| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سلام إبراهيم كبة

 

 

 

 السبت  27 / 9 / 2014                                                                                                

 

عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز
(4)

سلام  كبة  

في 26/10/2014 يكون قد مضى عقد كامل على رحيل الدكتور ابراهيم كبة،العالم الاقتصادي المعروف والباحث الاكاديمي والمربي الاجتماعي والوزير السابق في اول حكومة بعد ثورة 14 تموز 1958.ومن التهم السخيفة التي وجهها له المدعي العام الاحمق خلال محاكمته بعد انقلاب 8 شباط الاسود عام 1963،تهمة الفوضوية التي امتلك فيها الدكتور كبة رصيدا فكريا!وقد قدمنا في الدراسة السابقة غيض من فيض هذا الرصيد الغني!ونواصل في دراستنا هذه طرح آراء كبة في هذا المضمار!حيث خصص للفوضوية الفصل الخامس من كتابه"حول بعض المفاهيم الاشتراكية العلمية"الصادر عام 1960،وكان في معظمه ترجمة واقتباسات عن الموسوعة السوفييتية الكبرى/كتاب "الفوضوية"/ديتز فيرلاغ،برلين،1953.وكان الرأي العام العراقي في حينها بأمس الحاجة للاطلاع على هذه المفاهيم من مصادرها الاصلية!

حول الفوضوية

الاناركية (الكلمة الاجنبية للفوضوية) كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية (اناركيا) ومعناها اللاسلطة او انعدام سلطة الدولة،وهي تيار اجتماعي وسياسي بورجوازي صغير،رجعي،معاد للاشتراكية العلمية البروليتارية،يخضع مصالح البروليتاريا لمصالح البورجوازية تحت واجهة رفض كل سلطة للدولة وكل كفاح سياسي،كما انه ينكر دكتاتورية البروليتاريا الثورية.لقد ابرز لينين ثلاثة فروق رئيسية بين الماركسية والفوضوية في مسألة الدولة :

1. (ان الماركسيين الذين يضعون كهدف نهائي لهم الغاء الدولة الكامل،يرون ان هذا الهدف لا يمكن الوصول اليه الا بعد الغاء الطبقات بطريق الثورة الاشتراكية.انهم يرون ان الدولة سوف تختفي في النهاية نتيجة لاقامة مجتمع خال من الطبقات).(اما الفوضويون فهم يرون الغاء الدولة الكامل بين عشية وضحاها بدون ادراك الشروط اللازمة لمثل هذا الالغاء).

2. ان الماركسيين يرون ان على البروليتاريا بعد انتزاع السلطة السياسية ان يبادروا الى تحطيم ماكنة الدولة تحطيما تاما،واستبدالها بماكنة جديدة اخرى.كما ان عليهم(استخدام السلطة لغرض قمع المستثمرين وبناء المجتمع الشيوعي).اما الفوضويون فانهم يرفضون حتى مجرد استخدام السلطة من قبل البروليتاريا الثورية ودكتاتوريتها الثورية.

ان الماركسيين يطلبون تهيئة البروليتاريا للثورة عن طريق استخدام الدولة القائمة.اما الفوضويون فانهم ينكرون ذلك(1).(ان الفوضويين ينكرون الدور التاريخي العالمي للبروليتاريا.انهم يحاولون اخضاع الطبقة العاملة للسياسة البورجوازية تحت واجهة رفض السياسة)(2).

لقد اثبت تاريخ كفاح الطبقة العاملة وخاصة تجارب الدولة السوفييتية بكل جلاء على ان استيلاء الطبقة العاملة على السلطة واقامة دولة اشتراكية قوية هما الشرط الاساسي الاولي لتحرير الشغيلة وبناء المجتمع الشيوعي.اما الفوضوية التي تطلب الغاء الدولة (الفوري)،وتنكر استخدام السلطة من قبل البروليتاريا،فانها اعدى اعداء الثورة الاشتراكية وتحرير الشغيلة.ان الفوضوية وان كانت تتقمص زي تيار اشتراكينالا انه ليس لها في الحقيقة اية صلة بالاشتراكية،وكما قال لينين: (تقوم بين الاشتراكية والفوضوية هوة عميقة)(3).وقد ذكر ستالين: (بأن الماركسية والفوضوية تستندان لمبادئ مختلفة كل الاختلاف..ان الحجر الاساسي في الفوضوية هو الشخصية،هو الفرد،الذي ترى الفوضوية في تحريره الشرط الاولي لتحرير الجمهور او المجموع.ان الفوضوية ترى بان تحرير الجمهور مستحيل من دون تحرير سابق للفرد،ولهذا كان شعارها: كل شئ من اجل الفرد.اما الحجر الاساسي للماركسية فهو،على العكس،المجموع،الذي ترى الماركسية في تحريره الشرط الاولي لتحرير الفرد.وهذا يعني بأن الماركسية لا ترى امكانية تحرير الفرد،طالما لم يتحرر الجمهور بعد،ولهذا كان شعارها: كل شئ من اجل المجموع.ومن الواضح اننا هنا امام مبدئين متنافيين كل التنافي،وليس امام مجرد اختلافات تكتيكية)(4).

لقد كتب لينين: (بأن الفوضوية هي نتاج لليأس،انها تمثل نفسية مثقفين او افراد خرجوا من صفوف طبقتهم،ورمى بهم المجتمع خارج طريق تطوره،وانها بعيدة كل البعد عن نفسية البروليتاريين)(5).ان النظرية العلمية الماركسية تعلم بأنه لا يمكن تحرير البروليتاريا الا بعد تحطيمها للدولة وانتزاعها السلطة،واقامتها دولة دكتاتورية البروليتاريا،الموجهة لاخضاع البورجوازية وتشييد الشيوعية.اما الفوضوية فانها عكس هذه النظرية،تنشر الهراء الذاهب الى الغاء الدولة ونسفها نسفا.ان الفوضوية لم تقدم،طيلة تاريخها،اي شئ يذكر عدا بعض العبارات ضد(الاستثمار).وكما قال لينين: (انها تفتقر الى: أ- فهم اسباب الاستثمار. ب – فهم تطور المجتمع المؤدي الى الاشتراكية. ج – فهم الكفاح الطبقي باعتباره القوة الخلاقة لتحقيق الاشتراكية)(6).

وينعكس الطابع الرجعي وغير العلمي للنظرية الفوضوية في عجز (الفوضويين عن الربط بين كفاح الشغيلة من اجل تحررها وبين التقاليد الوطنية الحقة للجماهير الشعبية).وبعكس الوطنية البروليتارية التي تؤلف مع الاممية البروليتارية وحدة غير قابلة للانفصام،يتشدق الفوضويون بالمفهوم الكوسموبوليتي النموذجي (لتضامن جميع افراد العالم).وهكذا فان الفوضويين يكملون عدميتهم (نيهليتهم) السياسية (اي انكار الدولة)،بالعدمية القومية،(اي انكار القوميات).ان الوطن لا يعني في نظر الفوضويين الا مجرد مفهوم جغرافي،اي محل الولادة.

ان الفوضوية هي نتاج للتناقضات الطبقية في المجتمع الرأسمالي.وفي عصر الرأسمالية الصناعية تمارس الفوضوية في البلدان التي يوجد فيها انتاج سلعي صغير بمقاييس واسعة،مع وجود فئة كبيرة وسطى من البورجوازية الصغيرة (كما في اسبانيا وايطاليا وفرنسا وسويسرة)،تمارس الفوضوية قوة جذب كبرى نسبيا.ان المالك الفردي الصغير يميل بحكم توزع وفردية نشاطه الاقتصادي في ظل الرأسمالية،الى التأرجحات المستمرة.انه يميل لفكرة الغاء الرأسمالية باعتبارها نظاما انتاجيا وضعه على حافة البؤس والخراب،ولكنه مع ذلك يود الاحتفاظ بملكيته الصغيرة.انه يحلم بالطريق الثالث.لقد كتب لينين: (في مجتمع يسوده كفاح طبقي مرير بين البورجوازية والبروليتاريا،وتؤدي الثورة فيه الى تشديد حتمي للكفاح المذكور،لا يمكن ان يوجد فيه خط وسط اطلاقا.ومع ذلك فان جوهر مساعي البورجوازية الصغيرة،وطابعها الطبقي،يكمنان في ارادة المستحيل والتطلع نحو المستحيل،اعني هذا الخط الوسط بالضبط)(7).ولما كانت الدولة البورجوازية تعني بمصالح الرأسمال الكبير وتعرض بسياستها الاقتصادية المالك الخاص الصغير للخراب،اصبح هذا الاخير يرى في الدولة قوة معادية.ان البروليتاريا تسعى لتحطيم الدولة البورجوازية واحلال الدولة الاشتراكية محلها،اما صاحب المشروع الصغير والذي دفعه مجموع نظام الاستثمار الرأسمالي الى احضان الفاقة والبؤس،فانه على العكس لا يتبنى وسائل الكفاح البروليتارية،بل يرى طريق الخلاص في مجتمع خيالي(طوبائي)من دون دولة،مجتمع يستطيع ان يمارس نشاطه فيه(بكل حرية).لقد حاولت الفوضوية ايضا ان تضع لها قدما بين صفوف العمال،تحت ستار من العبارات الثورية والاشتراكية المزيفة،في الوقت الذي جعلت من نفسها المتحدث باسم بؤساء المنتجين السلعيين الصغار،والعناصر التي فقدت ارتباطاتها الطبقية.لقد استغل الفوضويون الوضع الخاص لتلك الفئة من البروليتاريا التي تتكون من اشخاص غير بروليتاريين،انضموا لصفوفها حديثا بعد ترك طبقاتهم القديمة.لقد قال ستالين عن هذه الفئة: (انها تؤلف اصلح تربة للتكتلات الفوضوية وشبه الفوضوية واليسارية المتطرفة)(8).

لقد الحق الفوضويون اضرارا فادحة بالحركة العمالية،سواء اكان ذلك بآيديولوجيتهم الرجعية،او بنشاطهم التخريبي.وقد خاضت الفوضوية خلال مجموع تاريخها كفاحا ضاريا ضد الاشتراكية البروليتارية وضد كفاح البروليتاريا السياسي وضد الاحزاب العمالية الحقة وضد وحدة الطبقة العاملة.وفي عهد الامبريالية،وخاصة في عهد الازمة العامة للرأسمالية،تعمد البورجوازية الامبريالية الى استخدام الفوضوية باعتبارها آيديولوجية معادية للماركسية،لمكافحة الشيوعية وشق صفوف البروليتاريا واخضاعها لارادة البورجوازية.

ان بين رواد الفوضوية،الانكليزي وليام كودون(1756 – 1836)،والالماني ماكس شترنر(1806 – 1856).لقد انكر كودون الدولة في كتابه: (بحث في العدل السياسي)الذي ظهر عام 1793،كما انكر جميع القوانين والنظم السياسية باسم ما يسمى بحرية الفرد.لقد كان كودون في استنتاجاته(معارضا حاسما للمجتمع)(9).لقد كانت آراؤه الفوضوية تعبيرا عن الاتجاه الذي كان سائدا لدى البورجوازية الصغيرة الانكليزية في نهاية القرن الثامن عشر،والتي كانت تقاسي الآلام من جراء الثورة الصناعية ومن السياسة المعادية للشعب وللدولة الانكليزية.

اما شترنر فقد اعلن في كتابه: (الوحيد وملكيته) 1845،بأن الفرد (الانا – الوحيد – الاناني) يجب ان ينهض بأسم حريته الكاملة ضد كل ما من شأنه تقليص (حريته).اما هجمات شترنر الشنيعة على الشيوعيين وتقديسه للملكية الخاصة،واطراؤه لجمعية(المالكين الانانيين) كأحسن شكل للحياة الاجتماعية،فان كل ذلك يفضح ان (وحيد)شترنر،بكل ثورته العارمة،ما هو الا نتاج فطير للجو الفكري الذي كان يسود البورجوازية الصغيرة الالمانية حينذاك.

لقد بدأت الفوضوية كتيار اجتماعي سياسي مع بداية القرن التاسع عشر.اما اسم الفوضوية فانه يعود الى بيير جوزيف برودون (1809 – 1865)،الذي تبنى الافكار الفوضوية التي كانت منتشرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر.ويظهر الطابع الرجعي البورجوازي الصغير للفوضوية في مؤلفات برودون بكل وضوح،حيث تظهر القيمة (بالمعنى الاقتصادي)وكأنها تخلق في ميدان التداول لا في ميدان الانتاج.ان التنظيم الاجتماعي الذي كان يتطلع اليه برودون،ما هو الا نظام الملكية الصغيرة الخاصة،والصناعة الصغيرة المبعثرة.وقد كان الاساس الاقتصادي لمجتمعه(المثالي)هو(يوطوبيا)التبادل المتقابل بين خدمات المنتجين السلعيين الصغار حسب مبدأ(المساواة في القيمة).ومن هنا اشتق مجتمع برودون الطوبائي اسمه المعروف(التبادلية).

لقد اخترع برودون ما سماه(القيمة التكوينية)التي ادعى انها تضمن المساواة بين القيم عند تبادل السلع،وانها تتفق مع المثل الاعلى البورجوازي(التوازن).وقد خلق برودون هذه القيمة التكوينية،بمساعدة الديالكتيك المثالي لهيغل،الذي استعار منه اضعف جوانبه واشدها مثالية.وقد اخضع ماركس في كتابه(بؤس الفلسفة)برودون لنقد حاسم،ومزق آراءه الفلسفية السكولائية (نسبة الى مدرسية العصور الوسطى – المعرب)،ومفاهيمه في الاقتصاد السياسي،بسخرية لاذعة.

ويمثل العقد من وجهة نظر برودون التعبير القانوني عن العلائق التي يعقدها المنتجون السلعيون الصغار فيما بينهم خلال عملية التداول.ان برودون يريد ان يحملنا على الاعتقاد بأن العقد الحر يضمن انسجام (الحرية المطلقة)للفرد الذي يقرر التزاماته بكل حرية،مع النظام.لقد اخترع برودون يوطوبيا(العقد الاجتماعي)الذي يوحد جميع اعضاء المجتمع.ان هذا العقد الاجتماعي،في رأي برودون(مماثل بطبيعته الخاصة لعقد التبادل).وهكذا فيظهر تماما بأن اليوطوبيا الفوضوية لبرودون ،ما هي الا تجسيد مثالي للمجتمع القائم للمنتجين السلعيين الصغار حينذاك.

لقد سعى برودون الى تخليد علائق الانتاج الرأسمالية،والى تصميم بناء دولته(الحرة)التلقائية،التي لا تمثل حسب جوهرها بالذات الا دولة بورجوازية ارهابية.ان يوطوبيا برودون الفوضوية البورجوازية الصغيرة،كانت موجهة ضد الشيوعية.ان مؤلفات برودون حافلة بالتشهيرات القبيحة ضد الجماعية الشيوعية،التي تستند الى ملكية وسائل الانتاج الاجتماعية.كذلك دعا برودون الى مقاومة وحدة العمال في النقابات،والى مقاومة الاحزاب.لقد رفض برودون(الكفاح الطبقي)للعمال رفضا باتا،وخاصة كفاحهم السياسي كوسيلة لتحرير الطبقة العاملة.وقد وجه خلال ثورة 1848 دعوته الغادرة للعمال: (ايها العمال،مدوا بايديكم لرؤسائكم،وانتم يا اصحاب العمل،لا ترفضوا ايدي اولئك الذين يتلقون منكم الاجور)(10).ان برودون هو الذي صاغ العبارة المشهورة(الثورة السياسية هي الهدف،والثورة الاقتصادية هي الوسيلة).وقد فهم برودون من(الثورة السياسية)مجرد تفسخ الدولة،التي يجب استبدالها(بالعقد الاجتماعي).اما(الثورة الاقتصادية)فهي على العكس،تحقيق الوصفات السخيفة لبرودون على اساس تحول اجتماعي(من دون كفاح طبقي).على ان كلتا الثورتين ليس لهما بالثورة الحقيقية اية صلة.انهما يمثلان بالاحرى فكرة(التصفية الاجتماعية)التي كثيرا ما اقتبست عن برودون،وكثيرا ما مجدها الفوضويون.(فبدل الحركة التاريخية الكبرى،المنبثقة عن الكفاح بين تلك القوى الاجتماعية التي سبق ان حصل عليها البشر،وبين علائقهم الانتاجية التي لم تعد لتلائم تلك القوى الانتاجية - وبدل الحروب الفظيعة المحتدمة بين الطبقات المختلفة للامة وبين الامم المختلفة – وبدل النشاط الجماهيري العملي الجبار الذي يستطيع وحده القضاء على ذلك الاصطدام – وبدل هذه الحركة الشاملة المعقدة المتطورة ابدا الى الامام،يخترع السيد برودون حركة غير سائغة ،من بنات افكاره)(11).

وبعد اندحار ثورة عمال باريس في حزيران 1848،زاد اتباع برودون الفوضويون من نشاطهم،ولكنهم كانوا يفتقرون حتى ذلك الوقت الى منظمات تابعة لهم.وفي الولايات المتحدة فقط،حاول البرودوني(جوزي وارن)ان ينشئ مستعمرة فوضوية بالقرب من نيويورك عام 1851.وفي عهد الامبراطورية الثانية في فرنسا(1851 – 1870)،وكذلك في بلجيكا مدت (الفوضوية السلمية)ذات الاتجاه البرودوني،جذورا عميقة نسبيا في الحركة الثورية.وقد كان للبرودونيين اليد العليا مدة طويلة في الشعب الفرنسية والبلجيكية للاممية الاولى.وقد كانت بصورة خاصة آراء برودون الرجعية حول المسألة الوطنية،اي تقليل اهمية حركة التحرر الوطنية،والعدمية القومية منتشرة بينهم،على ان تلك العناصر البرودونية اصابها اندحارا كبيرا خلال مؤتمرات الاممية الاولى،بفضل قيادة ماركس الآيديولوجية والتنظيمية.

لقد اختفت البرودونية خلال ستينيات القرن الماضي،وحلت محلها الباكونينية،كشكل آخر من اشكال الفوضوية.لقد كان باكونين (1814 – 1876)من اشد خصوم الماركسية،وقد كانت آراؤه تحمل طابع(الانتخابية)الخارقة للعادة(الانتخابية هي الخلط بين اتجاهات متعارضة دون انسجام – المعرب).فقد استعار من الشيوعيين فكرة(الملكية الجماعية)وهي طابع مجتمع المستقبل،ولكنه وضعها على قدم المساواة مع الفكرة الفوضوية المعادية للمجتمع،فكرة(الحرية المطلقة)للفرد.كما ان باكونين يمزج الفكرة الفوضوية (لالغاء الدولة الفوري)مع فكرة سان سيمون عن (الغاء الارث).ويؤكد باكونين،ضد جميع الظروف الواقعية بأن الارث الذي يزعم بأنه من خلق الدولة،هو مصدر عدم المساواة بين الطبقات في المجتمع الرأسمالي.لقد كان يعتقد بأن الغاء الدولة سوف يؤدي الى الغاء الارث،وبهذا سوف يساعد على انتصار(العدالة)و(المساواة).وقد كان الغاء الارث في نظره نقطة الانطلاق للثورة الاجتماعية.

وقد جمع باكونين الى هذا الخليط من الافكار،الذي كان يشكل في نظره القاعدة النظرية لمذهبه،فكرة(تحقيق المساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الطبقات)التي تبناها باكونين في منهاجه عن(تحالف الديمقراطية الاشتراكية)وقد اشار ماركس في نقده الحاسم لهذه الفكرة البورجوازية الى ان(تحقيق المساواة بين الطبقات)ما هو الا دعوة(للانسجام بين العمل والرأسمال).لقد كتب ماركس بانه(ليس تحقيق المساواة بين الطبقات وهو مستحيل منطقيا،بل الغاء الطبقات وهو لازم تاريخيا،يكون الهدف النهائي الذي تسعى اليه جمعية العمال الاممية)(12).

لقد كان باكونين متفقا مع برودون في فكرة انكار الدولة والكفاح السياسي.لقد كتب انجلز: (بأن باكونين له نظرية خاصة هي خليط بين البرودونية والشيوعية،حيث تعتبر الاولى ان القضية الاساسية هي ليس الغاء الرأسمال،اي التناقض الطبقي الذي خلقه التطور الاجتماعي بين الرأسماليين والعمال الاجراء باعتباره الشر الاعظم،بل الغاء الدولة).ان باكونين يؤكد (بأن الرأسمال هو من خلق الدولة،وان الرأسمالي انما يملك رأسماله بفضل الدولة.واذ كانت الدولة هي الشر الاكبر،تعين قبل كل شئ الغاء هذه الدولة،وعندئذ يذهب الرأسمال من تلقاء نفسه للشيطان...)(13).ان انجلز يرفض هذه النظرية الفوضوية الملفقة،ويحل المسألة بمفهوم الماركسية العلمية،التي ترى في قلب النظام الاجتماعي والسياسي واستبدال الرأسمالية بالاشتراكية،الشرط الاولي الاساسي لامكان تحرير الشغيلة.

لقد استنتج باكونين من النظرية الكاذبة في ان الدولة شر في جميع النظم الاجتماعية،الاستنتاج بلزوم امتناع المرء عن كل كفاح سياسي.لقد زور باكونين العبارة المشهورة الواردة في النظام الداخلي للاممية الاولى من(ان التحرر الاقتصادي للطبقة العاملة هو الهدف النهائي العظيم الذي يجب ان تخضع له كل حركة سياسية باعتبارها وسيلة لتحقيقه)،زورها باكونين بروح فوضوية:ان التحرر الاقتصادي للعمال،كما رأى باكونين،هو نتيجة مباشرة لالغاء الدول،هذا الالغاء الذي تستهدفه ايضا الحركة السياسية بمجموعها.ان باكونين تحمس بضراوة ضد الكفاح الطبقي ودكتاتورية البروليتاريا.وقد احل باكونين محل الكفاح السياسي للطبقة العاملة الذي يستهدف انتزاع السلطة لتحقيق التحرر الاقتصادي للطبقة العاملة،فكرة(الثورة الاجتماعية)التي فسرها باكونين بأنها(هدم الدولة)..لقد رفع باكونين اشد الشعارات رجعية،ودعا في الواقع لممارسة مجرد سياسة نقابية(اي الاقتصار على الكفاح النقابي دون السياسي للطبقة العاملة- المعرب).لقد قاوم باكونين ضرورة تأسيس حزب سياسي للبروليتاريا،واعتبر النقابات العمالية وصناديق الضمان الاجتماعي للعمال،الشكل الوحيد الجائز لرص صفوف العمال.

كذلك رفض باكونين العمل الدائم المنظم لتنظيم العمال السياسي وتثقيفهم سياسيا.انه على العكس دعا للفكرة الضارة جدا للقيام(بثورة فوضوية اجتماعية،تنبع من تلقاء نفسها في داخل الشعب)اي انه حول مفهوم الثورة الى مجرد انتفاضة تلقائية يقوم بها الفلاحون والعناصر التي فقدت ارتباطاتها الطبقية.وقد اعتبر باكونين البلدان المتخلفة اقتصاديا والتي يغلب فيها الفلاحون بدل البروليتاريا،باعتبارها انسب الاقطار للثورة الاجتماعية الفوضوية.وكما قال ماركس: (ان الارادة،وليست الشروط الاقتصادية هي اساس ثورة باكونين الاجتماعية)(14).

لقد رأى باكونين في الفلاح الروسي ثائرا بالولادة،فرضت عليه طبيعته بالذات وجودا فوضويا معاديا للدولة.ولم يتورع باكونين،لتبرير فكرته الفوضوية غير العلمية،عن ان يكيل الشتائم للشعب الروسي.والواقع انه تجرأ على التأكيد(بأنه لم يسبق لأي عرق سلافي ان اسس من تلقاء نفسه دولة ما)،وان السلاف(عاجزون عن بناء الدول).لقد دلل باكونين على انه مزور للتاريخ عندما عزا بناء الدول في روسيا الى الفاتحين الاجانب على الدوام.ومع ذلك فانه من المعروف للجميع بأن الدولة المركزية الروسية التي ضمنت استقلال روسيا وتقدمها الاقتصادي والثقافي،انما بنتها جهود الشعب الروسي،وانها تعتبر من بطولاته التاريخية.

لقد حدد انجلز موقفه من يوطوبية باكونين عن المجتمع المثالي بالشكل التالي: (في هذا المجتمع لا توجد قبل كل شئ اية سلطة،لان كل سلطة- دولة – انما هي شر محض.ولكن كيف يمكن ادارة مصنع او بناء سكة حديد او قيادة دفة سفينة،من دون ارادة موجهة وقيادة موحدة؟هذا مالا نجد له تفسيرا عند باكونين.بل تقف هنا حتى سلطة الاغلبية على الاقلية.ان كل فرد،كل مجموعة،هي وحدة قائمة بذاتها.ولكن كيف يمكن تكوين مجتمع حتى من شخصين اثنين اذا لم يتنازل كل منهما عن جزء من ذاتيته؟هذا مالا يتبس باكونين حوله ببنت شفة)(15).

لقد انتشرت الباكونينية خاصة في ايطاليا واسبانيا وسويسرة،اي في البلدان التي يغلب عليها الانتاج السلعي الصغير،وتتعرض فيها البورجوازية الصغيرة للفقر والاملاق.كذلك مارس باكونين نفوذا غير قليل في اوساط(الشعبيين)الروس.

وبعد ان تغلغل الباكونينيون في صفوق الاممية الاولى،فكروا في استغلال هذه لتحقيق(خططهم الدولية التآمرية)،مع استهداف الغاء جميع الاشكال الحكومية واقامة (جمعية الكومونات الحرة)الفوضوية.لقد احدث باكونين تخريبات عديدة في الاممية الاولى،ولجأ الفوضويون في كفاحهم ضد ماركس الى الرياء وتعدد الوجوه،والى التشهير والافتراء،ولم يتورعوا حتى عن ارتكاب جرائم الارهاب ضد(المجلس العام)للاممية.وفي عام 1868 اسس باكونين واتباعه الاممية الانشقاقية(تحالف الديمقراطية الاشتراكية)،وهي اول منظمة ثابتة للفوضويين.وبعد ان رفض المجلس العام للاممية قبول عضوية(التحالف)كهيئة مستقلة،حل التحالف نفسه بصورة رسمية الا انه في الواقع استمر يمارس نشاطاته كمنظمة سرية،وبقى اعضاؤه يتابعون سياسة التحريض والتخريب والخيانة في الشعب السويسرية والاسبانية والايطالية والبلجيكية في الاممية الاولى.

وبعد تعرية الفوضويين كأنشقاقيين ومخربين،اصابوا اندحارا تاما كقادة للجماهير الثورية،بالرغم من استمرار تسترهم بالعبارات الثورية المزيفة.وعندما جرت الدعوة الى(الكومونة)في ليون عام 1870،اسرع باكونين وانصاره الى الذهاب الى هناك،حيث(خربوا كل شئ)حسب كلمات ماركس نفسه.لقد اتخذت تحت نفوذهم(اسخف القوانين حول الغاء الدولة وما شابه ذلك من الهراء)(16).وفي خلال الثورة الاسبانية عام 1873،اشترك الفوضويون في انتفاضة الجمهوريين الراديكاليين،الذين كانوا يسمون ب(دعاة اللامساواة)و(قدموا هنالك – حسب تعبير انجلز – مثالا لا يبارى عن كيفية وجوب عدم قيام الانسان بالثورة)(17)،وقد دل سلوك الباكونيين خلال الثورة الاسبانية،كما كتب انجلز،على ضعف وتهافت المبدأ الفوضوي القائل بلزوم عدم الاشتراك في الثورة.كما دلت الانقلابات والمؤامرات الفوضوية بعد ذلك(كمجازفات الفئة الفوضوية في مدينة بولونيا عام 1874،ومحاولة اشعالهم الثورة في قرية لتانو الايطالية في مقاطعة بتفنت عام 1877)على عقم وضرر التكتيك الفوضوي.

