|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  29  / 5 / 2016                          شذى توما مرقس                                   كتابات أخرى للكاتبة على موقع الناس

 
 

 

قِصَّة قَصِيرَة جِدَّا

دَعْوَى كيْدِيَّة

شذى توما مرقوس
(موقع الناس)

كيْداً بِها ..... أَقامَ علَيْها الشَكْوَى في مَخْفَرِ الشُرْطَة ، بَعثَتْ المَحْكمَةُ إِلَيْها تَسْتَدْعيها لِلتَحْقِيق في أَمْرِ الدَعْوَى ، حضُورها كانَ مُلْزِماً .

نَهَضَتْ صبَاحاً وهيَّأَتْ طِفْلَها مَعَها ، وحِرْصاً مُضَاعفاً مِنْها دَثَّرَتْهُ بِمِعْطَفٍ سَميكٍ ، ففي اللَيْلَةِ الماضِيَة تَسَاقَطَ الثَلْجُ بِغزَارَة ، كُلّ الطُرُقَات مَكْسُّوَة بِطَبقَاتِ الثَلْج ومُزْلِقَة ، أَمْسَكتْ بِيَدِ طِفْلِها وخَرَجا إِلى الطَرِيق نَحْوَ مَحَطَّة انْتِظَارِ الحافِلَة .

كانَتْ تَتَمنَّى لَوْ اسْتَطَاعتْ أَنْ تَعْفي طِفْلَها مِنْ هذَا المِشْوار ، لكِنْ عِنْدَ مِنْ تَسْتَأْمِنُ طِفْلَها وهي وَحيدَة هُنا في هذَا البَلَد لا أَهْلَ لَها ولا أَصْدِقاء ، كما لا يُمْكِنها أَنْ تَتَرُكهُ وَحيداً في المَنْزِل فهو صَغِير السِنِّ ، فَكَّرَتْ أَنَّ سيَّارَةَ أُجْرَة خاصَّة تُقِلُها إِلى المَخْفَر هو الحلّ المُنَاسِب ، لكِنَّها لا تَمْلِكُ المَالَ الكافِي لِتَدْفَعَ التَكالِيف فالشَهْرُ في آخِرِ أَيَّامِهِ ولَمْ يَتَبقَّ مِنْ مالِها نُتْفَة ، ولَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُعِيرها المال ، ما مِنْ سَبِيلٍ أَمَامَها غَيْر أَنْ تَنْتَظِرَ الحافِلَة وتَأْمَل أَنْ لا تَنْتَظِرَ طَوِيلاً .

وقفَا يَنْتَظِران ..... مَرَّتْ بِضْعُ دقَائق ثُمَّ بِضْعٌ أُخْرَى وأُخْرَى ، لكِنْ حَتَّى مَوْعِد مَجِيءِ الحافِلَة ستَمُرَّ عشْرونَ دقِيقَة ، والطِفْلُ في وقُوفِهِ يَصِيح :
ــ ماما .... أَنا أَتَجمَّد .
اغْرُورِقَتْ عَيْناها بالدمُوع وقَالَتْ في سِرِّها :
(هذَا ما أَرادَهُ والِدُكَ الَّذِي لَمْ يُفكِّرْ فيكَ لَحْظَة ، رَأَى فَقَطْ الانْتِقَام وإِظْهارَ القُدْرَةِ والسُلْطَة لأَذيَتي علَّهُ يَسْتَحْصِلُ مِنِّي المالَ بِتَغْرِيمي ، واخْتَرَعَ أَكاذِيبَ في دَعْواهُ ضِدِّي دُوْنَ وَخْزٍ مِنْ ضَمِير ، إِنْ كانَ لَهُ ضَمِير حيّ ، هذَا الغَبيّ ، لَوْ يَراكَ وأَنْتَ تَتَأَلَّمُ بَرْداً ، أَبٌ أَحْمَق) .
احْتَضَنَتْ طِفْلَها وقَبَّلَتْهُ بِحنَانٍ وهي تَقُول :
ـ بِضْعُ دقَائق أُخْرَى وستَأْتي الحافِلَةُ يَاصَغِيرِي الحبِيب .
أَخْرَجَتْ مِنْ حقِيبَةِ يَدِها قِطْعة حَلْوَى يُحِبُّها وأَعْطَتْها لَهُ :
ــ خُذْ هذِهِ ، ستَمْنَحكَ الدِفْء يَا حبِيبي .
شَغَلَتْ قِطْعةُ الحَلْوَى الصَغِيرَ عَنْ شَكْواه مِنْ البَرْد ، لكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَمِرْ إِلاَّ دقَائق مَعْدُودَة ، فعادَ يَبْكي ويَتَوسَّل :
ــ ماما .... أُرِيدُ أَنْ أَعُودَ لِلمَنْزِل .
ـــ لا يُمْكِننا يَاولَدي ، يَجِبُ أَنْ نَذْهَبَ لِلمَخْفَر ، بَعْد دقَائق ستَأْتي الحافِلَة .
حَمَلَتْ طِفْلَها إِلى صَدْرِها واحْتَضَنَتْهُ ، نَعَمْ البَرْدُ قَارِس ، هي أَيْضاً بَدَأَ البَرْدُ يَتَغَلْغَل في أَطْرَافِها ، وفَوْقَ ذَلِكَ هي لا تَعْرِفُ المَكانَ تَحْدِيداً ، علَيْها أَنْ تَسأَلَ وتَسْتَدِلَ على العُنْوان الَّذِي مَعَها ......

بَعْدَ مُدَّة جاءَتْ الحافِلَة والصَبِي يَرْتَعِشُ بَرْداً وهي أَيْضاً ، سَأَلَتْ السَائق عَنِ العُنْوان ، أَخْبَرَها في أَيّ مَحَطَةٍ علَيْها النزُول لأَخْذِ الخَطِّ التَالِي القَاصِد إِلى حَيْثُ تُرِيد ، قَالَتْ في نَفْسِها : ( لا أُرِيد ، لكِنَّ مُرْغَمَة ) .

فَكَّرَتْ انْتِظَارٌ آخَر أَمَامَها وطِفْلَها ، بَدَأَ القَلقُ يُسَاوِرها علَيْهِ لا تَدْرِي كيْفَ تَحْمِيهِ مِنْ البَرْد ، وحِيْنَ نَزَلا في المَحَطَةِ الَّتِي أَشَارَ بِها إِلَيْها السَائق حَمَلَتْ طِفْلَها وضَمَّتْهُ إِلى صَدْرِها وأَلْقَتْ علَيْهِ شَالَها لِمَزِيدٍ مِنْ الدِفْءِ ، خَافَتْ علَيْهِ مِنْ البَرْد والتَجَمُّدِ والمَرَضِ والمَوْت ... ارْتَعدَتْ فَرَائصُها حِيْنَ مَرَّ بِخَاطِرِها المَوْت ، وصَارَتْ تَنْفُضُهُ عَنْ أَفْكارِها بِشِدَّة .....

لَمْ تَعُدْ تَشْعُرُ بِأَطْرَافِها .... أُذُنَاها احْتَقَنتَا ، أَنْفَها إِحمَّرَ ، شَفتَاها بَدَأتَا تَتَيبسان ، صَارَتْ تُحَرِّكُ أَقْدَامَها طَلبَاً لِلدِفْءِ في مَكانِ وُقُوفِها ، تَرْفَعُ الأُولَى ثُمَّ الثَانِيَة وهكذَا .... مَرَّتْ رُبُع سَاعة وكأَنَّها عام ، أَخِيراً جاءَتْ الحافِلَة فصَعدَتْ إِلَيْها مَعَ طِفْلِها وسَألَتْ ثَانِيَةً السَائق عَنِ المَحَطَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَنْزِلَ فيها فأَشَارَ إِلَيْها بِذَلِك ، لكِنَّ المشْوار لَمْ يَنْتهِ ، فبَعْدَ أَنْ تَنْزِلَ مِنْ الحافِلَةِ علَيْها أَنْ تَمْشِي سَيْراً طَرِيقَاً جانبِياً ، والثَلْجُ يَكْسُو الطُرُقات وهي مُزْلِقَة ......... تَأْمَلُ أَنْ لا تَنْزَلِقَ مَعَ طِفْلِها وتَقَعُ أَرْضاً فتُصابُ هي أَوْ طِفْلَها أَوْ كِلاهُما مَعاً بِجُرْحٍ أَوْ كسْرٍ .....

مَشَتْ الطَرِيق بِحَذَرٍ بَالِغ ، كُلُّ خَطْوَة سَارَتْها بِحَذَرٍ ، تَارَةً تَحْمِلُ طِفْلَها على صَدْرِها ، وتَارَةً تَمْسِكُ بِيَدِهِ تُشَجِعهُ على خَطْوِ بِضْع خُطُوات ، شَعَرَتْ إِنَّ العالَمَ كُلَّهُ ضِدّها .... وتَنَاثَرَتْ الدمُوعُ مِنْ عيْنِيها ، سَألَها طِفْلُها وهو يَلْمِسُ خَدَّها بِحُنُوٍّ وحُبٍّ :
ــ ماما ، لِماذَا تَبْكين ...
مَسَحَتْ دمُوعَها وقَبَّلَتْ يَدَهُ الصَغِيرَة وضَحكَتْ لَهُ تُمازِحَهُ :
ــ أَبْكي مِنْ البَرْد .
فصَدَّقَ الطِفْلُ أُمَّهُ وقالَ مُواسِياً :
ــ لا تَبْكي يا أُمّي ..... المَبْنَى سيكُونُ دافِئاً .
ضَمَّتْهُ إِلَيْها ودَخَلَتْ مَخْفَرَ الشُرْطَة وهي تَرْتَجِفُ وطِفْلها مِنْ البَرْد ، وهَمَسَتْ في أُذُنِهِ :
ــ لَقَدْ وَصَلْنا يَا حبِيبي .......
وأَكْمَلَتْ في سِرِّها :
( لكِنَّ والِدكَ لَنْ يَصِلَ أَبَداً ........ ) .


الأربعاء 23 / 3 / 2016 م .
 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter