| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 11/9/ 2008

 

الأمر يتعلق بأغنية

محمد عطوان
Mohamed_atwan2@yahoo.com

ربما ليس كل ما نعاينه من مفردات في مصفوفة الأحداث السياسية التي تمر بنا يوميا، مُخلَّقا بقصدية ـ ما يتعلق بأوامر الحكومة في الأقل ـ حلحلة المليشيات، صولة الفرسان، أغاني بعثية يُعاد بثها من جديد. ولنتأمل هذه المفردات بإمعان، حتى يسهل علينا تتبع السيناريوهات التي سنتحدث عنها تباعا.
ربما تستنطق صياغاتنا الذهنية المُسقَطة على وقائع كالحلحلة والصولة والأغاني الهتافية العتيقة، والتي نتلقاها إعلاميا، جسد تلك المفردات بأكثر من لغة، وأن مسبقاتنا عنها، والتي ننقدها في خلواتنا، كثيرا ما تستبيح الأحكام، فتعطينا من ذلك معان عنيفة، وإجابات قد تربكنا، على نحو نتوهم فيه صدقية ما نذهب إليه أحيانا.
دعونا نناقش أغنية (يا كَاع ترابج كافوري)، التي تعالى صوتها في هذه الأيام، وما انطوت عليه، الأغنية التي كانت الأكثر بثا، والتي أشبع التوجيه السياسي العراقي البعثي آذان العراقيين بها في الثمانينيات، نسمعها مجددا تُبَث من معاقل العسكر الشبان حديثي التشكيل، ومن صولاتهم المدموغة بأوامر القيادة السياسية في بغداد وهم يجوبون شوارع البصرة بالهمرات العسكرية الحديثة. ولست معنيا بما تخطط الحكومة له في صولاتها، سوى أمر يعنيني ويتعلق بتلك الأغنية الاستجماعية بالتحديد.
لم أنسَ أنا المندهش لسماع هذه الأغنية في أي موقف ترددت أصداؤها على الآذان وفي أي المناسبات جرى بثها، لم أنسَ يوم استرد الجيش السابق الفاو بطريقة أو أخرى من الإيرانيين، المدينة التي بقيت تحت إدارتهم العسكرية محتلة لسنوات، ومربضا للحرب لسنوات، طحنت في رحاها قرابة 52000 ألف محارب عراقي، تغنى الجيش العراقي الثمانيني باستردادها كثيرا عبر شاشات التلفيزيون ومكبرات الصوت، في الاحتفالات التي كان يشرف على توضيبها النظام السياسي السابق مرارا، وانقطع عن تردادها فجأة بعد أن وضعت الحرب أوزارها، في مسرحية أُسِدل ستارها بنحو سيء للغاية.
عاود الجيش العراقي الحالي التغني بها ثانية في الخمسة أشهر الأخيرة الماضية، ومن مرابضه الداخلية الأهلية هذه المرة، مترافقة مع عمليات المجابهة العسكرية لما اسماهم رئيس الحكومة الحالي بالخارجين عن القانون. فما الذي كانت تعنيه هذه الأغنية للجيش في ذلك الوقت؟ وهل أن الجيش كان يستوعب ما تضمره أبعادها الرمزية؟ وهل أن تأليفها كان من اجل الجيش أم من اجل القائد؟
لعل السر النفسي في استرجاع هذه الأهزوجة التي ألّفها كاظم الكَاطع ولحنها علي عبد الله؛ امتزاجها بلذة (النصر) و(الذروة) التي وصل إليها الجندي العراقي في مجابهته (العدو)، لاسيما لعب التوجيه السياسي آنذاك دورا في تأجيج فورة الظفر والانتشاء إعلاميا.. وبذلك لم يفهم الجندي العراقي (نصره) إلى أي جهة كان ليكتب، مثلما لم يفهم اليوم مغازي الأغنية وهي تُبث ثانية، وبذات الدرجة التي التبس عليه إن كانت قد كتبت لمصلحة نظام سياسي في أتون حرب ضروس أم لا. قد نعتبر ما حصل مع هذه الأغنية في الماضي هو الذي جعلها تُهيِّج الجنود في ذلك الماضي، وتفعل فعلها اليوم أيضا، وبالتالي فأنهم يعشقونها كما يعشق شابٌ أغنيةً تذكره بحبيبته دائما، فيحن إليها حنينا من نوع خاص. لم يكن بالحسبان أبداً أن نحلل هذه الأغنية من خلال التفكير في المقاصد، مع الإقرار بأن هذه المقاصد موجودة ـ بديهيا ـ ومستمرة في الممارسات الواقعية والفعلية لذهنية السلطة، لكن يساغ لنا أن نحلل حدوث الأمور والإجراءات وفقا للكيفية التي تـُخضع الأجساد وتطوعها، لتتنادى (= الأجساد) باسم السلطة مجددا قائدة أفعالها ومتحكمة في سلوكها.
نرى بالعودة إلى مطارحات 9/4/2003 تحديدا، أن من البديهي أن يشجب السيد نوري المالكي سياسة صدام الحربية والعدوانية تجاه إيران، من منطلق شجبه للرؤية الارتيابية التي كانت تتسم بها تلك السياسة آنذاك، وبالتالي يصبح من المفارقة أن نتخيل إحلال المالكي ـ تمثليا ـ محل صدام في مجابهة عدو صدام ذاته، في سعيه لاسترداد البصرة ضيعة الجنوب برمتها هذه المرة، ومن مخالب القط الهضابي الأصفر. وإن تقصَّد استخدام مصطلح الجماعات المسلحة، كناية عن وصف المجابهة المضمر والمقصود. ربما يحاول المالكي في التعامل مع هذه المجابهة؛ الفصل بين طموحات صدام وطموحات الجيش العراقي في حينه، أي في تعامله مع كتلة الماضي العسكرية وملحقاتها الإعلامية، لينتقي الجانب القابل للاستثمار من تركة نظام منهار، وبالتالي يحاول أن يتبنى أطروحة الجيش في مجابهة إيران (العدو القديم)، مستعملا كناية الجماعات المسلحة في المجابهة، وبالتالي استوعب فكرة أن يتغنى الجيش بأغاني الماضي وبدأ يحسبها أغانيه (أعني رئيس الحكومة)، حتى بدا فيه ما يدعو العراقيين إلى مصالحة ما، مع من كانوا يشجبون التغيير في إبان 2003. ولعله لم يكن يقصد ذلك، وهنا، ينطوي الأمر على مفارقة، خصوصا إن جل من يهيمن اليوم على مفاصل النسخة السياسية في العراق، هو من تطابقت عقيدته مع عقيدة إيران السياسية، والمالكي واحد من هؤلاء الذين يبشرون بذلك، ربما لا يقول ذلك سياسيا، ولكن منطلقاته الإيديولوجية تشير بالدقة إليه (نزع ربطة العنق أمام الخامنئي مثالا قابلا للمقاربة).
إذن ثمة فرضيات انشقاق متوقعة قيد النشوء، تؤكد لنا ـ استشرافيا ـ أن ثمة انشقاقات أخرى كثيرة نحن بانتظارها، من شأنها أن تؤثر في جسد العقيدة السياسية في العراق اليوم، داخلية وخارجية، والتي غالبا ما كانت تسوق الجماهير (المؤمنة) شعاراتيا إلى مصائر، كانت خواتيمها مواجهات دامية ضمن مدار الجسد العقائدي المفترض. لكن، لندع هذا الأمر، ولنتساءل، عن جدوى استخدام أغنية (يا كَاع ترابج كافوري) دون سواها وهي تترافق مع مجريات الصولة في البصرة اليوم، بالنسبة لنظام نراه ألقى ورائه تبعات الماضي، ليمضي صوب مطارح دولة القانون.
لعلنا نعتقد هنا؛ أن التسليع الإعلامي المنتج اليوم لا يميل إلى أن يؤسس أغانٍ من نوع الأغاني التي كانت تُبث بتعبوية في السابق، وان هذا النوع من التحشيد شعرا كان أو تلحينا لا يمكن إنتاجه إلا من خلال مؤسسة ضبط وتعبئة دولانية، قادرة على إنتاج أنماط من السَّوق لا يمكن إنتاجها أو التحضير لها في غير تلك البيئة، وصانعة لأجواء هيجانية، بافتراض حراكها في مجال من الوعي الطقوسي الذي يتناغم كليا مع أطروحة الحرب ومصائرها. وعلى ذلك يدرك المالكي صعوبة التحضير لهذا الأمر، فنراه يمد يده غير آبه إلى خزينة الماضي الفولكلورية، وإلى دفين الأغاني البعثية القديمة، لينتشل واحدة منها، فكانت (ياكاع ترابج كافوري) وهي عودة تعبوية إلى فلسفات سَوق إعلامية قديمة مختبرة في التأثير على الحشود وفي تأجيج المشاعر في فضاء مليء بالالتباس.
قد لا يخفى على متابع للمشهد السياسي العراقي اليوم كيف أمسى هذا المشهد مأساويا في أدائه، لاسيما في الأشهر الأخيرة الماضية التي سبقت الصولة، حيث بدأت تفوح منه رائحة الجسد المتفسخ دون المقدرة على تداركها، إلى الحد الذي كره الساسة العراقيون أنفسهم، فتوارى أغلبهم عن أنفسهم في تصريف الوقت المتبقي من صلاحياتهم دون جدوى، وهذا ـ بحسب ما يبدو لي ـ لم يرِق للمالكي الذي يعد نفسه ـ شخصيا ـ قادرا على تصريف اكبر الأزمات بتصريح واحد من تصريحاته العربية الفصيحة المتصاعدة، مع ما كان يُنعَت به بين أوساط السياسيين العراقيين وغير العراقيين على أنه الرجل الأضعف والمُسيَر من لدن الكتلة الكبيرة التي أهلته إلى منصبه هذا. وبالتالي بات لزاما عليه كيف يفك ملابسات ما تم تعقيده، وكيف يثبت أنه ليس ضعيفا بحسب ما يُصورون. لاشك بقي المالكي هنا، في حيرة من أمره، فالمصير الذي سيلقاه يشابه نسبيا المصير الذي انتهى إليه صنوهِ الجعفري في رهان الحكومة السابقة. وبالتالي لابد من صولة يراها اختبار حازم لوقاية الكعب، بالنسبة لمحارب أثخنته جراح المنازلة، ويجر ورائه تاريخا من العمل السياسي غير المختبَر ـ بما يكفي ـ حكوميا.
أزعم أن المالكي تأخر في سباته طويلا حتى أنه استيقظ بعد فوات، فوجد أن الكل قد تعداه، وان الأمور أستوجب تداركها، فسعى يبحث عن متعلقاته الشخصية (الهووية) التي لم يجد في تلك الأثناء شيئا منها، فأراد أن يستلف عدة أو عتادا من هنا أو من هناك، لم تَبِن للجنرال هوية تعنونه لا خارجية ولا داخلية فابتكر من الجيشَ هويةً له، وذاب هو في تلك الهوية، ليتعانق خطابه المفقود مع خطاب البندقية والأهازيج، وليرمم لنا ـ دون مواربة ـ الصورة القديمة للنسق الحُكمي السابق عندما اختلط عليه الخطابان في المجابهة، فانتهى إلى أن هلك البنيانان، وهوى جسد الخطابين تباعا، هذه الصورة القريبة من الأمس، يعاد اليوم إنتاجها بسردية منحولة لا فرق فيها عما كانت عليه الصورة السابقة.


 

free web counter

 

أرشيف المقالات