|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأربعاء 25/7/ 2012                                                           صباح كنجي                                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

السَجين لازار ميخو ..

صباح كنجي

لازار ميخو ـ أبو نصير .. شيوعي معروف في الوسط السياسي منذ الستينات من القرن الماضي ، لمع اسمه مع كوكبة من المناضلين في أعقاب انقلاب شباط 1963 حينما بدأ مشوار الكفاح المسلح بتشكيل النواة الأولى لحركة الأنصار والمقاومة إذ انخرط فيها ..

كان واحدا ً من جيل الرواد الذين قاوموا واستبسلوا وممن واصلوا المسيرة في الحقبة التالية الأصعب عام 1978 حينما التحق مجدداً مع المجاميع الأولى للأنصار في قاعدة ناو زنك ، وواصل كفاحه لغاية استشهاده غدراً على يد مجموعة من القتلة في دهوك استوقفته في الطريق اثناء عودته الى داره لتغتاله في سياق سلسلة اغتيالات متواصلة ، شملت عدداً من كوادر الأحزاب المعروفين ، كان نصيب الحزب الشيوعي هذا الكادر المعروف بتاريخه ومواقفه ونفذت الجريمة قبيل انعقاد المؤتمر التأسيسي للحزب الشيوعي الكردستاني بيومين ..

لن اتحدث في هذه الأسطر عن معرفتي به منذ الطفولة ، وهو ينتقل مع أبي وبقية زملائه من كهف لآخر في مناطق تمتد بين سلسلة جبال بين بعشيقة وبحزاني مروراً ببوزان و خورزان وبقية جبال كردستان .. ولاحقاً حينما اصبحتُ اشاركه المهام التي انيطت به ، مع اولى خطواتي في التأسيس لتجربة الأنصار الثانية مرحلة بعد أخرى ..

ابتداءً من الأيام الأولى لتجمعنا في ناو زنك و توجله  قبل الحركة والمغادرة الى بهدينان والمشاركة في تأسيس مقر كوماته ومن ثم العمل في سياق المفارز المستقلة قبل التفكير بتأسيس مقر مراني الشهير ، مروراً بسلسلة نشاطات في المدن والسهل تمتد بين دهوك والموصل ، وهي امور قد يأتي التفصيل بها لاحقاً اثناء الحديث عن تلك الأيام في صفحات أخرى ..

سأكتفي اليوم بالحديث عن لازار ميخو السَجين ..  عن أبو نصير المعتقل وهو يحكي لنا قصصاً عن السجون التي مرَّ بها .. ما زلتُ اتذكر أحاديثه في ساعات الليل .. وأثناء تجمعنا حول مواقد النار بين الأشجار مع اقداح الشاي في مواقع نختارها بين شعاب الجبال بالقرب من القرى والينابيع .. كان يذكر تعذيبه في سجن البصرة.. صموده .. وما سمعه من معذبٍ له اثناء عناده في الرد على اسئلتهم المتكررة ..

ـ ها.. تريد أن تصبح جمعة كنجي براسنا ؟ .. في اشارة منهم لموقف جمعة كنجي الذي اعتقل وهو يحمل هوية مزورة تعود لرفيقه العامل الجسور الراحل صموئيل عبوش من بحزاني .. وبقي مصراً اثناء الاعتقال رغم التعذيب لأشهر انه صموئيل نافياً انه جمعة كنجي بالرغم من جلب ابن حارته (حجي مادو *)  أحد المسئولين البعثيين في حينها لتشخيصه وتأكيده بحكم معرفته .. لكنه بقي مصراً انه صموئيل عبوش ..

أبو نصير حدثنا أكثر من مرة عن ذلك السجن بوقائع بعضها مؤلم ومؤذي وبعضها مضحك وطريف .. من بين تلك الحكايات والقصص ، ما دار بينه وبين اقطاعي كردي من الأغوات كان معتقلا هو الآخر في البصرة .. حشر بين مجموعة السياسيين بالرغم من كونه محكوم لأسباب لا علاقة لها بالسياسة ..

هذا السجين الذي تأتيه صناديق الأكل والفاكهة وعلب الروثمن اثناء الزيارات الأسبوعية بكميات تزيد عن حاجته فيوزع بعضها على السجناء بحكم وجوده المشترك بينهم .. اختار ابو نصير من بين السجناء ليزامله ويدعوه لتناول الغذاء معه ، فتوثقت العلاقة بينهما وأصبحت صداقة تتحكم بها متطلبات  "قوانين " السجن وحاجة كل طرف للثاني في تلك الأوضاع داخل المعتقل ..

 يمضي الزمن وتستمر الحكاية .. يقول ابو نصير:

في أحد أيام الربيع .. بعد منتصف النهار فتح السجانون الأبواب .. طلبوا منا التوجه للساحة المشجرة التي تتوسطها الورود والحشائش للنزهة والتجوال .. كان الجو بديعاً .. الشمس مشرقة .. الوقت منتصف آذار .. تفتحت وأورقت الأشجار .. بين خطوة وأخرى تشعر رغم وجودك في المعتقل بعذوبة الربيع .. نظرتُ مبتهجاً الى ما يحيط بي .. كل شيء ينبئ بالجمال والتفاؤل .. قلت لزميلي محدثا اياه بالكردية :.. 

ـ آغا بهارا .. بهارا .. ايّها الآغا.. انه الربيع .. الربيع... لم أكمل جملتي إلا  وينقلب المشهد أمامي .. امتقع وجه زميلي الآغا الكردي .. بدأت ملامحه الغاضبة تنبأ عن ردٍ لم يكن بالحسبان .. جاء بصيغة تساؤل يعكس ضجراً ورفضاً حينما قال بالكردية :.. 

ـ ما  أمن كه رم ؟!..  هل انا جحش ؟!... عبثاً حاولت اقناع الآغا .. أن الربيع ليس للحمير وحدهم !.. لكن جهودي ذهبت ادراج الرياح .. بقي منزعجاً خاصمني وقاطعني  لفترة طويلة ..

ذكرتُ و اتذكر حكاية ابو نصير مع الآغا .. وأنا اتابع العشرات من المقالات والتحليلات السياسية حول ما أدرج على تسميته بالربيع العربي ومواقف البعض من اليساريين والديمقراطيين منها ، بينهم مثقفين وفنانين متوجسين من آفاقها المخيفة .. يبدون رأيهم الرافض لها ويحتجون معترضين على التحركات الشعبية ، التي تجتاح العديد من بلدان الاستبداد الشرقي المطالبة  برحيل الحكام القتلة الذين يزهقون المئات من الارواح في كل يوم وباتوا لا يتوانون في زج قواتهم العسكرية في مهام قمع وابادة شعوبهم كما يحدث اليوم في سوريا ..

إذ لا يرى هؤلاء اليساريون والعلمانيون في كل هذا التحرك إلا الوجه الاسلامي منه !.. وباتوا يوصمون كل حركات الاحتجاج بما فيها ما يمت لزملاء لهم من العلمانيين واليساريين المناهضين للاستبداد والدكتاتوريات المتسلطة .. إلا كما كان يرى وينظر ذلك الآغا الكردي للربيع بمفهوم حميري !.. وبات يعتقدُ ولا يرى في الربيع إلا تلك العلاقة التي تربط هذا الفصل الجميل بالحمير فقط .. متناسين ان الحرية هي ما يحتاجها السجين .. تماماً كما كان يعشق ابو نصير ويتمنى في ذلك الربيع وهو يرددُ مع نفسه ..

هطل المطر

أعرف ..

أن الربيع قد جاء

وأعرف ..

أن الورود ستتفتح

الينابيع ستدفق من بين الصخور

وتنحدر الجداول بين الأشجار

سينمو الزرع

ستثمر بساتين التفاح

البلابل والطيور ستغرد

وشذى الاقحوان سيمتد في الافق

اعرف ..

لقد جاء الربيع

لكن الذي لا اعرفه

انا المرهون في المحبس

بأمر السلطان

متى سيفتح الباب

باب زنزانتي

السلطان كالآغا

لا يدرك

لا يفهم

جدوى العلاقة بين الحرية والربيع ..

تماماً كالذين لا يرون في هذا السيل الجارف للطغيان والاستبداد إلا ما يبدو فيه غولا اسلامياً ينبغي الاحتراس منه لأجل هذا يتشبثون بالاستبداد ويتمسكون بنعل الجلاد كي يثبت ويدوم الطغيان .. كأنهم مصابون بعمى الالوان ..

 

* حجي مادو كادر من جيل الرعيل الأول للبعث .. لم يؤذي الناس وعين قائمقاماً في قضاء الشيخان .. جرت تصفيته بحادث مدبر في الطريق بين الشيخان والموصل من قبل جناح صدام / البكر مع بداية مجيئهم للسلطة ..

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter