| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                                                     الثلاثاء 19/3/ 2013

 

وكالات التصنيف الائتماني – إياكم أن تروا فيها ما لا تدعيه هذه الوكالات لنفسها!

د. عدنان عباس علي

تضطلع أسواق المال بدور حيوي في الاقتصاديات الحديثة. فهذه الأسواق تتكفل بتحقيق التوازن بين المدخرات والاستثمارات، وتساهم، بالتالي، في عملية الازدهار الاقتصادي. والمشكلة الرئيسية هاهنا تكمن في أن عملية الموازنة بين رغبات المقرضين وأهداف المقترضين تنطوي على وضع غير متماثل: فالمقترض أعلم من المقرض، في أغلب الأحيان، بجدارته الائتمانية، وأدرى منه، عادة، بالمخاطر المحدقة بالمشروع الاقتصادي الذي سيُستثمر فيه الرأسمال المقترض. أضف إلى هذا أن مانح القرض لا يستطيع الجزم بأن المقترض سيسدد له كافة ما بذمته من التزامات مالية. فالمقترض يميل عادة إلى المبالغة بسلامة وضعه المالي والتقليل من أهمية المخاطر المحدقة بالمشروع الذي ينوي الاستثمار فيه، وذلك لأنه بهذا الصنيع يخفض تكاليف القرض. من هنا فإن المقرض بحاجة ماسة إلى طرف حيادي يرشده إلى المخاطر المحدقة بالمال الذي يُقرضه. ومع أن المصارف التجارية وصناديق الادخار تتوافر على معلومات مهمة بخصوص الجدارة الائتمانية التي تتمتع بها الأطراف المُصَّدِرة لسندات القروض والجهات الراغبة في الاقتراض، إلا أنها لا تستطيع تقديم المعلومات المطلوبة في كل وقت وفي كل مجال. من هنا، تبلورت وتزايدت، مع مرور الزمن، الحاجة إلى مؤسسات متخصصة في جمع وتقديم المعلومات المطلوبة: الحاجة إلى وكالات متخصصة بالتصنيف الائتماني، تكمن مهمتها في جمع المعلومات عن مخاطر الائتمان المالي المحدق بالدول والقطاعات والمشاريع الاقتصادية المختلفة وتقييم هذه المخاطر انطلاقاً معايير محددة لتمكين المصارف والمستثمرين الناشطين لحسابهم الخاص أو لحساب المؤسسات التي يعملون فيها من التكهن بمخاطر الاستثمار الذي يريدون الإقدام عليه. وتُعتبر كل من ستاندر أند بُورز (Standard & Poors) وموديز (Mody´s Investors Service) وفيتش (Fitch Ratings) من أشهر وكالات التصنيف الائتماني. وتخصصت هذه الوكالات، في بادئ الأمر، في إعطاء المقرضين معلومات بشأن سمعة الراغب في الاقتراض وعما إذا كان جديراً بالثقة، ولم تتحول صوب تصنيف سندات الديون السيادية وباقي الأوراق المالية إلا في وقت متأخر نسبياً، في مطلع القرن العشرين على وجه التحديد. وكانت الأزمة المالية، التي تعرضت لها أسواق المال عام 1929، قد عززت التوجه الجديد، وذلك لأن المستثمرين أخذوا يدفعون مكافآت مالية سخية للحصول على المعلومات الضرورية لتقييم الأوراق المالية المتداولة في الأسواق.

وفي بادئ الأمر، أي في عام 1906 حين أسس جون مودي (John Moody) أول وكالة متخصصة بعمليات التصنيف الائتماني، كان الأسلوب السائد هو أن تجني وكالة التصنيف دخلها من بيع إصداراتها إلى المستثمرين. وظل الأمر على هذه الحال حتى سبعينات القرن العشرين. فبدءاً من هذا التاريخ، جرت العادة على أن تفرض الوكالات الرئيسية على الشركات المصدرة لسندات الدين رسوماً نظير قيامها بتقييم هذه السندات والأوراق المالية الأخرى. وكان السبب الأساسي لتخلي الوكالات الرئيسية عن بيع إصداراتها إلى المستثمرين يكمن في أن المعلومات المباعة إلى هذا المستثمر أو ذاك سرعان ما كان يجري تداولها في الأسواق، وبالتالي فإن المستثمرين الآخرين كثيراً ما كانوا يحجمون عن اقتناء هذه المعلومات من الوكالة المعنية. وهكذا، وفيما لا تزال بعض الوكالات الثانوية الأهمية تمول نفسها من خلال الرسوم التي تحصل عليها نظير بيع إصداراتها إلى هذا المستثمر أو ذاك، تجني الوكالات الرئيسية، في اليوم الراهن، حوالي 90 بالمائة من إيرادها من خلال الرسوم التي تتقاضاها من مصدري سندات الدين والأوراق المالية الأخرى.[1] ولسنا بحاجة إلى الإشارة إلى أن هذا الأسلوب ينطوي على تعارض بين الحيادية المطلوبة من وكالة التصنيف ورغبة مصدري السندات في حصول سنداتهم على تصنيف جيد. فكلما كانت الوكالة أكثر تساهلاً في منح التقييمات الجيدة، كان زبائنها أكثر إقبالاً عليها وربحها أعلى. ومعنى هذه الحقيقة هو أن ثمة تناقض بين مصالح الوكالات وتطلعات زبائنها (conflict of interest) وأن هذا التناقض من صلب النظام المتبع في مكافأة خدمات وكالات التصنيف الائتماني (inherent in the system).

وحتى سبعينات القرن العشرين، تركزت عمليات التصنيف على سندات الدين المصدرة من قبل الشركات الأمريكية في المقام الأول، وذلك لأن الشركات في باقي الدول الصناعية كانت تمول حاجتها للمال من خلال القروض المصرفية بالدرجة الأولى. والملاحظ عملياً هو أن سندات الدين المصدرة من قبل الشركات المختلفة غالبا ما تكسد، في أسواق الولايات المتحدة الأمريكية، إذا ما لم تحصل على تصنيف مناسب من إحدى الوكالات المتخصصة. وبهذا المعنى، فإن ثمة اختلافاً بين الواقع السائد في الولايات المتحدة وفي أوربا؛ فباستثناء بريطانيا وهولندا، ففي أوربا تخضع الشركات، المسجلة في البورصة فقط، لعمليات التصنيف الائتماني.

وبعدما جرى بين العامين 1916 و1924 إنشاء وكالة بورز (Poor´s Publishing) ووكالة ستاندر (Standard Statistics) ووكالة فيتش، كانت السوق تتقاسمها أربع وكالات رئيسية. وبسبب عمليات الدمج وبعدما رأت وكالة ستاندر أند بُورز النور عام 1942، تقلص هذا العدد إلى ثلاثة. وهكذا تستحوذ، الآن، الوكالتان الأمريكيتان المقيمتان في نيويورك ستاندر أند بُورز وموديز على حصة الأسد في سوق التصنيف الائتماني. فكل واحدة منهما تستحوذ في السوق على حصة تبلغ حوالي 40 بالمائة. أما فيتش، الوكالة المقيمة في نيويورك ولندن، وذات الجذور الأمريكية-البريطانية سابقاً، والتابعة إلى شركة فرنسية يمتلكها، حالياً، رجل الأعمال الفرنسي Marc Ladreit de Lacharrière، فإن حصتها تتراوح ما بين 10 إلى 15 بالمائة. وإلى جانب هذه الوكالات، التي غالباً ما تسمى بالثلاثة الكبار، هناك وكالات أخرى لا يُحسب لها حساب كبير في السوق وذلك لأنها متواضعة الأهمية جداً وتتميز في أن نشاطها يقتصر على مجالات ضيقة إلى حد كبير. وتأسيساً على الحصص، التي يستحوذ عليها الثلاثة الكبار، يمكن القول إن سوق التصنيف الائتماني ما هي إلا سوق احتكار القلة (oligopol)، أي سوق شبه احتكارية بكل معنى الكلمة.

وتكمن الأسباب المهمة لهيمنة الثلاثة الكبار على سوق التصنيف الائتماني في أن هذه الوكالات قد استحوذت، مع مرور الزمن، على الوكالات الصغيرة المنافسة لها، وأن الراغبين في الدخول إلى هذه الأسواق تواجههم عوائق لا يستهان بها، عوائق من جملتها أن الزبائن يطلبون، عادة، تقديم شهادات كفاءة، ليس بمستطاع الوكالات حديثة العهد تقديمها.

على صعيد آخر، كان للتدخل الحكومي دور عظيم الأهمية في تعزيز هيمنة الثلاثة الكبار على السوق. ففي الولايات المتحدة الأمريكية لا يجوز إصدار وتداول سندات الدين في الأسواق ما لم يكن قد تم تصنيف هذه السندات من قبل وكالتين على أدنى تقدير، من الوكالات التي تعترف بها "اللجنة الأمريكية للأوراق المالية والتحويل الأجنبي"(U.S. Securities and Exchange Commission, SEC) على أنها وكالات ذات أهمية قومية (Nationally Recognized Statistical Rating Organizations). ويعني هذا الشرط، عملياً، أن الوكالتين المهيمنتين على السوق – وفي كثير من الأحيان وكالة فيتش أيضاً – هما الوكالتان اللتان يُعهد لهما، في الأحوال العامة، تقييم الجدارة الائتمانية لسندات الدين المُصَّدَرة من قبل الشركات. وليس ثمة شك في أن هذا الشرط يحد من المنافسة كثيراً ويعزز سيطرة احتكار القلة على سوق التصنيف الائتماني، لا سيما أنه لا توجد قواعد واضحة وثابتة تحدد الشروط الواجب توافرها لكي تكتسب الوكالة صفة الأهمية القومية. ولا يشط المرء أبداً إذا أكد أن البيروقراطية الحكومية أسبغت هذه الصفة على الثلاثة الكبار بنحو تعسفي. ولا يغير من هذه الحقيقة شيئاً أن "اللجنة الأمريكية للأوراق المالية والتحويل الأجنبي" قد منحت، في نيسان/أبريل من عام 2010، أي عقب اندلاع الكارثة التي تسببت بها عمليات توريق القروض العقارية، بضعة وكالات أخرى حق مزاولة وظيفة التصنيف الائتماني.

ولأن اللجنة الأمريكية المذكورة ما برحت تتمسك بحقها في فرض رقابة صارمة على سوق التصنيف الائتماني، لذا من حق المرء أن يقول إن تمسك اللجنة بحقها في تحديد ماهية الوكالة ذات الأهمية القومية، لم يحقق التغيير الضروري لتحويل سوق التصنيف الائتماني من سوق احتكار القلة إلى سوق تنافسية حقاً وحقيقة. فهي استمرت على تضييق نطاق المنافسة وواظبت، ربما بلا قصد منها، على تمكين بعض الوكالات من لعب دور ريادي في السوق ومن إحراز تفوق أكيد مقارنة بالمنافسين المحتملين. والأمر الذي تتعين ملاحظته هنا هو أن الاقتراح الذي تقدمت به إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الكونجرس في الحادي والعشرين من يوليو/ تموز عام 2010 والذي يرمي إلى معالجة جوانب التدليس والفساد التي شابت أعمال وممارسات مؤسسات التصنيف العالمية، ومنها تضارب المصالح (Conflict of interest) وعدم اعتماد الشفافية في معاملاتها، لم يشتمل على العناصر الضرورية لإصلاح وكالات التصنيف الائتماني. فالسياسيون فضلوا، عن حسن ظن، تصعيد التوجيه الحكومي في سوق التصنيف الائتماني حين فرضوا معايير جديدة تتعلق بشروط الشفافية وبضرورة الكشف عن المعلومات التي يستند عليها تصنيف الجدارة الائتمانية وبأهمية الإعلان عن منهجية التقييم والتصنيف المعتمدة. فمع اعترافنا أن مصطلح الشفافية ينطوي، من حيث المبدأ، على معاني جيدة ونافعة ولا خطر منها، إلا أن الأمر يختلف حينما يمس الموضوع عمل وكالات التصنيف الائتماني. فكلما كانت الشفافية أوسع مدىً، كان طالبو التصنيف أكثر إحاطة بسبل التمويه على الوكالات وما يتوجب عليهم القيام به للحصول على التصنيف الذي يتطلعون إليه.

لقد كان من الأفضل للسلطات الرقابية أن تخفض شدة العقبات المعيقة للدخول إلى السوق وأن تمنح المستثمرين حرية أوسع لتحديد ماهية الأوراق المالية التي يستثمرون فيها وماهية المعايير التي ينبغي الاسترشاد بها عند اختيار هذه الأوراق، لا سيما أنه سيكون بوسعهم، عندئذ، تقصي ماهية الجدارة الائتمانية التي يتمتع بها المقترضون من خلال الرجوع إلى سوق عمليات مبادلة التأمين على مخاطر عدم استرداد القروض(Credit Default Swap, CDS)، ومن خلال الاستعانة بالخدمات الاستشارية التي تقدمها مصارف الاستثمار وشركات صغيرة، متخصصة بتقييم الجدارة الائتمانية.

وينطبق الأمر ذاته على الأسلوب الذي انتهجته دول اليورو. فهذه الدول شرعت قواعد صارمة للأوراق المالية التي يجوز لشركات التأمين وصناديق المعاشات الاستثمار فيها. فهذه الأوراق يجب أن تكون قد حصلت على تصنيف لا يقل عن درجة صالحة للاستثمار(investment grade)، أي أن تصنيفها لا يجوز أن يكون أدنى من BBB بحسب تصنيف وكالة ستاندر أند بورز ووكالة فيتش، وBaa3 بحسب تصنيف وكالة موديز، وأن 5 بالمائة فقط من المال يمكن لشركات التأمين وصناديق المعاشات استثماره في سندات ديون سيادية تتسم بمخاطر عالية [2] High Yield Bonds . من ناحية أخرى وضعت هذه الدول قيوداً أكثر صرامة على الاستثمارات المالية التي تمارسها صناديق التأمينات الاجتماعية.

وكان الهدف من هذه القيود نبيلاً بكل تأكيد. فمن خلال هذه القيود والضوابط كانت الحكومات تسعى إلى حماية حقوق المواطنين والحيلولة دون إقدام صناديق التأمينات الاجتماعية على المقامرة بأموال الموطنين. إلا أن هذا الهدف النبيل أنطوى على مخاطر جانبية: زيادة سلطان وكالات التصنيف الائتماني. فالإعلاء من شأن شهادات تصنيف الجدارة الصادرة عن هذه الوكالات أعطى الانطباع بأننا هاهنا حيال تقييم موضوعي يستند على معطيات علمية لا شك فيها. ولسنا بحاجة إلى التأكيد على زيف هذا الانطباع، الذي تترتب عليه تداعيات جسيمة في الحالات العامة: فحينما تخفض الوكالات تصنيف سندات الدين المصدرة من إحدى الدول، فإنها تحرض، عملياً، المستثمرين على بيع ما بحوزتهم من سندات وتتسبب في إثارة فزع في أسواق المال الدولية. إن إعلاء الحكومات من أهمية شهادات التصنيف الصادرة عن الوكالات ساهم بشكل قوي في تعزيز سلوك القطيع في أسواق المال الدولية.

على صعيد أخر، لا يقبل المصرف المركزي الأوربي الأوراق المالية التي تقدمها المصارف التجارية كضمانات للقروض التي تحصل عليها منه ما لم تحصل هذه الأوراق على تصنيف جيد من وكالتين من الوكالات العملاقة. أضف إلى هذا أن اتفاقية بازل 2 قد صعدت أيضاً من نفوذ الثلاثة الكبار. حقاً تركت الاتفاقية للمصارف الحق في اختيار أسلوب التصنيف الداخلي (Internal rating based-approach)، لتصنيف الأصول المرجحة بحسب درجة المخاطر، إلا أنها أجازت للمصارف استخدام الأسلوب النمطي أو المعياري(Standardized approach)، أيضاً، أي أجازت لها حق الرجوع إلى الثلاثة الكبار لتصنيف ما لديها من أصول. ولأن المراقبين ما كانوا واثقين من سلامة أسلوب التصنيف الداخلي، وذلك لأن المصارف تميل عادة إلى التقليل من شأن المخاطر سعياً منها إلى خفض الملاءة المالية التي يتعين عليها الاحتفاظ بها لمواجهة احتمال تخلف المدين عن الدفع، لذا يمكن القول إن اتفاقية بازل 2 قد دفعت المصارف إلى تأكيد مصداقيتها من خلال الاستعانة بخدمات الثلاثة الكبار، وساهمت، بلا قصد منها، في تعزيز سلطانهم.

وتأسيساً على السلبيات، التي أشرنا إليها أعلاه، وبسبب قيام الثلاثة الكبار بخفض تصنيف الوضع الائتماني للعديد من دول اليورو، أخذ الكثير من وزراء المال الأوربيين يتساءلون عن الطرف الذي يضطلع بتقييم الوكالات نفسها، ويثيرون الريب حول كفاءة هذه الوكالات في تصنيف سندات الديون السيادية عامة والأوربية بنحو مخصوص، متجاهلين أن دولهم قد لعبت، أيضاً، دوراً أساسياً في ارتقاء هذه الوكالات إلى ما ارتقت إليه من سلطان ونفوذ. كما أشار هؤلاء الوزراء إلى ضرورة العمل على إنشاء وكالة أوربية تنافس الثلاثة الكبار وتحد من الوضع شبه الاحتكاري السائد في سوق التصنيف الائتماني. وليس ثمة شك في أن إنشاء هذه الوكالة - الرابعة في قائمة الوكالات العملاقة - لن يفضي إلى تغيير جوهري، طالما أنها ستسترشد بنفس المبادئ التي يسترشد بها الثلاثة الكبار. فهذه الوكالة أيضاً ستسعى إلى تحقيق الربح وستحصل على دخلها من زبائنها الذين يتطلعون إلى الحصول على تصنيف جيد، أي أنها ستكون، أيضاً، عرضة لذلك التعارض في المصالح، الذي قلنا عنه أعلاه، أنه من صلب نظام التصنيف الائتماني (inherent in the system).

وغني عن البيان أن هذا التعارض في المصالح لا يدعم النقد الذي وجهته دول اليورو إلى الثلاثة الكبار إثر قيام هذه الوكالات بتخفيض تصنيف اليونان وايرلندا والبرتغال وإسبانيا، وإقدام ستاندرد أند بُورز على منح اليونان أسوأ تصنيف في العالم وتأكيدها على أن الوضع المالي في اليونان قد اقترب من حد الإفلاس. فالوكالات لا تجني نفعاً مادياً من تصنيفها للدول. فكما هو معروف، وخلافاً للوضع السائد في حالة الشركات، لا تدفع الدول - في العلن على أدنى تقدير - أي مكافأة مالية نظير تقييم جدارتها الائتمانية، أي أن الوكالات تصنف الجدارة الائتمانية للدول بحرية وحيادية كبيرتين وبلا أية ضغوط سياسية. وربما لهذا السبب استفاق السياسيون في دول اليورو وراحوا يسعون جاهدين إلى فرض إرادتهم على هذه الوكالات، التي عز عليهم السيطرة عليها حتى الآن.

