في الاسلام"/1958/سيد قطب.

3.      "اقتصادنا"/1959/ محمد باقر الصدر.

4.      "اشتراكية الاسلام"/1959/مصطفى السباعي.

5.      "الاسلام ثورة اقتصادية"/1979/محمد تقي المدرسي.

6.      "فقه الاقتصاد"/1980/محمد الحسيني الشيرازي.

7.      "الاقتصاد السياسي المقارن"/1980/محمد الحسيني الشيرازي.

8.      "نظرية القيمة العمل والعمال والعدالة الاجتماعية في الاسلام وفي المذاهب والنظم الوضعية – دراسة مقارنة"/1981/صالح كركر.

9.      "البنك اللاربوي"/1983/محمد باقر الصدر.

10.  "تحريرالوسيلة"/1987/الخميني.

بداية الستينيات من القرن المنصرم،ومع انتشار العقائد الاسلامية والشيعية التي تدعو الى اقامة الحكم الاسلامي العالمي العقائدي،لتنظيم جباية الخراج وتنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمادية والروحية،ظهرت الدراسات النظرية الاولى عن الاقتصاد الاسلامي والسياسة الاقتصادية الاسلامية!ولم تخلو "الاسس"التي وضعها محمد باقر الصدر عام 1960 من اهداف ذات طابع خيالي ارادوي بحت سعت الى تجاوز المدارس الشيعية القروسطية والمعاصرة في مسألة الشرعية السياسية.

دافع محمد الحسيني الشيرازي عن حق الملكية الخاصة في كل زمان ومكان وعن العلاقات العبودية والاقطاعية والرأسمالية وعن النظام السياسي الملكي،وترجم آرائه لاحقا في مؤلفات اهمها"فقه الاقتصاد"و"الاقتصاد السياسي المقارن"،كما وصف السيد الشيرازي ثورة 14 تموز 1958 المجيدة بالانقلاب العسكري.في الوقت الذي افصح فيه السيد محمد باقر الصدر عن آرائه الاقتصادية في كتابه المعروف"اقتصادنا"ودافع عن العلاقات الاقطاعية،الا انه دعى الى اجراء الاصلاحات الجزئية التي تقيد سوء استخدام الملكية الرأسمالية في اطار ملكية دولة وملكية خاصة.اما السيد محمد تقي المدرسي ابن اخت السيد الشيرازي فتفرد بآرائه الداعية الى اشاعة التعاونيات في المجتمع مع شئ من النزعة البورجوازية الصغيرة.

كان اختلاف الآراء الاقتصادية واضحا في كل الادبيات والكتابات الاقتصادية الاسلامية ومع اختلاف التحديات التي واجهت المجتهدين،وبات اليوم يضم آراء واسعة متباينة ومتناقضة مهلهلة قابلة لشتى انواع التفسير والتأويل،وتشترك جميعها في الدفاع عن فقه المعاملات وتطعيمه بهالة من العصرنة والحداثة وتجاوز المحددات الشعبوية،والاضطرار الى تطبيق المحرمات الاخلاقية وتحليل بعض المحرمات تحت مختلف المسميات!مثلما فعل السيد محمد الحسيني الشيرازي الداعية لاقتصاد السوق الحر مع الربا،فبدل اسم المرابي الى مقرض والربا الى ربح!

واستهدفت جميع الدراسات في الفكر الاقتصادي الاسلامي اعلاه الدفاع عن مجاميع المصالح المتحالفة مع كبار ملاك الاراضي والشيوخ (مواقف الصدر والشيرازي) عام 1959 والمصالح التجارية(موقف الشيرازي)عام 1964،وكذلك الاقرار بالطبيعة اللاعضوية لعمليات الانتاج والتوزيع والتداول في الاقتصاديات الحديثة كأنعكاس لوظائف الدول الريعية والمنظومة البدوية الشرق اوسطية،واعادة انتاج للاخلاقيات العامة السائدة في المجتمعات الزراعية، وضمان انسيابية جباية الضرائب الدينية!

الاقتصاد الاسلامي كان رد فعل انفعالي على انتشار النظريات الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية ومحاولة لسد الفراغ الذي عانى منه الفكر الاسلامي،وهاجمت كل الدراسات الاقتصادية الاسلامية النظامين الرأسمالي والشيوعي وحاولت ان تفند النظريات الاقتصادية السائدة.وبعد ان فقد"فقه المعاملات"الكثير من صدقيته وصلته بالواقع،بات الاقتصاد الاسلامي اليوم،في حقيقة الامر،اقتصاد رأسمالي جائر،مثله مثل الاقتصاد الذي وضع اسسه المعاصرة"آدم سميث"في كتابه ثروة الشعوب في نهاية القرن الثامن عشر.والبنود التي تتضمنها قواعد الاقتصاد الاسلامي مثل الصدقات والاوقاف وتغليب المنفعة العامة على الخاصة ومراقبة السوق والشفافية وطابع"الخيرية"هي ذاتها،وان بمفردات ومسميات مختلفة،التي شكلت مطالب الثورات والحركات التي طالبت بتغيير قواعد النظام الاقتصادي"المركنتيلي"المتوحشة.وتواجه النخب البورجوازية الاسلامية قضية صياغة المؤسسة الدينية بالشكل الذي يتلائم في الاخلاق والنظرة الاجتماعية مع حاجاتها المجتمعية!والاصولية الاسلامية لازالت تغذي العناصر الضيقة المناهضة للرأسمالية ومعارضة التحولات الأجتماعية التي تتجاوز الرأسمالية وتغذي المحافظة ومقاومة التجديد،في نفس الوقت،وهذا ما لا يجيزه العقل والمنطق،وتعتقد هذه الاصولية انها وحدها تمتلك الحقيقة فترى العالم بمنظوري الملائكة والشيطان او الابيض والاسود!

·       اسلمة النظم الاقتصادية

الاسلام،عند ظهوره،سعى للاجابة على اسئلة اقتصادية،وأسَّس لحياة اقتصادية مستوفية لشروط دينية،قائمة على ما هو"فرض"و"مستحب"و"حلال"و"مكروه او مبغوض"او"حرام"،والامر والشورى كانا القطبان لكل تشكيل حكومي يأمر به الله،وبحسب ما يكون التركيز على اي منهما،تتفاوت اشكال التنظيم السياسي وتتعدد!وقد بلغ اقتصاد عصر الجاهلية قبيل الاسلام درجة من التطور تمثلت بتقسيم العمل بين القطاعات الاقتصادية الرئيسية والانتاج الكبير لأغراض التبادل النقدي،ولم يكن العبيد فيه طبقة انتاجية ولم يشكلوا نظاما اجتماعيا،بل كانوا فئة هامشية تركز استخدامهم في الخدمة المنزلية وحراسة القوافل،وعلى نطاق ضيق في ممارسة الحرف والزراعة.وضمت الجزيرة العربية في عصر صدر الاسلام مساحات واسعة من الاراضي الصالحة للزراعة تطورت معها طرق تنظيم الري الاصطناعي وحفر الآبار وتنظيم خزن مياه الامطار والسيول،وبناء السدود.

لم تشهد المؤسسة الدينية في عصر صدر الاسلام تمايز الوظيفة الاجتماعية انسجاما مع البنية الطبقية للمجتمع الا ان التمايز بدأ في الفترة الاموية،وحصل التدهور في مرحلة الغزو التتري!لقد سجلت الدولة العباسية انتهاء جيل البداوة وانطلقت القوى الاجتماعية الجديدة بوتيرة اسرع من السابق على قاعدة اقتصاد مديني تغلب عليه التجارة وتحتل فيه الحرف مكانة كبيرة نسبيا.ولم تظهر المؤسسة الدينية المركزية المرتبطة بالسلطات السياسية دفعة واحدة في العهد العثماني بعد ان اعتمدوا في بداياته على التكايا الصوفية.

من الضلال ان ننظر الى هذا النظام السياسي او ذاك في العالم الاسلامي وكأنه مرتبط ارتباطا وثيقا بالايمان الاسلامي.وعبر العصور عرفت البلدان الاسلامية اشكالا من الحكومات ذات البدايات الديمقراطية"الدولة في المدينة المنورة"،او الاستبدادية"الامبراطوريات الكبرى- العصور الاموية والعباسية"،وحتى شيوعية بدائية"القرمطية".اما العصر اراهن فيجمع بين الملكيات التقليدية ومحاولات من الديمقراطية البرلمانية وميول ورغبات في الديمقراطيات الشعبية.ومع ان الطبق الديني الواحد والوحيد ليس حلا،والديانة الوحيدة لا تبقى كما هي عبر التاريخ بل تخضع للتقلبات ضمن مقاييس مذهلة!فأن الحركات الشيعية،من جانبها،مثلت الجماهير الكادحة وصبواتها بوجه العلاقات العبودية – الاقطاعية على امتداد الخلافتين الاموية والعباسية،واقامت دولا لم تخرج من اسر هذه العلاقات،وتوافقت المؤسسة الدينية قرونا مع نفس هذه العلاقات.ومن اهم الدول الشيعية في التاريخ : طبرستان (250- 316) هجرية،الفاطمية (297- 567) هجرية،الحمدانية (317- 394) هجرية،الزندية (1172- 1193) هجرية. 

رغم ان الاسلام الراديكالي يقدم للشبيبة المدينية التي سدت طرق حراكها الاجتماعي واحبطت آمالها مكافآت مغرية:العودة الى طريق الحياة الطهرانية المساواتية وتخفيض التوترات والمرارات وتقليص الفجوة الاجتماعية بالأخذ من الثري واعطاء الفقير!فأن النظام الاقتصادي الاسلامي يفتقر حقا الى المبادئ الفقهية المناصرة للطبقات المسحوقة كما فشل في تمثيل مصالح البازار بسبب المحظورات والتحريمات ومثبطات الوازع الديني،والفعاليات الاقتصادية الفردية تفقد حريتها واطمئنانها مع حق سيادة الدولة الاسلامية!وفي الاقتصاد الاسلامي تتحكم العقيدة في المصلحة الاقتصادية لتتفاوت المبادئ الاقتصادية تبعا للدين والتمذهب !

يساعد بقاء العلاقات العشائرية والاقطاعية على استمرار النزوع الغيبي والوعي الديني بشكله السلفي..وخضوع الانتاج المادي في الريف لتقلبات الطبيعة وقوانين السوق الرأسمالي وعدم قيام البورجوازية بأي مسعى للعلمنة.ويوظف النظام الرأسمالي كافة الأشكال الآيديولوجية التي تخدم مصالحه الطبقية الاستغلالية بصفة عامة،ومصالح الطبقة البورجوازية و حلفاءها بصفة خاصة حتى تبقى الجماهير الشعبية المستغلة مضللة ومغيبة عن واقعها حتى يزيد استغلالها.وقد برعت البورجوازية في العالم الاسلامي في توظيف الدين الاسلامي والطائفة الاسلامية لتكريس تضليل المسلمين وجعلهم يقبلون كل اشكال الاستغلال المادي والمعنوي،كما ابدعت عن طريق نشر مصطلح "الاقتصاد الاسلامي"!

الجماعات الاسلامية والطائفية السياسية تدعوان للاقتصاد الاسلامي،والبعض للاقتصاد الاسلامي الطائفي،وكل التجارب تشير الى اقتصاديات قومية ومنغلقة على ذاتها"تجربة طالبان في افغانستان،حركة حماس في غزة)اي اقتصاديات داخلية منهارة تعيش على الواردات القادمة عبر الحدود دون القدرة على التصدير غير الممنوعات والابداع في التهريب!او الى اقتصاديات رأسمالية صريحة كتركيا وباكستان وايران،او اقتصاديات انتقالية شبه رأسمالية شبه اقطاعية كالسعودية ودول الخليج العربي والعراق..وهكذا دواليك!

هل من وجود لمصطلح"اقتصاد سياسي اسلامي"او لنظرية اقتصادية اسلامية،تفسر وتهئ لقيام "نظام اقتصادي اجتماعي"مختلف نوعياً عن "الرأسمالية" و"الاشتراكية" في مستهل القرن الحادي والعشرين؟الاقتصاد الاسلامي هو مصطلح غير دقيق من وجهة نظر الاقتصاد السياسي!ويقف الزمن ضد المحدودية الدينية ومحاولات ارجاع التاريخ الى الوراء بأختلاق خرافات دينية جديدة ومتجددة او اسلمة المظاهر العصرية،والعقائد الدينية تمتلك اطر جامدة ضيقة تماما!فالعودة الى الماضي والبدائل الاسلامية ردود افعال على التخلف ودليل عمق ازمة المجتمعات المتخلفة!التخلف والبدائل الدينية يرتبطان بعلائق تاريخية!

الاقتصاد السياسي علم يعني بدراسة تطور علاقات الانتاج الاجتماعية بين الناس،اي العلاقات الاقتصادية بينهم،ويكشف عن القوانين التي تحكم انتاج الخيرات المادية وتوزيعها في المجتمع البشري في مختلف مراحل تطوره،ودراسة علاقات الانتاج في تفاعلها مع قوى الانتاج،وعلاقات الانتاج في تفاعلها مع البناء الفوقي اي مع الآيديولوجيات والنظرات والمؤسسات السياسية،والقوانين الاقتصادية الخاصة بمختلف انماط الانتاج المعروفة في التاريخ.والاقتصاد السياسي لا يعني ابدا بالانتاج بل بالعلاقات الاجتماعية بين الناس في الانتاج وبالنظام الاجتماعي للانتاج!

وبديهيا للجميع انه مثلما يكون نمط الحياة عند الناس يكون كذلك نمط افكارهم،وان المضمون الرئيسي للكيان الاجتماعي هو نشاط الناس في عملهم لانتاج الخيرات المادية،واساس التطور الاجتماعي يجب البحث عنه لا في وعي الناس بل في كيانهم الاجتماعي وفي تطور انتاج الخيرات المادية.ان تاريخ القوى المنتجة وعلاقات الانتاج يثبت موضوعيا ان بين هذه وتلك وحدة داخلية:وان مستوى معين للقوى المنتجة يتطلب علاقات انتاج"قبل كل شئ علاقات ملكية" معينة تماما.وبتعبير آخر فأن القوى المنتجة وعلاقات الانتاج مجتمعة تعين اسلوب انتاج الخيرات المادية،وهذا هو اساس قانون توافق علاقات الانتاج مع طابع القوى المنتجة،وهو قانون موضوعي ومحرك اساسي للتقدم التاريخي.اما منظومة علاقات الانتاج التي تشكل النظام الاقتصادي للمجتمع،هي بالذات اساس حياة المجتمع الروحية،والنظام الاقتصادي او ما نصطلح عليه البناء التحتي للمجتمع هو نوع من قاعدة يقوم عليها بناء فوقي من مختلف الافكار والنظريات الاجتماعية والعلاقات الآيديولوجية المتنوعة والمؤسسات السياسية والحقوقية والثقافية،وما بين البنائين وحدة داخلية ايضا:ومستوى تطور معين للنظام الاقتصادي يتطلب بناء فوقي مناسب،وهذا هو اساس قانون توافق البناء الفوقي مع  طابع البناء التحتي للمجتمع،القانون الموضوعي الثاني المحرك للتقدم التاريخي..وفي كلا القانونين ترتبط الاطراف ذات العلاقة بوحدة عضوية ارتجاعية Feedback،وليس من المعقول ان نرجع كل الحوادث التاريخية الى الاقتصاد وحده،فالحياة الاجتماعية غنية والوانها متنوعة!   

النظام الاجتماعي السائد هو الذي يحدد،ويتحدد بناء على طبيعة علاقات الانتاج الاجتمااقتصادية السائدة!والاقتصاد هو الطرائقية التي يتم بها انتاج السلع التي يحتاج اليها الفرد في حياته اليومية وفي اطار نمط معين من انماط الانتاج المختلفة التي تتحدد فيها طبيعة ملكية وسائل الانتاج التي تحدد بدورها طبيعة علاقات الانتاج،ولصالح من يذهب فائض القيمة مثلا!ووسيلة الانتاج لا يمكن ان تخص انصار عقيدة معينة دون بقية العقائد،ونجدها عند جميع الأمم والشعوب،في كل مكان وكل زمان!الاختلاف يحصل في مدى تقدم او تخلف علاقات الانتاج!

الاقتصاد يرتبط بنمط من انماط الانتاج المرتبطة بالتشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية التي تكون سائدة في بلد ما،وفي مرحلة تاريخية محددة تعكسها طبيعة التطور التي بلغتها تلك التشكيلة!وما تاريخ المجتمعات الا تطور وتبدل التشكيلات الاجتمااقتصادية.وعليه،الاقتصاد انتاج اجتماعي لا عقيدة له،بل نظام يرتبط بطبيعة الخيارات القائمة في المجتمع!والسلطات القائمة تعمل على تنفيذ تلك الخيارات خدمة للطبقة المالكة لوسائل الانتاج،وتسن القوانين التي تخضع الشعب وترغمه،وتستعبده بمختلف الوسائل القمعية،سواء كانت آيديولوجية او سلطوية للحريات العامة والخاصة!ومن هذه الوسائل القمعية الدين والطائفة لجعل الرعية يقبلون بكل اشكال الاستغلال باعتبارها قدر من عند الله،ليتحول الاسلام الى دين غير عادل،والتشيع الى طائفية مستبدة،وهو ما يتنافى مع حقيقة الاسلام الذي يحرص على تحقيق كرامة الانسان!والوعي الديني عموما ينتمي الى تشكيلات عديدة الا انه الشكل السائد من الوعي الاجتماعي في الحقب العبودية والاقطاعية بطوريها،التجزؤ والمركزية.

من هنا نحكم ان مصطلحات من قبيل الاقتصاد الاسلامي او الاقتصاد المسيحي او الاقتصاد العربي او الاقتصاد الكردي او الاقتصاد الشيعي او الاقتصاد العربي الاسلامي،كلها مصطلحات طوباوية واوهام من نسج الخيال لا وجود لها في عالم الاقتصاد الواقعي.فالاقتصاد الاسلاموي طرائقية آيديولوجية تسعى الى تضليل الناس الذين يدخلون في دوامة الاحلام بتحقيق العدالة الاجتماعية!وهذا لا يمنع من القاء الضوء على سعي الاسلام الى تحقيق الكرامة الانسانية في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بغض النظر عن نمط الانتاج السائد.

لا يوجد اقتصاد اسلامي،لكن يوجد "اقتصاد المسلمين"باعتبارهم مجموعة بشرية تمارس نشاطا اقتصاديا مصنفا في اطار احد انماط الانتاج المعروفة- عبودية،اقطاعية،رأسمالية ليبرالية او وحشية،اشتراكية.ووجب التمييز بين العقيدة التي تستلزم الثبات على الايمان والتشبع بالفضيلة والقيم النبيلة وبين العلاقات التي تربط بين الناس،سواء كانت تلك العلاقات اقتصادية او اجتماعية او ثقافية او سياسية،وهي علاقات معرضة لمختلف المؤثرات الجغرافية والتاريخية!التمييز بين الاسلام عقيدة وشريعة وفقه وبين ما للمسلمين من انظمة اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية والقوانين الوضعية وما يخططونه لتحقيق مستقبلهم.

يبدو ان النظام الاقتصادي الاسلامي هو الاسلمة "الاخلاقية في الاساس"او اللبوس الاخلاقي الديني لكل نظام اقتصادي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج!مثال على ذلك،ما يذكره المفكر الاسلامي حسن الشيرازي مؤسس الحوزة العلمية الزينبية،وهو اخ للسيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه"الاقتصاد":"لعله من المؤسف حقاً ان ينطلق علماء الاقتصاد الغربي من المفاهيم المادية اللا اخلاقية عن الحاجات التي ترغب فئات مختلفة من البشر في اشباعها فيعتبرون كثيراً من السلع التي تضر بصحة الانسان ووجوده الواعي سلعاً نافعة طالما انها تشبع هذه الحاجات.مثل الاسلحة والسكائر والمشروبات الكحولية والمخدرات التي يتعاطاها الشباب دون تصريح من الاطباء.لقد فقدت المنفعة مفهومها الانساني السليم واصبحت صبغة لجميع الأشياء التي تشعر بعض الفئات بالحاجة اليها والتي يقبل المنتجون على انتاجها وتوزيعها وفقاً لمفهوم الاقتصاد الحر،الأمر الذي يتعارض تماماً مع الرفاهية الاجتماعية بمفهومها الذي يقوم على تحريم الاعمال التي قد تحقق ربحاً لفئة من المجتمع وضرراً لفئات اخرى".ويقول ايضا(نفس المصدر السابق،ص236):"ان كل ما نص عليه القرآن وكل ما اوصى به النبي في احاديثه عن الشؤون الاقتصادية،يبين المبادئ الاقتصادية الرشيدة التي يجب ان يأخذ بها البشر جميعاً لتنظيم علاقاتهم ومبادلاتهم المرتبطة بتدبير امورهم المعيشية.والنصوص الاقتصادية الاسلامية لا يمكن ان تحقق اهدافها في تنظيم العلاقات الاقتصادية للبشر تنظيماً عادلاً ورشيداً الا اذا طبقت ضمن اطار اسلامي عام يقوم على قيم اخلاقية اسلامية وعلاقات اجتماعية اسلامية وطموحات اسلامية تأخذ في الاعتبار التوازن بين ما يستطيع الانسان ان يحققه في دنياه وما يجب ان يتركه لآخرته".

العدالة الاقتصادية الاسلامية اليوم لا تختلف جوهريا عن العدالة الاقتصادية الرأسمالية،والتباينات شكلية نتلمسها مثلا في "الضريبة"و"المنتوجات"بحسب ميزان الحلال والحرام كانتاج الخمور،و"اخلاق العمل والاستثمار"كالرفق بالعمال واحسان معاملتهم،و"المواضع الاقتصادية"التي لا يحق للفرد تملكها كالمناجم.والفارق الاساسي بين النظام الاقتصادي الاسلامي والنظام الاقتصادي الرأسمالي هو الموقف من الربا كظاهرة اقتصادية اجتماعية تاريخية!وكتجسيد لعلاقة استغلال بين انسان وآخر،يفرض بها الطرف الاول شروطا مجحفة على طرف ثاني يحتاج الى المال ليلبى حاجة اساسية له،كفائدة على هذا المبلغ!وتحريم الاسلام لـ "الربا" عالجها شكلا اصحاب الثروة عبر استثمار ثرواتهم النقدية مباشرة في التجارة وبقية اوجه الاستثمار الاقتصادي،لينتفي  الرأسمال الربوي الطفيلي!يقينا ان الربا كظاهرة تاريخية نشأ مع ولادة المال كوسيلة لتبادل البضائع وللادخار!

تخدم البنوك الاسلامية التطور الطفيلي (ماهية الفرق بين سعر الفائدة (Rate of interest) والربا (usury) ) لأنها مؤسسات مالية تعمل من اجل الربح،فهي تجمع الاموال غير المستثمرة وتحولها الى اموال يمكن ان تستثمر،ليحصل صاحب المال غير المستثمر على فائدة،ويحصل صاحب المال المستثمر على فائدة،ومن خلال تنسيق العمليتين يحصل البنك ايضا على فائدة.والمرابحة والمشاركة والمضاربة،في النهاية،هي ارباح يتم الحصول عليها من تداول المال في السوق وليس في محراب التدين الاسلامي.

معروف ان الربا هو جوهر النشاط المصرفي الرأسمالي،ولا يوجد نشاط مصرفي اسلامي يختلف عن النشاط المصرفي الرأسمالي!اي ان البنوك الاسلامية ليست في الواقع سوى مؤسسات مالية رأسمالية يملكها كبار الاثرياء ويتأكد فيها الربا مهما سعت الى اظهار العكس!بل موضوعيا هي مضطرة الى تحليل الربا المحرم تحت مختلف المسميات"ايران سمته اتعاب"!والبنوك الاسلامية هي الأكثر استغلالا وربحها الطائل مستمد من اقتصاد السوق والعرض والطلب،ومن استغلالهم لخشية كثير من المسلمين من ان يقعوا في الربا!

الاقتصاد الاسلامي او اقتصاد المسلمين مثله مثل غيره من الاقتصاديات يقوم على التجارة والتي تعني تبادل المنتجات بين الناس (بيع وشراء)!وطالما انها تجري في ظل الملكية الخاصة فإنها لابد وان تصبح مصدرا مباشرا للدخل بالنسبة للتجار،وهدفها الرئيسي هو الربح،وحتى يتحقق الربح لا بد ان يبيع التاجر بسعر اغلى ما يمكن،وان يشتري بأرخص ما يمكن.بالطبع،تلقى التجارة التي تقف في طليعة التراتبية المهنية تشجيع الفقه والشريعة الاسلامية في عدم التسعير وترك الاسعار خاضعة لأوضاع السوق وتشجيع الاحتكار مما يسهم شئنا ام ابينا في تعميق التفاوت الاجتماعي وتوسيع نسب التضخم والتمركز المالي!وتتضمن الاحكام الفقهية المختصة بأصول الاتجار والكسب قيودا لا تتلائم مع مطلب النشاط التجاري الحر والمتساوق مع نزعة الربح المتأصلة في التجار.وتسهم المضاربات التجارية الدولية في نمو الروح الرأسمالية لدى الانظمة الاقتصادية الاسلامية الحاكمة ونخبها الأرستقراطية والاستحواذ على تراخيص التجارة مع الجميع!وهنا يتضح بجلاء ان التجارة في الاقتصاد الاسلامي خداع يجيزه القانون!

التضخم والغلاء وارتفاع الاسعار والركود والبطالة والفقر والافقار وانحسار فرص العمل وندرة الاستثمارات والافلاسات المتتالية والمديونيات هي اليوم اهم سمات ما يسمى بالاقتصاديات الاسلامية،خاصة في المنظومة البدوية الشرق اوسطية وايران والعراق وتركيا والباكستان...!وعليه ليس هناك شيء اسمه اقتصاد اسلامي منزه ومقدس ومنزّل ومعصوم،وبمنأى ومنجاة عن تقلبات السوق وتجاذباته والعوامل الاقتصادية الاخرى الصارمة!فمع الانفتاح العولمياتي وتداخل هياكل الاقتصاد ووجود الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للقارات ذات الاذرع الاخطبوطية في كل زاوية من زوايا الاقتصاد العالمي،والناجم عنها ارتباط وثيق للبورصات والبنوك في جميع دول العالم،وارتباط اقتصاد الدول الاعضاء في منظمة الأووبك بالدولار الامريكي،والتداخل في كافة اشكال المتاجرة والمضاربة والتداولات،فإن الاقتصاد عبر العالم يخضع اليوم لقوانين السوق الواحدة الموحدة،ولا علاقة لها بالغيب وبالسماء وبخطاب الحكام،حيث تتشابك وتترابط وتتصل وتتداخل الاقتصاديات فيما بين بعضها البعض بمنظومة من العلاقات الادارية والاجرائية والبيروقراطية المعقدة تجعلها جميعها تتأثر هبوطا وصعودا ازدهارا او افلاسا.

·       اقتصاد النخب الدينية الاسلامية الحاكمة في العراق

في العراق كان الاقتصاد المنغلق واضحا مع انبعاث الطائفية والولاءات الاخرى دون الوطنية كالعشائرية،ومع المساعي الاقتصادية للسلطات الحاكمة الجديدة بعد التاسع من نيسان 2003 غير المدروسة!والخطورة كمنت في تسيس الشكل الطائفي الجديد واستخدامه وسيلة لتحقيق السيطرة الاجتماعية.

العقل الديني واحد،والعقول الايمانية متعددة بتعدد الطوائف والمذاهب وحتى الاشخاص.والعقل الطائفي ايماني متمترس برؤياه وبفهمه المغرض للنص الامر الذي يضعنا امام اللاوحدة،امام التفرقة الطائفية التي تصوغها العقول المتزمتة!والعقل الايماني الغيبي يشيع الخرافة والحيلة والخديعة ويوظف المعجزات للتأثير على العقول المؤمنة!لقد افرزت الدولة والنظام السياسي الحديث في العراق الظاهرة الطائفية لتتحول الدولة الى ولاء عصبوي دون وطني بدل ان تكون وسيلة بلورة الارادة والاجماع الوطني.هكذا حول صدام حسين الدولة العراقية الى قبيلة جديدة هي قبيلة اصحاب الحكم واتباعه،وتحولت دولة ما بعد التاسع من نيسان الى محاصصة طائفية،واحيانا الى طائفة جديدة هي طائفة اصحاب الحكم واتباعه.

يبدو ان بزوغ الذات الجمعية اليوم في العراق الجديد ليس الا استعادة بشكل عصري لبعض مفاهيم العصر الكلاسيكي.لكن العقل الطائفي لازال يؤرخ ويعيد كتابة التاريخ ويستحضر مأزقه وفق اسس وتصورات ومقاصد اضيق مما كان في الماضي.وتختلف الوظيفة الراهنة للآيديولوجية الدينية الطائفية البورجوازية الكومبرادورية والطفيلية والكولونيالية اجتماعيا عن وظائفها المذهبية الطائفية الدينية الاقطاعية ما قبل الرأسمالية،فالبورجوازية العراقية اليوم تعيد صياغة الفكر الديني والطائفي وتقدم برامجها في لبوسات دينية طائفية معصرنة.

تشوه الطائفية السياسية انتشار الرأسمالية الفتية والملكيات الصغيرة في الريف والمدينة والمؤسساتية المدنية والحركات الاجتماعية والافكار الديمقراطية التي تسهم في تضييق مجالات الانتعاش الطائفي المقيت،في الوقت الذي تستمد فيه هذه المراتب الطائفية قوتها مما يكون لها من وضع اقتصادي تستطيع به الغلبة على المنافسين والسيطرة على افراد الطائفة بتقديم المنافع المادية والخدمات المتعلقة بأوضاعهم المعيشية،فباشرت منذ البدء بتكديس الثروات عبر تنمية ملكياتها الخاصة لوسائل الانتاج تارة وباللصوصية تارة اخرى،وعبر المبادلات التجارية وجباية الضرائب والفرائض على العامة!ويلعب الفساد والرشوة وسلطان وجبروت المال الدور الكبير في تكريس الانتماء الضيق في بغداد وبقية المدن العراقية،بالأخص مدن المحافظات الجنوبية ومدن الاطراف والريف العراقي!وفي توسيع شبكة العلاقات المتداخلة التي يتحكم فيها اللص الكبير بالسارق الصغير!

تسعى المراتب الطبقية الدينية الطائفية الطفيلية الى الربح السريع بأية وسيلة،فعملت في المضاربة بالعملة وافتعال الندرة لرفع الأسعار،وبهمة في شراء وبيع الأراضي والعقارات بطرق مشروعة وغير مشروعة،واستغلت المصارف للحصول على تسهيلات ولو بأساليب ملتوية.ثم ما لبثت ان خلقت الرأسمالية الطائفية الطفيلية مناخا من الأحلام والأوهام التي تدغدغ خيال مختلف الفئات الاجتماعية،وخاصة الطبقات الدنيا التي تعيش على فتاتها،لينتشر التهريب والسوق السوداء والتهرب من الضرائب والرشوة والتجاوز على الاملاك والخدمات العامة.

وبعد مضي قرابة 10 اعوام عن استلامها مقاليد السلطة،واتباعها سياسات اقتصادية انتقائية ونفعية غير مدروسة وغير مفهومة،تتميز بغياب الرؤى والستراتيجيات والسياسات الموحدة للدولة في مجال التنمية وبالاضعاف المتعمد القسري لدور الدولة في الميدان الاقتصادي،وباستمرار المغالاة في تأكيد مزايا السوق الحرة في اقتصاد البلاد دون معاينة للواقع الملموس واستحقاقاته!شهدت البلاد تعمق السمة الاحادية للاقتصاد العراقي والاعتماد شبه الكامل على موارد النفط في تمويل الموازنة العامة للدولة،بل لم يعد الاقتصاد العراقي  ريعيا فقط،بل وبات خدميا ضعيف الانتاج في الوقت نفسه.وينعكس الضعف الاقتصادي البنيوي في التجارة الخارجية،وانعدام الصادرات غير النفطية،بينما تؤلف السلع الاستهلاكية،خصوصاً المعمرة كالسيارات والأثاث والاجهزة الكهربائية والالكترونية،نسبة عالية من حجم الاستيرادات الكلي.ويلاحظ  تدهور متواصل في امكانات وقدرات القطاع الخاص الانتاجي الذي يستحوذ على نسبة تشغيل للقوى العاملة في البلاد تزيد على 85%.كما تبنت الدولة سياسة الانفتاح على الاسواق الخارجية،والغت جميع القيود والضوابط على الاستيراد،ووضعت الانتاج المحلي الضعيف والمنهك امام منافسة غير متكافئة مع المنتج الاجنبي،ما ادى بالضرورة اى انهيار معظم ما تبقى من الصناعة الوطنية.ويلاحظ اليوم في العراق:

  • سيادة رؤى وتوجهات تغيب عنها السياسة الصناعية التي يمليها الترابط الوثيق بين التنمية والتصنيع،كما يغيب ادراك اهمية التوسع الصناعي في تحقيق اهداف التنمية،المتمثلة في خلق فرص عمل ومكافحة الفقر ورفع مستويات الدخل القومي،وتحقيق عدالة اجتماعية عبر توزيع افضل للدخل.
  • القطاع الزراعي يواجه غياب وانعدام التخطيط الاستراتيجي.
  • يتواصل الخلل في الجمع والتنسيق السليمين بين السياستين النقدية والمالية،مع استمرار ارتفاع معدلات البطالة والتضخم،وما ينجم عنه من ظروف معيشية شاقة لقطاعات واسعة من ابناء شعبنا،ويعاني ربع السكان من الفقر الشديد.
  • لا يقدم نمط التشغيل غير الانتاجي في مؤسسات الدولة،والقائم على الاعانة،حلاً لمشكلة البطالة.
  • مؤشر التضخم ما زال عند مستويات مرتفعة،ويتسبب في خفض القدرة الشرائية!
  • محاولة حل قضايا الاقتصاد ومشاكله  بعصى سحرية ومبادرات من نوع المبادرة الزراعية!
  • الفساد الاداري والاقتصادي بات سرطانا!

مجتمع الطائفية الطفيلية مجتمع زائف بلا عمق اجتماعي ويؤثر على الفئات الاخرى التي لا تمتلك القوة المعنوية الكافية لمقاومته.وهو لا يطيق العمل التنموي الصبور البناء والتخطيط المنهاجي الاستراتيجي والتنمية المستدامة،لأنها تدرك ان دورة حياتها محدودة،فعملت وتعمل في مجالات الفساد والنهب السريع الذي لا يحتاج لجهد وصبر!وهي لا يمكنها ان تمارس اسلوبها في النهب العجول في ظل الاوضاع الديمقراطية المنفتحة،وتحتاج دوماً الى ادوات تقمع بها الناس كلما حاولوا نقدها او خرجوا ساخطين تحت وطأة الظروف المعيشية الضاغطة.

من جهتها تفتعل الحكومة الايرانية تسويق المشاريع التي تتضمن الأعمال التجارية والشركات التي تعمل كغطاء ومجموعات دينية ومنظمات غير حكومية ومساعدة للمدارس والجامعات بغية مؤازرة الهوية الطائفية في العراق،كما افتتحت مكاتب مساعدة  لفقراء العراق الشيعة في مدن المحافظات الجنوبية لتجنيد المرتزقة وانضمامهم الى الميليشيات العصابات المؤازرة..

وبشكل عام تؤيد الحوزات العلمية الحكام في حدود حقوق الطبقات المسيطرة والمعايير الأجتماعية السائدة،وتفرض واجب الطاعة للقوانين والمعايير الاخلاقية المقبولة بالجزاءات الدينية،وتقوم بترجمة الفروض الاجتماعية الخاصة بالمراتب الطبقية الى الاخلاقيات الدينية لتعتبر المهنة مثلا واجب مقدس،ولتشيع الانضباط الذاتي والنظام والرقابة الاجتماعية والتقتير والترشيد،وتؤيد التراكم الرأسمالي،وفي بعض الاحيان تناصر افكار التوزيع العادل للثروة والروح الجماعية والفعاليات اللاعنفية!

يلعب الطابع الطبقي لسلطة الدولة وسياستها في الميادين الاجتمااقتصادية الدور الاساس في تحديد العلائق مع المؤسسات الدينية لكن العبئ السايكولوجي لازال مميز في العجز عن التوفيق بين نمط الحياة المتحضرة والتطور الرأسمالي وبين التقاليد والبدع والشيع الاسلامية التقليدية التي تدعو للعودة الى العصر الذهبي في عهد النبي محمد(ص)!من هنا تظهر المحدودية الآيديولوجية والموقف الجامد العقائدي والنتائج السلبية العملية في تطبيق البرامج!

في الجانب الآخر لم يعد المهم ان تكون النظرية او تلك موافقة للحقيقة بل ان تكون نافعة او ضارة بالرأسمال،مناسبة او غير مناسبة،ترضى عنها الشرطة ام لا ترضى.وبدلا عن البحوث المجردة عن الهوى تظهر المماحكات المأجورة،وبدلا عن التحقيقات العلمية النزيهة ينبز الضمير الشرير والغرض الاعمى للدفاع عن الانظمة القائمة وتغطية الجوهر اللصوصي للعولمة الرأسمالية والتستر على عسكرة الاقتصاد وتعبئة الموارد للتسلح والاعداد للحروب الجديدة!وبذلك تتحول الغزوات والاعتداءات الاحتكارية الدولية في العرف العولمياتي الرأسمالي الى تمهيد لتنظيم السوق العالمية والرأسمالية المخططة!وعموما تميل الرأسمالية الى المؤسسة الدينية الغير سياسية!بينما تغيب السياسات الليبرالية الاقتصادية بشكل مرسوم ومتعمد،كل مصطلحات "التنمية" و"التحرر الاقتصادي" و"التقدم الاجتماعي" و"العدالة الاجتماعية"،لتتحول الخصخصة في نهاية المطاف الى اعادة توزيع الثروة لصالح البورجوازية المحلية والأجنبية وليتسنى بمقتضاها نزع ملكية الدولة ونقل اصولها الانتاجية للقطاع الخاص بغض النظر عن هوية جنسيته!

العراق السابح فوق بحيرات النفط والمفتون بالثورة والمشاكسة والتمرد والعناد والتائه بين بساتين النخيل والغابات والمتعمد بنهري دجلة والفرات وشط العرب يتحول الى اكثر البلدان العربية فقرا وبؤسا،احزمة الفقر تطوق مدنه وتنبعث منها الروائح الكريهة بسبب اعطال التأسيسات الصحي والكهربائية وتجمع الازبال والنفايات وتدني مستوى الوعي البيئي،انقاض وخرائب ووجوه كالحة ذائبة.ويواجه شعبنا خطر استبداد احزاب الاسلام السياسي من خلال تعاملهم المزدوج والتفافهم على القوانين وتطويعها لخدمة أهدافهم البعيدة المتمثلة بالانقضاض على السلطة بأسم القانون وفرض دكتاتوريتهم بأسم الديمقراطية!فيما المواطن يئن تحت وطأة سوء الخدمات والانقطاع الطويل للكهرباء والظروف المعيشية الصعبة!

لقد جاء رد الشعب العراقي في انتفاضة الكهرباء والفانوس حزيران 2010 حازما معبرا عن عدم الرضا والسخط ومطالبا بالخدمات وتحسين الظروف المعيشية،وبأتجاه التخلص من الشلل الذي يلف البلد ويعطل حركته وبمعالجة المعضلات المعيشية والخدمية والاجتماعية التي تطحن الوطن،وبوضع البلاد على سكة الاعمار والاستقرار والتنمية الحقة وباتخاذ اجراءات اقتصادية واجتماعية سريعة وفعالة تقدم رسالة مشجعة تبعث الامل لدى سكنة المناطق الشعبية المسحوقة!

 

بغداد

21/6/2012

 

free web counter