| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 14/12/ 2012

 

 هوامش في ذاكرة متعبة

د. جاسم الصفار

أذكر انه في صباح يوم خريفي من عام 1971 نودي عليّ من زنزانتي التي كنت معتقلاً فيها في (قصر النهاية) لأقاد الى مكتب ناظم كزار، ألمسئول الأول لمعتقل (قصر النهاية) ألرهيب، والذي كان عند وصولي الى مكتبه، واقفاً امام المدخل. نظر اليّ ناظم كزار بتمعن للتأكد من عدم وجود اثار ظاهرة للتعذيب على جسدي الذي كان واهناً بسبب الجوع والسهر رغم توقف التعذيب قبل ايام. وللإنصاف فقد لمحت في نظراته بعض الاشفاق، ربما بسبب صغر سني وتهذيبي الشديد، وفاجأني بتنبيهي الى انه سيتم نقلي الى معتقل اخر وانه يتعين عليّ في غضون دقائق الاستعداد للرحيل، وعقب بكلمات لم افقه معناها، فيها سخرية واستهزاء بفكر اليسار واحزابه.

ثم وبرفقة الحرس جرى اقتيادي الى مكان قريب من بوابة الخروج لأصطف في انتظار السيارة المخصصة لنقل المعتقلين، الى جانب اثنين من المعتقلين، عرفت منهم فيما بعد المناضل المغدور كريم احمد (ابو شروق)، عضو اللجنة العمالية للحزب الشيوعي العراقي، والذي قتل تحت التعذيب في نهاية السبعينات، كما علمت. وبعد طول انتظار دُفعنا نحن الثلاثة الى المقعد الخلفي لسيارة صغيرة جلس في مقعدها الامامي الى جانب السائق حسن المطير، المسئول الثاني عن المعتقل بعد ناظم كزار، وتوسطنا في المقعد الخلفي الصديق المغدور ابو شروق.

في طريقنا الى معتقلنا الجديد، خاطبني حسن المطير ناصحاً بالتخلي عن النشاط السياسي والاهتمام بمواضيع اخرى كغيري من الشباب واضاف بان السياسة وسيلة قذرة للاستحواذ على السلطة وانها شاغل من لا شغل له وان المكتبة التي تم مصادرتها من بيتنا هي المخزون التقليدي الذي يجدونه في جميع بيوت السياسيين الذين تفتش بيوتهم على انه لا يجري استخدامها من الجميع لنفس الغايات وبنفس المستوى. فقد قدر له، كما ذكر، "مناقشة" العديد منهم واكتشف بان اغلبهم يستخدمون الافكار المستنبطة من الكتب كأي وسيلة اخرى تبرر الاسترزاق من السياسة وليس هناك سوى عدد نادر من السياسيين الذين يقرأون بحثاً عن الحقيقة.

اثناء حديث حسن المطير، لم يتورع ابو شروق من ندسي بخفة على قدمي اشارة الى الاستخفاف بكلام المسئول الامني. ثم تمر الايام وبعدها الاعوام، التقيت خلالها مرات عديدة بالمناضل المغدور كريم احمد (أبو شروق)، اصبحنا فيها اصدقاء حميمين. ولكنه لم يذكرني بحديث حسن المطير الا في لقائنا الاخير قبل اغتياله. وقد كان ذلك في ليلة شتائية في موسكو في مطعم الانتربول، لاحظت في نبراته بعض الحزن الذي يشير الى توجسه لامتحان تاريخي عسير تمر فيه احلامنا ومشاريعنا الفكرية والسياسية. من شأنه ان يكشف لنا بأن سبب مآسينا كان ويبقى رفاق واصدقاء لنا، ذكرهم المسئول البعثي الامني حسن المطير في حديثه معي في السيارة التي نقلتني معه الى مركز اعتقال الامن العامة ببغداد.

أذكر اني قرأت مرة لتوفيق الحكيم عبارة جميلة عند حديثه مع حماره، ذكر فيها مخاطباً اياه، أن في السياسة افكار جميلة وحلول ناجحة للكثير من مشاكل المجتمع، غير ان اساس البلاء هو هؤلاء السياسيين الذين يشوهون كل ما هو جميل بخطبهم البلهاء ألتي يصف نعيق حماره بانه الاجمل والاصدق منها.

تذكرت كل هذا في سيارة التكسي التي اقلتني الى بيتي بعد زيارتي التقليدية الى شارع المتنبي يوم الجمعة الفائت والذي صادف ذكرى الانقلاب الدموي الذي نظمه بعثيون وقوميون على حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم في العام 1963 والذي ادخل العراق وطناً وشعباً في نفق مظلم مازالت اثاره المدمرة مهيمنة على التركيبة النفسية للإنسان العراقي. لقد تغير كل شيء في العالم وفي العراق منذ ذلك الحين ولكن الذي لم يتغير هو المثقف السياسي العراقي. فحتى عازف موسيقى الانفاق يغير الحان موسيقاه أما ألسياسي ألعراقي فهو هو على نفس هرطقته ونفس غاياته مهما تغيرت ميادين عمله ودكاكين عرض بضاعته.


 

free web counter

 

أرشيف المقالات