| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الجمعة 15/6/ 2012

     

شيء عن متي الشيخ (*)

د. غانم حمدون

هذه سطور عن رجل برر ثقتي به وحبي له.. احبه مثلي كثيرون.. لا ادري كيف قدّر ذلك الصبي الذي يبيع الصحف ويعرض معاناة الكادحين المطبوعة على وجهه بوضوح. لا ادري، وقد افقده الفقر احدى عينيه ونصف الاخرى، كيف قدّر انني اعرف متي الشيخ، ألمجرد كوني معلماً؟

سألني ذلك الصبي الكادح: هم تعرف استاذ متي؟ ثم صار يحملني التحية له كل يوم. وقدّرت ان قلبه الذي لم يطعم الحنان قد مال كلية الى ذلك الاستاذ المفصول الذي كان يقرأ عنده صحف المساء في مقهى ياسين. يمازحه ببساطته المعهودة ثم أخذ يشارك ذلك الصبي في حب واحترام متي الشيخ (دحام) فراش النقابة.. و (ابو عبد) فراش الجمعية الاستهلاكية و (عيسى) نادل جمعية الخريجين الذين عرفوا متي.

كانت امي العجوز تشعر ببعض الضيق ازاء الرفاق الذين يترددون علينا، لا لكثرة ما يدخنون وما يحتاجونه من شاي بل كذلك لان قلبها يحدثها: ان تلك الاجتماعات الطويلة السرية لابد ان تعود بالضرر، يوماً، على ولدها. اما متي فكانت تسر لرؤيته ليس لانه ابن جارتها القديمة (دولة) بل لانه يدخل البيت فيشيع الدفء بتحياته الحارة واسئلته عن صحتها، التي لم تخل يوماً من علة حقيقية او موهومة، يمازحها حول زواج ولدها ، يستفسر عن آخر مساعيها لايجاد خطيبة له هو، يعود بها الى ذكريات الموصل، ذكريات تبدو احياناً طرية رغم ان بدايتها تعود الى سنوات اعقبت الحرب العالمية الاولى..

فيوم دخلت السيارة الحياة الاقتصادية في الموصل ، انزاح الجمل عن طريقها ،وذوى عزّ اصحاب الجمال ،اشترى بناء كادح جانباً من حوش فسيح كان ذات يوم مربطاً لمائة بعير او يزيد، واقامت يداه الكبيرتان هنا بيتاً جديداً. ورغم ان الحي اقرب في قيمه وعيشه الى البداوة منه الى الحضارة ، فان اسرة البناء عبودي الشيخ لم يصبها الا القليل من خشونة اهل الحي وجهلهم. كان عبودي الشيخ رجلاً وقوراً مسالماً ، وابناؤه لا يمدون اصبعاً الى المعارك التي تنشب بين صبيان الحي في كل ساعة.

كنت اجلس بين اخوتي على عتبة بيتنا ننتظر عودة ابينا من مقهى الحي عند الغروب ونتسلى على مشاهد الشارع العام ساعة التقاء الليل بالنهار، وكانت عودة العم البناء من العمل واحداً من مشاهدنا اليومية، يلوح من بعيد، طويل القامة، عريض المنكبين، لا تفارق وجهه المتعب بسمة ودود، كنا نرد عليه ببسمات تختلط فيها الالفة بالاحترام، ويبادره كبيرنا بالسلام: "إلگوه عمو عبودي" فتمتد اصابعه الكبيرة لتعابث شعر احدنا وهو يرد التحية، وكان فضولنا يقفز الى صبيين سائرين وراءه، احدهما قد بلغ سناً يؤهله لغطاء رأسه بعمة صغيرة تلقي على محياه رزانة مبكرة جداً. انه نجم اكبر ابناء عبودي الشيخ، اما الآخر فكان يمشي امامنا بشىء من الزهو، يثير حسدنا بالمجرفة التي يتنكبها، ينظر الينا من زاوية عينيه، نزيده سعادة بنظرات الاعجاب والغبطة الى طاقيته التي تغطي قسما من شعر ذهبي مائل الى الحمرة، الى الغبار الابيض عالقاً بحاجبيه واهدابه، الى الحزام يشد (الدشداشة) الملطخة بالجص. ذاك هو متي ابن جارنا البناء عبودي الشيخ.

دار الزمان فدرجنا في المدارس يتقدمنا ابن الكادح متي. ثم غادرنا في اعقاب الحرب العالمية الثانية الى بغداد ليدخل دار المعلمين العالية.. وسنة 1948 عدت من بيروت لقضاء العطلة في الموصل فبلغني ان اسرة الشيخ عبودي حزينة، فقد كان متي يقضي الصيف في المعتقل شأن مئات الطلبة التقدميين الذي قدحوا شرارة الوثبة المجيدة ضد معاهدة بورتسموث. وبذلك كان متي رائداً في طريق الكفاح الوطني الذي لم يعرفه ابناء حينا بعد. وفي ذلك الصيف رزئت الاسرة بنجم الذي غرق اثناء العمل، ولاول مرة دخلت الكنيسة وراء نعشه والقس والمرتلين. بعد سنتين عدت ثانية، فالتقيت بمتي، كان بظهره المحني قليلاً وخطواته الثقيلة وعويناته يبدو اكبر من سنه بعدة اعوام. عاد من الديوانية حيث عمل، كما اذكر، مدرساً في دار المعلمين الابتدائية.

كنت انا المستجد في السياسة، اتهيب متي الذي خبر المعتقل. لكني الفته انساناً شديد التواضع يظهر في لعبتي الدومنة والطاولي حماسة ، ويشارك بنصيبه في الثرثرة الودود التي يعرفها رواد المقاهي والنوادي،لكنه لا يلبث ان يدير دفة الحديث الى الامور العامة بكلمات يبدو وكأنها غير مقصودة: ادهشني ايضاً باسئلة حول مصطلحات في اللغة الانكليزية دلت على طول باعه فيها وكنت يومها اتصور هذا المضمار حكراً لي بين الذين لم تتح لهم فرصة الدراسة في الخارج.

ثم اصبحت مدرساً ووجدت الزميل متي بعد اعوام في مقهى ياسين على شارع ابي نؤاس بين عشرات من الطلبة والمدرسين التقدميين الذين فصلوا ايام حلف بغداد الخانقة ومعهم سيق الى الخدمة العسكرية عقاباً وترويضاً في معسكري السعدية والرشيد.

كانت المنية قد طوت جارنا البناء، فبيع المنزل وانتقلت الاسرة الى بغداد حيث عمل اخواه الصغيران في تركيب وبيع زجاج النوافذ. وقد اتخذا باب سطح يطل على شارع الرشيد دكاناً كنت اجد متي عنده يعمل في صخب- باب الاغا- وقد اصاب هنا نجاحاً مكنه من شراء سيارة (بيوك) عتيقة لم تسلم من نكات المفصولين والعاطلين. ثم انكشفت لهم مساهماتها المشكورة في نقل رزم المناشر ،ومنها كراريس ميثاق جبهة الاتحاد الوطني، حين سرقت . فامتنع عن اخبار الشرطة بالسرقة .وقتذاك كان لا يذخر جهداً في لم زملائه المفصولين، يبحث لهذا عن عمل ويواسي ذاك، ويشد من عزيمة القانط، ويقودهم في المطالبة برفع الحيف عنهم: وحل عام 1956 بكل الزخم الذي عاشته حركة التحرر العربي: تأميم قناة السويس دحر العدوان الثلاثي على مصر.. ولئن فشلت انتفاضة شعبنا عام 1956 في تحقيق شيء غير الاحتجاج ، فانها زادت القوى الوطنية ادراكاً لضرورة توحيد الجهد فأنبثقت جبهة الاتحاد الوطني.

لست ادري كيف شعر متي باستعدادي للعمل. دعاني الى بيته ذات مساء مع عدد من المعلمين الذين سلموا من الفصل. وحضر د. طلعت الشيباني ممثل اللجنة العليا للجبهة إجتماعنا لتأسيس لجنة المعلمين التابعة للجبهة .

بعد 14 تمور اعيد متي الى التدريس. فودّع باب الاغا ليستقبل زحمة اشد. وفي بيته عقدت اجتماعات لعشرات من المعلمين الذين ذاق اغلبهم الحرمان والفصل والتشريد والسجن، كانوا يعدون لتأسيس نقابتهم ودراسة نظامها الداخلي.. ثم عرف جمهور اوسع من المعلمين متي الشيخ نقابياً كدوداً بعيداً عن البيروقراطية والتعالي . ولكن قلائل عرفوا اي جهد بذله وزملاؤه في قيادة العمل النقابي حتى استقام على قدميه وسط تقلبات الاوضاع العامة. كان اول امين لصندوق النقابة فحمل الامانة الثقيلة . لعب بعد تفرغه للنقابة دوراً رئيسياً في ادارة دفة العمل ، مقيماً في مقر النقابة منذ الصباح حتى يغلق الحارس بابها.

في السنوات الثلاث الاخيرة من حياته كنا نمضي اماسي الخميس مع مجموعة من الاصدقاء . وقد دهشت بادىء الامر لطربه وفهمه للموسيقى السمفونية دون سابق معرفة وثيقة بها. والى جانب ذلك كانت له ملاحظات ذكية وخبيرة عن الغناء العربي : ادوار سيد دوريش وعبده الحامولي ومقامات احمد الفقش الموصلي والبستات القديمة .. وكان صديق لنا يعزف احياناً فيشارك متي في الغناء بصوت شجي فيه بحه.ٍ

تلك امسيات من اهنأ ساعات العمر. كان متي يفتتحها في الغالب بالاستلقاء ليغفو دقائق تعيد اليه بعض نشاطه، وكنت افهم حاجته الى تلك الاغفاءة . فليس الا من عمل معه في الحزب، مع الرفيق يونس بمستطاعه ان يخمن مقدار الارهاق الذي تنطوي عليه مسؤولياته.

في ظهيرة يوم قائظ اخذني الى اجتماع بسيارته التي انهكتها مشاغله السياسية. وبدا عليًّ الضيق من تخمة الغداء ولفح السموم وضياع القيلولة اليومية. فعابثني كعادته وسخر من - افنديتي - بضحكة اطلقها كعادته من الصدر: قال انه طلق القيلولة اليومية منذ زمان..

ربما كان من يراه في جمعية المعلمين التعاونية، او في نادي المعلمين، او في اتحاد الادباء او في جمعية الخريجين يحسبه متسكعاً لا يجد ما يشغله.. اما في الواقع فانه كان يعمل هناك بهدوئه المعتاد، يوجه رفاقه ، يراقب سير العمل عن كثب ، يشحذ الدأب والاتقان والاخلاص وينتقد النواقص ويطرح الحلول..

كان مسؤول خط المثقفين يعيش مشاكلهم ويسعى لتوظيف كفاءاتهم في خدمة الحركة الثورية . وكان يفهم نفسية الادباء والفنانين بعمق، قديرا على تقييم نتاجهم لا من زاوية محتواها السياسي فقط، بل من حيث الشكل ايضاً .. يبدي آراءه حول التيارات السائدة في الحركة الادبية بتواضع يخلو من التجريح والمداهنة.

غير ان متي كان مغرماً بالعمل مع المعلمين ، مناضلاً في سبيل حقوقهم المهنية ،ومن اجل الديمقراطية. فما ان يحل اوان الانتخابات النقابية حتى يتولى القيادة المباشرة لتنظيم المعلمين، يشيع الحيوية والنشاط من حوله ليس فقط بحكمة وحزم قيادته بل كذلك لان رفاقه يلمسون فيه نكران الذات والسبق في الجهد. ثم تنتهي معركة الانتخابات فيشترك في تقييمها ثم يخلد الى بيت اخته ليفي بعض ديون جسده في نوم يكاد يتصل لبضعة ايام.

ثم افترقنا.. بادىء الامر لم اصدق شائعة حول مصرعه في المعتقل . وبعد ايام نشرت الصحف دفعة من الذين حجزت اموالهم فإذا كلمة متوفى ازاء اسمه. وبعد هذه السنين الاحدى عشرة وصف لي نهايته رجل شاركه غرفة الاعتقال . لقد ظل ينشر عزيمة الصمود في نفوس الرفاق بمواجهته الباسلة للتعذيب... وحين وضِع امام الاختيار بين الحياة التي احبها وبين امانة الحزب عنده، هتف عالياً لحزبه وشعبه والدم يتدفق من صدره الذي مزقه الرصاص . (**)
 

(*) نشرت المادة في جريدة "طريق الشعب" بتوقيع مستعار، وذلك في 13/ 3/ 1974 . ثم أعادت نشرها في أيار 2012
(**) إقترف هذه الفعلة الشنيعة المجرم البعثي بهيج المدني بحضور طيبي الذكر
صاحب حداد صديق الشهيد وابراهيم كبة ، وذلك في مركز شرطة المأمون . كانا معتقلين معه، بعد أيام قليلة من الإنقلاب الأسود عام 1963



 

free web counter

 

أرشيف المقالات