|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  23  / 5 / 2019                                 يحيى علوان                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 شَمْهودَة

يحيى علوان
(موقع الناس)

حطّتْ كأنها تَزَحلَقَتْ من غيمة ، تربّعتْ على سريري باسمةً ، تراوغ بنظرةٍ ماكرة .
قلتُ مُستغرباً من المفاجأة : ما الذي جاء بكِ إلى هنا يا شمهودة ؟!
" ويش درّاني !! موش إنتو قارين عِلِمْ وتعَرفون كِلْ شَيْ ؟! حِنّه – نحن – ناس بدو، وإنتم حَضَرْ الله عاطيكم ...!! "
أجابتْ ، تغالبُ ضحكة فيها قدرٌ من الخُبث والشَغَب .
منْ أينَ أتيتِ ؟ ما نَصَبتُ خيمةً للحُلم ، ولا أشعلتُ ناراً ،
وما أرسلتُ موجةً تَغسِلُ شواطيءَ النسيان ،
أتمادى في صمتِي كي أنحتَ صرخَةً ملساءَ ..
على أيَّة حال أهلاً بِكِ ، شمهودة ، تُبعثرينَ سكينةَ النسيان !
ما هَمَّ ، تأتينَ في قطارٍ أو مَنام ..
أم على ظهرِ ريحٍ تأنُّ من آلامِ الظهر !
بسسست !! خَفّضي صوتك..! فالأفكارُ مثل القِطَطِ تقفزُ من كرسيٍ إلى آخر ..
ماذا تفعلين ؟ أينَ حَجراتكِ ؟ ليس لديَّ فنجان قهوة !!
أعترفُ لكِ الآن . قد كذبتُ عليكِ حينها! كانَ لي عمٌ وله ثمانِ بنات ..
إبتسَمَتْ بغنجٍ مَشوبٍ بنشوةِ نصرٍ ، وغَطَّتْ وجهَهَا بكفٍ تُداري ضحكةً كَتَمَتْها في الحال ..
.............................
.............................
شمهودة ، هي ، هي ... لا تزال حلوة بَضَّةً ، نَسَتْ أن تَكبُرَ عمّا رأيتها ذاتَ ضحىً باهرٍ مطلعَ الستينات.
كنتُ في زيارة لقريب لي ، يعمل تاجرَ جملة للعطور الأجنبية في أحد الخانات بسوق الشورجة ...
كانت شمهودة تفترشُ الأرضَ أمامَ جامع مرجان عند مدخل الشورجة ، جهة شارع الرشيد. ألقيتُ عليها نظرةً خاطفة
وتابعتُ طريقي . سمعتُها تُصفِرُ ، ولمّا إستدرتُ ناحيتها ، رأيتُها تؤشّر لي بيدِها ، أَنْ تعالَ !
إقتربتُ منها .. كانت تتربَّعُ على الأرض بحشمةٍ وإمتلاءٍ حلو . لم تكن سمينةً ولا نحيفةً .. تَتَخوصَرُ بعباءتها .
أثوابها تظاهرةٌ من الألوان الفاقعة . تشدُّ رأسها بچرغَدٍ – عُصابة للرأس تستخدمها النساء - تتدلّى منه على
جبهتها كراكيشَ ملونةً بالأحمر والأصفر والأخضر ، عينان واسعتان تَشِعّان مُكراً ، حوّطتهما ، ليتها ما فعلتْ !،
بكُحلٍ غليظ يُذكّرُ بصور الساحرات في أفلام الأطفال ، وفمٍ مُلطَّخٍ بطبقةٍ لمّاعة من الديرَمْ (1)، يتدلّى من شَفَتها السُفلى
خَطُّ وشمٍ مستقيمٍ أخضر، يتعامَدُ مع الحنْك .. ما أَنْ تفتح فمها حتى يلصِفُ ناباها الذهب .
قالت إجلسْ ، أريدُ أَنْ أقرأ لكَ طالعك ، حتى الآن لم أَستَفْتحْ ! عسى أنْ يكون فألكَ فاتحة خير هذا اليوم ..
قلتُ كم تريدين ؟ هزَّت بقفا يدها " ببلاش إلَكْ اليوم !"
قلتُ غير ممكن !
" هاتْ قْران جمهوري ! ما هو غَلِبْ - قَلِبْ بمعنى غير أصلي أي مغشوش وكانت تقصد القْران الملكي (2) - حتى لا تگول
ببلاش ، تَبي تغشني !!"
لمْ أكنْ أؤمن بقراءة الكفِّ أو الفنجان والبخت ، لكن ما شدّني إليها ، يومها كنتُ في عنفوان الفتوةِ والمراهقة ..غرائبية شكلها الذي يفوحُ غَنَجَاً وشهوةً .
قرفَصتُ أمامَها ، وهي تحدِّقُ فيَّ بنظراتٍ فاحصةٍ ، كأنها تُريدُ أنْ تَسبِرُ أَغواري ، وترسم على وجهها ظلال بسمةٍ ، فيما إمتدَّتْ يدها إلى خُرْجٍ بجانبها ، أخرجَت منه قطعة قماشٍ رماديةً ، أفرَدَتها أمامها بعنايةٍ .
سألتها عن إسمها . رَفَعَتْ حاجبيها وقالت بدهشة " شَمهودَة !؟" قُلتُ عاشت الأسامي ، رغم أنني لم أسمع بهذا الأسم من قبل
ولا أعرف معناه !
ومن أينَ ؟
قالت " منْ گوم الطِلْگانْ !"
- وأين تسكنون ؟
" الحَمادَه - تريدُ بذلك الصحراء بلغة البدو- حِنَّه أصلنا من الحَسَه – منطقة الأحساء القريبة من صحراء الربع الخالي جنوب السعودية - ، طول عمرنا نركض ورا النُوگ ، بحَمَاد الله .. نچودر وين ما نَبي – بمعنى نقيمُ مضاربنا أو ننصبُ خيامنا أَنّى شئنا- ! الولايات – المُدن - ، خلّيناها إلكُمْ الحَضَرْ..! وين ما تسيرون ، جيفَتكم وياكُمْ ــ تقصد التواليت في بيوت المدن! ــ حِنّه نطلِگها
برمل الخلا ، ما نخمّر جيفتنه مِثلْكُمْ !!"
قالتْ ذلك بشيء من الفَخَار والإعتداد بالنفس .
...................................
تناولَتْ من الخُرج قبضتين من الأحجار وأصداف المحّار، نثَرتْها فوق قطعة القماش وراحت تُمسِّدُها براحتيها ..
أَغمضتْ عينيها وبدأَتْ تُبَربِرُ هَامسةً بأشياءٍ غير مفهومة ،
كنتُ أُتابعُ حركاتها بدهشةِ طفلٍ ، تقرصُهُ لهفةٌ لمفاجأةٍ تحملُ إليه فَرَحاً تمَنَّعَ لوقتٍ طويل ...
بحنان مرَّت بيديها فوق الحجَرات والصَدَف، مرّتين أو ثلاثاً . فجأةً جَحَظَتْ عيناها،" ما يَبْغَنْ، الحينْ ، خِيرٍ لَكْ ، هاتْ فنجان
گهَوَه مِنْ ذاك الزِلْمَه " وأشارت بيدها إلى رجلٍ يقفُ في الطرف الآخر يحملُ دلّةً يبيع القهوة ، فيما إنشغلَت هي تُلَملِمُ حاجياتها .
إشتريتُ فنجان قهوة ، مُحلّىً ، لأنني لا أستسيغُ القهوةَ المُرّة. شربتُ الفنجانَ على عجلٍ وعدتُ إليها. قَلَبَتْ الفنجانَ على راحة يدها ..
بعدَ فترةٍ قصيرة حَرَّكت الفنجان ورفَعَتْ طارفه.. قَرَّبَته من وجهها ونَظرت .. ثمَ قالتْ ، معاتبةً تلومني لأنني وضعتُ شيئاً من السكّر في القهوة ، لأنه يُعرقِلُ ظهور الأرواح التي تحملُ الطالع ، كما تقول !!
بعد ذلك قَلَبَت الفنجانَ وراحت تُدَوِّره بين أصابعها تتأمله صامتةً ، ثم تنظر إليَّ .. وأنا أنظرُ إليها مُحاولاً إستنطاقَ صمتها .
عادت تتأمَّلُ في الفنجان ، وتُحدِّقُ فِيَّ :
" يا وَلَدْ ! عندك بنت عمْ ، عينها عليك ، وعينكْ على غيرها !"
ضحِكتُ مخابثاً ومعاكِساً ، قلت لها " ما عندي عم أصلاً ، حتى تكون له أبنة عينها عليَّ "!
غضبت شمهودة ، وقالت بحدّة " يا ولدْ ، عيب تكذب !!" رَمَتْ الفنجان ناحيتي مع القْران ..
إنتهت " الجلسة " ! كانت تفورُ غيظاً منّي ، وأنا أُكركِرُ هازئاً من الأمر كله ....!!
رنَّ المُنبّهُ يعلن موعدَ تناول حبَّةَ المُضاد الحيوي ... تبخّرَت شمهودة ، فيما كانَ الفجرُ ينولد على مهلٍ فيغدو الظلام هشَّاً .. والضبابُ المُعلَّقُ في الهواء واطيءٌ وثقيلٌ ، كالهَمِّ المُكَدَّسِ ..!


 

(1) الديرم نوع من الماكياج الشعبي ، قوامه القشور اليابسة ، التي تُغلٍّف ثمرة الجوز ، تستخدمه النسوة لطلاء الشفاه بعد ترطيبه بالماء .
(2) في العهد الملكي كانت العملة العراقية المعدنية تبدأ بفلسٍ واحد ، فلسان ، عانه (أربعة فلوس)، عشرة فلوس ، قران(عشرون فلسا أي خمسُ عانات) ، يلي ذلك درهم (خمسون فلساً) فمئة فلسٍ، ثم يأتي بعدها الريال (مئتا فلسٍ أي أربعة دراهم). بعد ثورة 14 تموز 1958، صدر قرارٌ بزيادة العانه فلساً واحداً لتصبح خمسة فلوس، وألغي الريال فحلَّ محله ربع دينار ورقي .. سرت في الشارعِ آنذاك مقولةٌ متهكمة وساخرة من قبل القوى المعادية للثورة ، " عاش الزعيم اللزوَّد العانه فِلِس !!"






 






 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter