| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

 

الأثنين 11/6/ 2007

 

أرشيف المقالات


 

المدن الثقافية وأهميتها في خلق المجتمع العلمي الثقافي *
أو
البصرة والمحنة الملقاة على عاتقها


د. هاشم عبود الموسوي  **
للأخوة منظمي مهرجان المربد والأخوة الأفاضل المشاركين فيه، أقول لكم كُنا ضيوفاً غير مدعوين .. فرحنا أن نلاقيكم على شاشات التلفزيون لتتحدّوا وتنظموا المهرجان وتعلنوا بأن البصرة هي مدينة الثقافة العربية .. هي البشرى بأيديكم, وفيكم نخوة الدرب.
أيها الأخوة المتخندقون في السواتر الأمامية، وأمام كل هذه الأهوال التي تواجهونها. وإن من تحمل بلوى كل هذا العصر، ربما يقوى على البلوى. فرحنا أن نلاقيكم بكل هذا الإصرار، لتعطونا سلاماً وارفاً أخضر, نحن معشر البصريين الشغوفين بعراقة وأصالة هذه المدينة وبماضيها التليد، وبرغم هذا الزهو فإننا نشعر أحياناً بحزن واسى عميقين من الحال التي هي عليها هذه المدينة، والتي فقدت العشرات بل المئات من حملة الثقافة الجادة والمواقف الرصينة، فهم موزعون بين الساحة الخضراء في طرابلس والساحة الحمراء في موسكو، وبين برلين وروما, واستوكهولم، وليما، وفي سدني وحتى في هانوي .. وأصبح الحلم الوحيد الذي يجمعنا جميعاً ليس أكثر من قبر ثابت في أرض بلادنا, لا يحفر مرات عديدات، وإن لا يصلب أمواتنا بعد الموت مراتٍ ومرات. كنا فيما مضى نفخر بامواتنا الأحياء، واليوم نبكي على أحيائنا الموتى، ودعاءُ منا للمواليد التي تأتي من بعدنا.. أن تعيش في سلام وأمن .. سلام على كل الديانات والأعراق في أرض الحضارات.
لكنني أود أن أتعرض للمدن الثقافية وأهميتها في خلق المجتمع العلمي الثقافي وللتحدي الذي أعلنتموه بجعل البصرة مدينة الثقافة العراقية، وبرغم كل ما يحيطكم من قوى شر وجهالة وأوضاع مأساوية ستضع العصي والمفخخات أمام عجلات مسيرتكم ..سأحاول أن أعالج الأمر بشكله العلمي والعملي وبشيء من التجرد.وبعيداُ عن العواطف، الثروة الحقيقية – من حيث الأداء الاقتصادي والمنافسة الصناعية وخلق الوظائف – لا تأتي من صنع المنتجات المادية فقط، ولكن من إنتاج ونقل واستغلال المعرفة, وخاصة في ظل الدور الذي يقوم به قطاع الخدمات في النشاطات الاقتصادية، والذي جعل المعرفة من الاستراتيجيات المهمة للتجدد.
التقدم العلمي التقاني يصنع بمعدلات عالية تختلف عما كانت عليه منذ عقدين من الزمن. الذين يصنعون هذا التقدم وبهذه المعدلات يعيشون في مجتمعات متقدمة أو صناعية، حيث تتوفر البيئة التي تتيح للعاملين في مجالات البحث والتطوير التفرغ التام لأعمالهم، فيزيدون من إبداعاتهم واختراعاتهم. في المجتمعات النامية لا يكاد يوجد إبداع أو اختراع أو تجديد، وإن وجد شيء فهو محدود جداًَ، لأنه في هذه المجتمعات ومنها عراقنا الحالي لا تتوفر الظروف المناسبة للعاملين في مجال البحث والتطوير ليتمكنوا من التفرغ التام لممارسة أعمالهم، فالعمل الفكري هو عملية مستمرة لا تتوقف فيها الذاكرة عن العمل عند الساعة 14:00، ثم تبدأ العمل عند الساعة 7:00 صباحاً. الإبداع والاختراع من أهم المهن – إن لم تكن أهمها في المجتمعات المتقدمة ويمارسها قلة متميزة من أفراد المجتمع.وهذه القلة تحتاج إلى اكتشاف وتنمية وتوجيه، ثم خلق بيئة الإبداع المناسبة لهذه الفئة لكي تخترع وتبدع. هذه الظروف التي يحتاجها المخترعون والمبدعون يمكن خلقها في مدينة تقانية تبنى لهذا الغرض، وتكون أهدافها واضحة تماماً وخلاصتها تطوير العلم والمعرفة في هذه المدينة التي يمكن أن تكبر لتشمل كل المجتمعات بعد فترة من التقدم والنجاح. وهكذا فإن المدينة التقانية يمكن أن تعتبر خطوة أولى أساسية وضرورية لتطوير المجتمع عن طريق استغلال مهارات وكفاءات ذوي المواهب والمهارات العلمية والتقانية المتميزة.

مفهوم المدينة التقانية:
ما هي المدينة التقانية المقصودة في هذه المقالة؟ هناك تسميات مختلفة تطلق على أنواع مختلفة من المجتمعات التقانية، التي قد لا تمثل مدينة بالمعنى المعروف للمدينة التي تتميز بالتكامل المدني من حيث وجود كل احتياجات الإنسان التي لها علاقة بالمأكل والملبس والأمن والصحة والتعليم بأشكاله المتعددة.
يوجد نوعان مختلفان مما يطلق عليه المدن التقانية أو المراكز العلمية أو المعامل المتكاملة:
المدن التقانية العلمية التعليمية:
هذه الأماكن تسمى مدنا أحياناً وتسمى مراكز علمية غالباً، وقد تسمى متاحف علمية، وهناك تسميات أخرى أيضاً، وقد تطلق كلمة مركز علمي على الجميع لعموميتها. يوجد حوالي 1200 مراكز في العالم، يزورها أكثر من 184 مليون زائر في السنة، كما أنها تأتي بمردود اقتصادي يصل إلى حوالي 1.4 بليون دولار سنوياً.
هذه المراكز تعتبر مجالاً استثمارياً مثل الصناعة والسياحة والتي تقوم وتبسط حقائق العلم ونظرياته إلى كل الناس، وخاصة الأطفال والشباب في هذه المراكز يمكن رؤية الحقائق العلمية التي يصعب فهمها أو استيعابها نظرياً.
هذه المراكز لا تخلو منها مدينة كبيرة أو متوسطة في العالم المتقدم، ولكنها تقل كثيراً في العالم النامي. 33% من الشعب الأمريكي يزورون هذه المدن كل سنة، و16% من البريطانيين يؤدون زيارة سنوياً، وفي دول اسكندنافيا 10% بينما 0.5% من الشعب الهندي يزور هذه المراكز.
من الأمثلة المعروفة لهذه المراكز عالم دزني ومتحف واشنطن للعلوم والثقافة وأرض دزني التي تنتشر في أمريكا وفي عدد من البلدان الأخرى. وهناك مدنية العلم والصناعة في باريس ومحطة المستقبل في إحدى المدن الصغيرة، وقد تمكن بعضنا من زيارتها.
وفي الوطن العربي بدأت تنتشر في بعض الدول هذه المدن أو المراكز العلمية أو الشبيهة بتلك، حيث توجد مدينة دبي للانترنت وواحة دبي للسيلكون ومدينة محمد بن راشد للتقانة. وهناك مشاريع مشابهة في الأردن ومصر والسعودية وتونس والمغرب واليمن وسوريا وقطر. وبقينا في ظرفنا الراهن، ولما ورثناه من عصر مظلم جائر، وأوضاع حالية غير اعتيادية، في مؤخرة الركب العربي في مجالات العلوم والثقافة وبناء المؤسسات ذات الكفاءة العالية والتخصصات المتطورة. يبدو أن هناك حاجة ملحة لمثل هذه المدن لنشر حقائق العلم والثقافة بين معظم الناس حتى يرتفع مستوى تفكيرهم وطريقة تعاملهم مع العلم ومنتجات التقانة التي تملأ بيوتهم ومكاتبهم والتي يزداد الاعتماد عليها بسرعة لم يسبق لها مثيل. وهي تمثل استثماراً جيداً له عائدان: عائد تعليمي وتثقيفي للناس وهو لا يقل مادياً عن العائد المادي الذي سوف يؤدي إلى استرداد الاستثمار في سنوات معدودة.
تقاس الدول اليوم بقدر إسهامها في تقدم العلوم وهو ما لا تقوم به إلا الجامعات، إنها منارات العلم، مرايا المجتمع، أساتذتها الحقيقيون محل التقدير والاحترام، وقد صدر مؤخراً تقريراً علمياً محايداً اعده معهد للتعليم العالي بالصين، متضمناً قائمة بأفضل خمسمائة جامعة على مستوى العالم، خلال العام 2004، أدخل في تقويم كل جامعة عدة معايير، جودة التعليم – عدد الأساتذة الحاصلين على جوائز عالمية مرموقة – نتائج الأبحاث العلمية – الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية رفيعة المستوى – حجم الجامعة من حيث عدد التخصصات بها وعدد الطلاب .. القائمة خلت من أي دولة عربية!! وجامعات جنوب إفريقيا الحاضر الوحيد من إفريقيا .. القائمة ضمت دولاً متوسطة الدخل أو فقيرة، مثل المكسيك – المجر – اليونان – بولندا – التشيك – شيلي. ضمت القائمة دولاً من العالم الثالث مثل البرازيل ولها أربع جامعات، الهند ولها ثلاث جامعات، وشيلي ولها جامعة واحدة .. ما يهمنا وما يعنينا من التقرير، هل تتمكن جامعة البصرة أن ترقى إلى مثل هذه المستويات؟ وهل يسمح لها الوضع الراهن بذلك لتساهم في حلمنا المشروع "البصرة مدينة الثقافة"؟

* على هامش مهرجان المربد
*
* أكاديمي عراقي مستقل