ان ماركس وانجلز كافحا الفوضويين دون كلل او ملل خلال الاممية الاولى.فقد الحقا بهم هزيمة منكرة في ايلول 1872 في مؤتمر لاهاي،حيث طرد قادة التحالف – باكونين وغيوم – واعضاؤه جميعا من المؤتمر،على اساس الاقتناع التام بأن الآراء الفوضوية لا تنسجم مع مبادئ الاممية بالمرة.ثم استمر الكفاح ضد الفوضوية بعد ذلك بمرارة: وفي عامي 1873 و 1874،كتب ماركس وانجلز عدة مقالات ضد المؤامرة الفوضوية لباكونين،كما شجبا بشدة وحزم الزمرة الفوضوية التي كان يقودها موست وهازلمان في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني.ان الفوضويين الذين اندحروا في مؤتمر لاهاي،عانوا ازمة شديدة خلال السبعينات،وقد فشلت مساعيهم لاعادة الوحدة الى جماعاتهم المبعثرة عن طريق عقد مؤتمرات كانوا يسمونها بالاممية المعادية للسلطة،والتي كانت على كل حال اممية على الورق فقط.

وبعد وفاة باكونين،برز كروبوتكين(1841 – 1921)كقائد نظري للفوضوية.وقد حاول كروبوتكين دعم النظرية الفوضوية،بنظرية(الوضعية)البورجوازية،فأرتأى ان الآراء ذات المظهر العلمي المزيف للوضعيين(كونت)و(سبنسر)هي نتيجة لما سماه(فلسفة العلوم الطبيعية الوضعية)التي تشمل جميع الظواهر في حياة الطبيعة ومجموع تطور المجتمع على السواء.وقد صرح بأن هدف الفوضوية هو انجاز ما قام الفلاسفة الوضعيون بوضع اسسه وقواعده فقط.والواقع ان فلسفة كروبوتكين(التركيبية)ما هي الا مادية آلية مبتذلة،اكملها بنظرة اكثر ابتذالا للتطور الاجتماعي.وقد اوصى كروبوتكين(لامكان تفسير الطبيعة،مع الحياة العضوية والروحية والاجتماعية بمجموعها)بارجاع الطبيعة الى ظواهرها الآلية البسيطة.وقد جمع كروبوتكين الى هذا التشويه الفظ للمعارف العلمية في اتجاه المادية المبتذلة،عداء ضاريا ضد الديالكتيك الماركسي على اعتباره لا يختلف عن الديالكتيك الهيغلي.

لقد استخدم كروبوتكين لتفسير الظواهر الاجتماعية منهج(سبنسر)بشكل كامل،حيث يعزو المنهج المذكور الظواهر المذكورة الى السير بموجب قوانين بيولوجية.واخيرا(اكتشف)كروبوتكين (القانون)الميتافيزي الوحيد الذي يفسر في نظره مجموع تطور العالم،بما في ذلك تطور المجتمع البشري،الا وهو قانون المساعدة المتبادلة،الذي اراد ان يجابه به مفهوم الكفاح الطبقي باعتباره القوة المحركة للتطور التاريخي.وبمساعد الآلية في الفلسفة،اراد كروبوتكين دعم واسناد الفردية الراديكالية المميزة للنظريات الفوضوية.لقد صرح بأن العلم الحديث يرى ان مفتاح فهم الظواهر المختلفة يكمن في دراسة وحداتها الصغيرة المكونة لها،وهم(الافراد).

وقد رأى كروبوتكين ان هذا المبدأ يجب توسيعه ايضا الى العلوم التي تهتم بشؤون الانسان.ان الفوضوية في نظره تنطلق من مفهوم (الفرد الحر).ومن وجهة نظر الفردية هذه،يصل كروبوتكين الى الدفاع عن المدرسة الذاتية في علم الاجتماع.وبدلا من تركيز الانظار على دراسة القوانين الموضوعية للمجتمع البشري،يضع كروبوتكين تقديرا شخصيا للحوادث التاريخية يتفق مع مثله الخاصة.ويكمل كروبوتكين النظرة الذاتية للحياة الاجتماعية،بموقف ميتافيزي من الظواهر الاجتماعية.وقد ظهر المثل الاعلى الفوضوي كتجسيد للمبادئ(الخالدة): (العدل)و(المساواة)و(الحرية).واشار كروبوتكين كدليل على امكانية تحقيق مثله الاعلى،الى(ان الايمان بالانتصار التدريجي للخير على الشر يمد جذوره عميقا في الروح البشرية).ان المادية المبتذلة التطورية السطحية في الفلسفة- الى جانب المثالية الذاتية والميتافيزية في الاجتماع- هذه هي الاسس المنهجية (الميثودولوجية)لوجهة النظر الفوضوية لكروبوتكين للعالم.

لقد خاض ماركس وانجلز،طيلة فترة عملهما العظيم،كفاحا حاسما ضد الفوضوية ونفوذها في الحركة العمالية،واخضعا شترنر و برودون و كروبوتكين واتباعهم وحلفاءهم لنقد في منتهى القساوة.وقد عرى ماركس وانجلز،الى جانب الطابع الميتافيزي والمثالي للنظريات الفوضوية،جوهرها البورجوازي الصغير المعادي للاشتراكية البروليتارية.وقد وضعا في مركز كفاحهما ضد الفوضوية القضايا الجوهرية النظرية والعملية للحركة العمالية : الكفاح السياسي للطبقة العاملة،الثورة وعلاقتها بالدولة،دكتاتورية البروليتاريا ودورها في فترة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية.

ومع بداية عهد الامبريالية،وتوسع الرأسمالية الاحتكارية اللصوصية،وطرد البورجوازية الوسطى والصغيرة،لوحظ نوع من النشاط الجديد في صفوف الفوضوية وقد سبق لزمر فوضوية معينة ان مارست نشاطا غير عادي في عدد من البلدان،بعد المؤتمرات الفوضوية التي عقدت في لندن(1881) وجنيف (1882) – مثال ذلك اليد السوداء في اسبانيا.وقد دعا الفوضويون باسم شعار(الترويج للعمل)الى القيام بالارهاب الفردي،وخوض الكفاح ضد المجتمع القائم من قبل افراد منعزلين،باتجاه النظرية المثالية(للابطال والجماهير).وقد قام الفوضويون فعلا بعدة جرائم ارهابية في عدد من الاقطار(1893 رمي قنابل في مجلس النواب الفرنسي – 1894 اغتيال رئيس جمهورية فرنسا كارفر والشروع في اغتيال رئيس وزراء ايطاليا غرسبي – 1900 اغتيال الملك الايطالي هوبرت الاول..الخ).ولم تؤد هذه الاعمال الارهابية الا الى تسعير جنون الرجعية،وترحيبها بهذه الاعمال الارهابية الفوضوية كحجة لاتخاذ اجراءات رهيبة ضد الاحزاب العمالية.ولكن سرعان ما ظهرت لدى الفوضويين،الذين لم يكونوا يتميزون اطلاقا بالقدرة على المقاومة المستمرة،ظهر التفكك والتفسخ.وقد دخلت في صفوفهم عناصر استفزازية واجرامية،كما ثبت ان كثيرا من الفوضويين،كزعيم الفوضويين النمساويين بويكرت مثلا،اشترتهم الدوائر البوليسية.

كذلك اتخذت الاممية الثانية موقفا معاديا للفوضويين،وكانت الاممية الثانية في حياة انجلز ما تزال منظمة متطورة ثورية لحركة العمال الدولية.فقد رفضت الاممية الثانية التصديق على اقتراح الفوضويين في مقاومة الحرب والعسكرية بواسطة الاضراب العام ورفض الخدمة العسكرية الالزامية.كذلك رفضت الاممية الثانية الفكرة الفوضوية في اعتبار الاضراب العام والدعوة(للعمل المباشر) – التخريب،المقاطعة – الوسيلة الوحيدة للثورة الاجتماعية.وقد قرر مؤتمر الاممية الثانية الذي عقد في بروكسل عام 1891 طرد الفوضويين الذين تسللوا اليه من صفوفه.على انه بعد وفاة انجلز تقوت المواقف المترددة لقادة الاممية الثانية،الذين انزلقوا اكثر فأكثر نحو مستنقع الاصلاحية والتصحيحية،مما ادى الى تسهيل مناورات الفوضويين الذين عرفوا استغلال نقمة الجماهير من التكتيكات الاصلاحية لانتهازيي الاممية الثانية،في سبيل اهدافهم القذرة.على ان افلاس الاساليب الارهابية ارغمت الفوضويين على التخلي عن تكتيكهم القديم والتحول لمحاولات جديدة لكسب المنظمات الجماهيرية العمالية لصفوفهم،وتوجيهها ضد الاحزاب البروليتارية.ففي فرنسا وبلدان لاتينية اخرى قلل الاشتراكيون من تقديرهم لاهمية النقابات العمالية بحيث سلموها من الوجهة العملية فريسة للعناصر الفوضوية.وعلى هذا الاساس نما في اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين اتجاه السنديكالية الفوضوية.ان عجز وعدم رغبة القادة اليمينيين والوسطيين في الاممية الثانية،في معارضة الديماغوجية الفوضوية حول مقاومة العسكرية بمنهاج كفاحي حقيقي موجه ضد السياسة الامبريالية،سهل وقوى انتشار الديماغوجية الفوضوية حول امكانية منع الحروب مع الابقاء على النظام الرأسمالي،وحول اعتبار الحروب بوجه عام كسبب وليس كنتيجة للتناقضات الرأسمالية.لقد كانت انتهازية الاممية الثانية المسؤول الاول لحد كبير جدا عن نفوذ العناصر الفوضوية في بعض اقسام الحركة العمالية.وكمل قال لينين: (لقد كانت الفوضوية نوعا من العقوبة لجريرة الانتهازية في الحركة العمالية.ان كلا الوجهين يكمل احدهما الآخر)(18).

على ان المكافح الثابت ضد الفوضوية،كان الحزب البلشفي بقيادة لينين والقادة الآخرين.لقد استطاع الحزب تمزيق الفوضوية في روسيا بشكل تام وتوجيه ضربة مميتة لها في الميدان الدولي.لقد كافح قادة الحزب البلشفي الفوضوية على اساس مبدئي مختلف كليا عن كفاح اصلاحيي الاممية الثانية.لقد قادوا الكفاح على اساس الماركسية الثورية.وبكفاحهم ضد العناصر(المتطرفة نحو اليسار)استطاع قادة الحزب بنفس الوقت نزع القناع عن وجوه الانتهازيين والتساوميين اليمينيين وبذلك عروا الجوهر المغرق في الرجعية للفوضوية.

لقد وجه لينين وستالين،بعد ماركس وانجلز،نقدا مميتا للنظرية والتطبيق الفوضويين.وقد وجها ضد الفوضوية مجموع تجارب الكفاح الطويل المستمر للحركة العمالية الثورية،وحددا جميع خصائص وجهة نظرها للعالم بشكل جامع مانع،وعريا جوهرها الطبقي ودورها الرجعي.لقد كتب لينين: (بأن وجهة النظر الفوضوية للعالم هي وجهة نظر بورجوازية مقلوبة.ان نظرياتهم ومثلهم العليا الفردية هي على طرفي نقيض مع الاشتراكية.ان آراءهم لا تعبر عن مستقبل النظام البورجوازي الذي يؤدي باستمرار الى اجتماعية العمل،بل عن حاضر هذا النظام،بل حتى عن ماضي هذا النظام،عن تحكم الصدفة العمياء بالمنتجين الصغار المنعزلين والمبعثرين.ان تكتيكهم القائم على رفض الكفاح السياسي يؤدي الى شق العمال ويحولهم في الواقع الى مساهمين سلبيين في هذه السياسة البورجوازية او تلك،ذلك لأن الابتعاد الفعلي عن السياسة هو شئ مستحيل وغير قابل للتطبيق بالنسبة للعمال)(19).

ويضع لينين في المركز من نقده للفوضوية مسألة الدولة ذات الاهمية الحاسمة في كفاح الطبقة العاملة من اجل تحررها.وقد كتب لينين بصدد عرضه للاخطاء الانتهازية التي ارتكبها قادة الاممية الثانية في نقدهم للفوضوية،بين اشياء اخرى،: (بأن بليخانوف هيأ الجو لمعالجة هذه المسألة،ولكنه اهمل اهمالا تاما في كفاحه ضد الفوضوية،اهم نقطة من الوجهة السياسية،واشد نقطة واقعية والتهابا،الا وهي العلاقة بين الثورة والدولة،ومسألة الدولة بوجه عام)(20).

لقد صحح لينين الآراء الماركسية عن الدولة التي سبق ان زورها عدو الشعب بوخارين.لقد هرب بوخارين في كتاباته المزيفة للعلم مجموعة من الآراء المعارضة للماركسية حول (نسف) الدولة،وحول(الموقف المعادي مبدئيا)للدولة الواجب اتخاذه من قبل الطبقة العاملة.لذلك عرى لينين،بتصميم خاص،العدمية القومية(النهيلية)للفوضويين،و(اللاوطنية)الفوضوية المقيتة،وهي نوع من انواع الكوسموبوليتية البورجوازية.وقد اثبت لينين وستالين بأنه بالرغم من التعارض الظاهر بين الفوضوية والاصلاحية فأن كلا التيارين بحكم جوهرهما ليسا الا شكلين من اشكال الانتهازية،وانهما لحد ما وجهان من مدالية واحدة.وقد ظهر ذلك بكل جلاء خلال الحرب العالمية الاولى عندما اتخذت اغلبية القادة الفوضويين والسنديكاليين الفوضويين مثل كراف وكروبوتكين وايرفيه...الخ،موقفا اشتراكيا – شوفينيا خيانيا من الحرب،وتحولوا الى مجرد صنائع للبورجوازية الامبريالية.وقد كتب لينين بهذا الصدد: (لقد لوث في هذه الحرب ابرز القادة الفوضويين انفسهم بشكل لا يقل عن الانتهازيين،بالاشتراكية الشوفينية،باتجاه بليخانوف وكاوتسكي)(21).

لقد وجه ستالين في كتابه الكلاسيكي(أفوضوية ام اشتراكية؟)سوطه الشديد لفلسفة وسياسة وتكتيك الفوضوية بشكل جامع شامل.لقد عرى ستالين الفوضويين باعتبارهم اعداء الماركسية يتنكرون وراء راية الاشتراكية كما انه اثبت تهافت افكارهم الفلسفية باعتبار انهم انصار للفلسفة الوضعية البورجوازية واتباع لموقف ميتافيزي تجاه قضايا الحياة الاجتماعية.كذلك اظهر ستالين بأن الفوضويين ليسوا اشتراكيين اطلاقا لانهم(دعاة لاشتراكية كومونات صغيرة)(22)ويمجدون اشتراكية كومونية مبعثرة الاوصال،تفتقر الى اية قاعدة صناعية واسعة وتتعارض تمام التعارض مع اتجاهات وطبيعة قوى الانتاج في النظام الرأسمالي.ان ستالين دلل ايضا على ان الفوضويين ليسوا ثوريين اطلاقا لان الثورة الاشتراكية مستحيلة من دون انتزاع السلطة من قبل البروليتاريا ومن دون دكتاتوريتها الاشتراكية،التي يكن لها الفوضويون عداءا عاطفيا مستحكما.لقد كان مؤلف ستالين(أفوضوية ام اشتراكية؟)الذي كان السبب المباشر في نشره هو الكفاح الذي خاضه ستالين بعناد ضد الفوضويين الجورجيين نت اتباع كروبوتكين(مثل بتركيفيشيلي وآخرين)ذا اهمية قصوى في تعرية الآيديولوجية البورجوازية الصغيرة المعادية للماركسية للفوضويين في الحركة العمالية الروسية والعالمية.

لقد طورت مؤلفات ستالين نظرية الدولة الماركسية اللينينية،واظهرت بوضوح اهمية الدولة ودورها كوسيلة هامة في ايدي الطبقة العاملة لتحقيق بناء المجتمع الشيوعي من جهة،وضرورة تقوية الدولة الاشتراكية وتعزيز جانبها من جهة اخرى.كذلك تنير مؤلفات لينين وستالين الدور الرجعي للفوضوية فيما يتعلق باشتداد الكفاح الطبقي في عصر الامبريالية والثورة البروليتارية،كما انها تمثل مرحلة جديدة في نضال الماركسية ضد الفوضوية.وبالرغم من تخلف روسيا القيصرية وغلبة الصناعة السلعية الصغيرة عليها،لم تستطع الفوضوية تثبيت اقدامها فيها بالشكل الواسع المنتظر،لانها واجهت مقاومة ضارية من الحزب البلشفي وقادته.

وقد كان من نتائج انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى،ان انهار الفوضويون واختفوا كليا وقد تحول قادتهم الى مجرد عصابة من اعداء الدولة السوفياتية واعداء الاشتراكية والحركة العمالية،حيث سلكوا طريق الردة المباشرة وسياسة القرصنة وقطع الطرق(زمرة نابات في اوكرانيا،عصابة مانخوف..الخ)وفي ذلك الوقت بدأ العمال الذين كانوا لا يزالون تحت نفوذ الفوضويين والسنديكاليين الفوضويين في البلدان الرأسمالية يديرون ظهورهم للفوضوية ويتحولون جماعات لمعسكر المناضلين ضد الرجعية،لاصدقاء الاتحاد السوفييتي.اما بقايا الفوضويين فانهم تحولوا الى صنائع لقوى الرجعية المظلمة وامتزجوا مع وكلاء البوليس الاستفزازيين،ومع المجرمين والمرتدين والتروتسكيين.اما بعد ثورة اكتوبر فقد بقى للفوضويين بعض النفوذ في البلدان المتخلفة اقتصاديا كاسبانيا وايطاليا.كذلك استطاع الفوضويون الحصول على مواقع هامة نسبيا في الماضي القريب في المنظمات النقابية في امريكا اللاتينية.ان الفوضويين شقوا صفوف الطبقة العاملة،وعرقلوا نمو الوعي الطبقي الثوري للجماهير البروليتارية،وسعوا لاخضاع الحركة العمالية لسياسة البورجوازية الامبريالية.وقد ساعد قادة الفوضويين السنديكاليين في ايطاليا في بداية القرن العشرين،وذلك في طريق تشكيلهم نقابات لكسر الاضرابات،ساعدوا البورجوازية على التمهيد للفاشية.وقد كان قسم منهم في خدمة الفاشيين بصورة مكشوفة.

كذلك انكشف الفوضويون في اسبانيا(اتحاد الفوضويين في ايبريا)بعد تثبيت اقدامهم في اتحاد العمال الوطني الاسباني،خلال النشاطات الثورية للبروليتاريا الاسبانية بين عامي 1918 – 1920،انكشفوا كوكلاء للاستفزازات زكسر الاضرابات،كما انهم هم الذين سببوا فشل الكفاح ضد ردة الدكتاتور بريمودي ريفيرا.وفي اكتوبر 1934 خرب الفوضويين الاضراب العام حينذاك وساهموا مباشرة في قمع الانتفاضة البطولية التي قام بها عمال المناجم في استوريا.وخلال كفاح الجمهورية الاسبانية ضد الفاشية وضد التدخل الايطالي – الالماني في اعوام 1936 – 1938،اضطر الفوضويون تحت ضغط العمال الذين كانوا لا يزالون تحت نفوذهم الى الانضمام الى الجبهة الشعبية في بداية الامر،ولكنهم مارسوا في الجبهة اعمال التخريب والانشقاق باستمرار.ثم شقوا وحدة الجبهة الشعبية بمطاليبهم ذات الزي اليساري المتطرف نحو تحقيق الاشتراكية الفوري بتحويل جميع المشاريع للملكية الاشتراكية وفرض جماعية الزراعة بالعنف.كذلك مارست بعض العناصر الفوضوية،الى جانب التروتسكيين،اعمال التجسس والتخريب وساهمت في انقلاب الردة في برشلونة في عام 1937،ونشرت الدعايات الانهزامية.وهكذا ساعد الفوضويون الى جانب الخونة والاستسلاميين الآخرين على نجاح الفاشيين في خنق الجمهورية الاسبانية واقامة نظام فرانكو الدموي.

اما الفوضويون السنديكاليون في فرنسا وايطاليا،فانهم حاولوا بعد فقدان نفوذهم على الطبقة العاملة ان يجمعوا حولهم قسما من المثقفين (الانتلجنسيا) والبورجوازية الصغيرة والعمل على عرقلة التكتل في جبهة ديمقراطية موحدة بقيادة الاحزاب الشيوعية.كذلك عقد الفوضويون التحالفات مع الكنيسة الكاثوليكية ومنظماتها السياسية،وكذلك مع الاحزاب الاشتراكية اليمينية التي اصبحت من رواد الامبريالية الانكلو – اميركية.

وبالاضافة الى ذلك،تبنى الفوضويون بعض افكار(المودة)السائدة،كالوجودية والشخصانية،التي تعبر عن تفسخ الثقافة البورجوازية الصغيرة.وقد استغل الفوضويون فكرة(الدفاع عن حقوق الفرد)كستار لستر اعمالهم الغادرة.انهم يدافعون عن حقوق المساواة بين جميع الآراء السياسية والفلسفية والدينية مهما كانت رجعيتها.وتقوم الزمر الفوضوية،مقابل كفاح الاحزاب الشيوعية في فرنسا وايطاليا من اجل الدفاع عن السيادة الوطنية،برفع شعارات رجعية من قبيل(اتحاد الثقافة العالمي)وغير ذلك من الهراء المماثل،لستر مساعيهم المفضوحة في تسليم شعوب بلدانهم للصوص الامبرياليين الامريكان.ويتمسك قادة النقابات الفوضوية في امريكا اللاتينية باصرار بالخط العام الانشقاقي المعادي للشيوعية وللنظام السوفياتي ويعملون كوكلاء وصنائع للامبريالية الامريكية،باخضاعهم بلدانهم لنير اتحاد العمال الامريكان.

ان بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي والتقدم السريع في طريق الشيوعية،الى جانب بناء اسس الاشتراكية بنجاح في بلدان الديمقراطيات الشعبية حيث تقوم السلطة الديمقراطية الشعبية بمهمات دكتاتورية البروليتاريا،كل ذلك يدل على الدور التاريخي العظيم للدولة البروليتارية في اجراء التحول الاشتراكي للمجتمع.

ان الفوضوية التي قضي عليها نهائيا كفكرة سياسية في الاتحاد السوفياتي قد تعرت في الدول الرأسمالية كأثر من آثار الاحزاب البورجوازية التي تحاول عبثا تخريب وهد معنويات الحركة الثورية.


(1) ف.أ.لينين: (المؤلفات)،الطبعة الرابعة،الجزء 25،ص 455(بالروسية).
(2) نفس المرجع،الجزء الخامس،ص 303.
(3) نفس المرجع،الجزء 10،ص 55.
(4) ي.ف.ستالين: (المؤلفات)،الجزء الاول،ص 296(بالروسية).
(5) ف.أ.لينين: نفس المرجع السابق.
(6) ف.أ.لينين: نفس المرجع السابق،الجزء 5،ص 300.
(7) ف.أ.لينين: نفس المرجع السابق،الجزء 25،ص 75.
(8) ستالين : نفس المرجع،الجزء التاسع،الصفحة 10.
(9) كارل ماركس وفردريك انجلز: (الرسائل المتبادلة)،الجزء الاول،برلين،1949،ص 23(بالالمانية).
(10) اقتباس بليخانوف: (المؤلفات)،الجزء الرابع،الصفحة 198(بالروسية).
(11) كارل ماركس وفردريك انجلز: (المؤلفات المختارة)،في مجلدين،الجزء الثاني،برلين،1952،ص 422(بالالمانية).
(12) كارل ماركس وفردريك انجلز: (الرسائل المتبادلة)،الجزء الرابع،برلين،1950،ص 198/199 (بالالمانية).
(13) كارل ماركس وفردريك انجلز: (المؤلفات المختارة)،في مجلدين،الجزء الثاني،برلين،1952،ص 439/440 (بالالمانية).
(14) نفس المرجع،الجزء الاول،ص 360.
(15) ماركس وانجلز: (المؤلفات الكاملة)،الجزء 15،الصفحة 188 (بالروسية).
(16) كارل ماركس وفردريك انجلز: (المؤلفات المختارة)،الجزء الاول،ص 440.
(17) كارل ماركس وفردريك انجلز: (الرسائل المختارة)،برلين،1953،ص 289.
(18) ف.أ.لينين: (المؤلفات)،الطبعة الثالثة،الجزء 25،الصفحة 180(بالروسية).
(19) ف.أ.لينين: (المؤلفات)،الطبعة الرابعة،الجزء العاشر،الصفحة 55(بالروسية).
(20) ف.أ.لينين: المرجع السابق،الجزء 25،ص 447.
(21) ف.أ.لينين: المرجع السابق،الجزء 21،الصفحة 285.
(22) ي.ف.ستالين: (المؤلفات)،الجزء الاول،ص 297(بالروسية).

مراجع
كارل ماركس وفردريك انجلز: (الآيديولوجيا الالمانية)،برلين،1953،بالالمانية.
كارل ماركس: (بؤس الفلسفة)،برلين،1952،بالالمانية.
كارل ماركس: (تعليق على كتاب باكونين: الدولة والفوضى)في مجموعة: (المجموعة الكاملة لمؤلفات ماركس وانجلز)،الجزء 15،موسكو،1935،بالروسية.
كارل ماركس وفردريك انجلز: (المؤلفات المختارة)،في مجلدين،الجزء الأول،برلين،1951،بالالمانية.
كارل ماركس: (رسالة الى شفايتزر)،في المرجع المشار اليه اعلاه،ص 364 – 371 من الجزء الاول.
كارل ماركس: (رسالة الى اتنكوف)،في نفس المرجع،الجزء الثاني،ص 324.
فردريك انجلز: (حول قضية السكان)،في نفس المرجع،الجزء الاول،ص 519 – 602.
فردريك انجلز: (الباكونيون في العمل،في مجموعة: (المقالات الاممية عن صحيفة فولكشتات)،برلين،1894،ص 16 – 33،بالالمانية.
فردريك انجلز: (حول السلطة)،(المؤلفات المختارة)لماركس وانجلز،الجزء الاول،ص 603 – 606.
فردريك انجلز: (حول برودون)،وثائق ماركس وانجلز،الجزء العاشر،لينينغراد،1948،بالروسية.
ف.أ.لينين: (الدولة والثورة)،بالروسية.
ف.أ.لينين: (موضوعات وتقرير حول الديمقراطية البورجوازية ودكتاتورية البروليتاريا في 4 آذار 1919)،المؤلفات،الطبعة الثالثة،الجزء 24،بالروسية.
ي.ف.ستالين: (افوضوية ام اشتراكية؟)،(بالروسية).
ي.ف.ستالين: (تاريخ الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي)،موسكو،1948،(بالروسية).
ي.ياروسلافسكي: (الفوضوية في روسيا)،موسكو،1939،بالروسية.




 

free web counter