إلا أن هذه الحقائق لا تقلل من شأن الريب التي أحاطت بسمعة وكالات التصنيف الدولية منذ أن انهارت، في سياق الأزمة المالية الأخيرة، مؤسسات مالية كبرى وبيوتات تجارية عملاقة وشركات صناعية عالمية كانت قد حصلت من الثلاثة الكبار على تصنيفات مالية ممتازة. وكُشف النقاب في أعقاب فضائح الانهيارات المالية الأخيرة المتوالية عن وجود علاقات بين مؤسسات التصنيف وإدارات شركات طالبت بالحصول على شهادات تصنيف جيدة، كما تجمعت قضايا بالغة الخطورة لدى اللجنة الأمريكية للأوراق المالية والتحويل الأجنبي في نيويورك من بينها تقديم بعض وكالات التصنيف معلومات مغلوطة عن أسهم بعض العملاء والمصادقة على معلومات شركات أخرى كانت في وضع مالي متعثر أو على وشك إعلان الإفلاس. ويمكن للمرء أن يستشهد هنا بشركة الطاقة أنرون (Enron) ومؤسسات عملاقة أخرى من قبيل شركة الاتصالات ورلدكوم (Worldcom) ومصرف ليمان براذرز وما سوى ذلك من مؤسسات أخرى صغيرة ومتوسطة الحجم. أضف إلى هذا أن وكالات التصنيف قد فشلت فشلاً ذريعاً في تصنيفها سندات الدين المضمونة بالعقار(Mortgage Backed Securities, MBS) وسندات الدين المضمونة بالقروض المضمونة بالعقارات (Collateralized Debt Obligation). فهي أعطت هذه الأوراق المالية تقييماً جيداً في بعض الأحيان وجيداً جداً في أحيان أخرى، متجاهلة أن غالبية المقترضين لتمويل عقاراتهم لا قدرة لهم على تسديد أقساط الدين وأن هذه الأوراق المالية غير مضمونة إلى حد بعيد. وبهذا الأسلوب المثير للريب، تحول الائتمان ذو المخاطر العالية إلى ائتمان ممتاز التقدير. وبحسب ما أعلنه الاقتصادي الأمريكي بول كروغمان فإن 93 بالمائة من الأوراق المالية الأمريكية المسندة بالرهون العقارية تحول، عقب اندلاع الأزمة الأخيرة، إلى أوراق مالية لا قيمة لها برغم حصولها في عام 2006 على تصنيف AAA من وكالات التصنيف المختلفة.[3]

إننا هاهنا إزاء أخطاء جسيمة بلا ريب. إلا أن علينا أن نأخذ في الحسبان ما سبق أن قلناه، أعني أن تقييم الجدارة الائتمانية ليس علماً من صنف العلوم الطبيعية، وأن وكالات التصنيف ليست معصومة من الخطأ وليست أكثر نزاهة وعفة عن باقي الشركات، وأنها، بالتالي، قد تخطأ وقد تصيب عن قصد أو بلا قصد، وأن التصنيفات الصادرة عنها تعبر عن وجهة نظر ليس إلا، تعبر عن وجهت نظر الوكالات بشأن قدرة المدين على تسيد الدين المستحق عليه مستقبلاً ومدى توافره على الإرادة للوفاء بالتزاماته المالية مائة في المائة وفي الموعد المتفق عليه. ومن ثم، فإن تصنيفها لا يعفي المستثمر من أن يمعن فكره في مخاطر الاستثمار ويحلل هذه المخاطر انطلاقاً من حساباته الشخصية، وبعد مشاورة المختصين وتجربة الأمور وحُسن التثبت. فتصنيفات الوكالات ليست صكوك براءة وشهادات حسن سلوك، يتعين الأخذ بها بلا تمحيص وتدبر، بل هي محاولة لإعطاء المستثمر الفرصة لمقارنة حساباته بحسابات ووجهات نظر أطراف أخرى.

على صعيد آخر، لا يجوز للأخطاء، التي ارتكبتها الوكالات قبل اندلاع أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة الأمريكية، أن تقودنا إلى الزعم أن عمل الوكالات غش ونصب لا غير، وتحيز وتآمر ليس إلا. فخلافاً لما يذيعه بعض الأوربيين، فإن الثلاثة الكبار كانوا على صواب حينما بدءوا قبل سنوات عديدة - بدءاً من عام 2004 على وجه التحديد - بخفض تصنيف اليونان، ففي تلك الحقبة من الزمن ما كانت ولا حتى حكومات دول اليورو على علم دقيق بحقيقة الكارثة المالية في اليونان، أو لنقل، أنها كانت تتكهن بهذا الوضع لكنها كانت تريد التستر عليه وإخفاءه عن أنظار أسواق المال. وإذا كان البعض من السياسيين الأوربيين قد درج على الزعم أن مضي وكالات التصنيف الأمريكية قدماً في خفض تصنيف بعض دول اليورو ينم عن مؤامرة على العملة الأوربية الموحدة، فإن قيام وكالة ستاندر أند بورز في آب/أغسطس من هذا العام بخفض تصنيف الولايات المتحدة من AAA إلى AA+ يدحض هذا الزعم بكل تأكيد.

وملخص الكلام هو أن وكالات التصنيف وسيلة لا غنى عنها لمراقبة السياسات المالية المنتهجة في البلدان وأن الحل الناجع، بالتالي، لا يكمن في إلغاء هذه الوكالات، بل في إعطاء المنافسة في سوق التصنيف الائتماني مساحة أكبر وفاعلية أشد وتمكين المستثمرين من التحرك بحرية أكبر. فعندئذ سيتكفل المستثمرون، أنفسهم، بتقييم وكالات التصنيف الائتماني وسيفرضون رقابتهم على هذه الوكالات. كما يتعين على الحكومات، وحكومات الاتحاد النقدي الأوربي عامة - والمصرف المركزي الأوربي على وجه التحديد- التخلي كلية عن اعتماد التصنيف الائتماني أساساً للقرارات السيادية. فهل من المعقول أن يعترض المصرف المركزي الأوربي على تنازل المصارف التجارية عن جزء من مستحقاتها على اليونان، لا لشيء إلا لاعتقاده أن الثلاثة الكبار قد يرون في هذا الإجراء دليلاً على إفلاس اليونان ومسوغاً لخفض تصنيف ايرلندا والبرتغال وإسبانيا أيضاً؟ وبموقفه هذا، ألا يمنح المصرف المركزي الأوربي الثلاثة الكبار الفرصة لأن يساهموا بشكل فعال في رسم السياسات الاقتصادية في منطقة اليورو؟ ولو كانت حكومات دول الاتحاد الأوربي، أو دول اليورو، قد توافرت فعلاً على وكالة للتصنيف الائتماني في الزمن الحاضر، أكان بمستطاع هذه الوكالة أن تكون حرة وموضوعية في تقييمها للوضع المالي في اليونان وأن تقاوم ما قد تمارسه عليها الحكومات من ضغوط سياسية؟ أما كان قدرها أن تكون ألعوبة بيد أصحاب القرار السياسي؟
 

[1] Hanno Beck and Helmut Wienert: Zur Reform des Rating-(Un)Wasens, Bestandsaufnahme eine Reform-Option, Jb. F. Wirtschaftswissenschaften, 61. Jg., P. 46.
[2] Frankfurter Allgemeine Zeitung: Die Diktatur der Retinggeber, 19. Juni 2011.
[3] Neue Zürcher Zeitung, 23. Juli 2011.
 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات