| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الجمعة 20/2/ 2009



 بأنتظار كلكامش

حاتم جعفر- السويد

ستكون وحيدا في الحانة يا جلجامش فقد رحل صنوك الأبدي انكيدو الى العالم الآخر, لا تدع اللوعة تأخذ منك مأخذا فملؤ المدام لن ينجيك شر التذكر, وقضاء الامر لم يكن بأمر من تلك الافعى, ومحاولة الخلود ضرب من الوهم ليس الا, ربما تلتقيان في وقت ما وفي ملحمة أخرى, واحسب حسابك انك فعلت ما استطعت عليه, فلا من عتاب ولا من ملامة, ويكفيك انك تركت لبني رافديك صدق العلاقة بين الاخوة, كذلك روح التصدي والتحدي, ولم يفك من عضدك صعوبة الطريق ووعورته, فأشرب نخب صاحبك ونم قرير العين وهنيئا لك حلمك الوردي.

لسنا هنا امام اعادة النظر او اعادة قراءة ما احتوته الملحمة فهذا أمر مفروغ منه وقد سبقنا في ذلك الاقدر والاجدر, غير اننا سنحاول ما استطعنا وبشكل خاطف نحو ما يمكن استنباطه من هذا النص, هما قضيتان اساسيتان حسبما نرى, وهما قضية الوفاء للآخر, و أي آخر, والمعني هنا هو من انتقل اليك وجعه دون ارادة منك وربما تسلل وأخذ منك على حين غفلة او أقضى مضجعك, فالاحاسيس الانسانية لا تأتي بالمصير المشترك فحسب وانما يكون وقعها عليك أشد مرارة من صاحب العلة.

والأمر الثاني وهو بيت القصيد, فكرة تنقل او انتقال العراقي الاول من مكان الى آخر. فعلى مر التأريخ وتقلباته وتغيراته لم تستهويه بلادا غير بلاده, لذلك ثبت على مسقره من المهد الى اللحد, وما حدث لجلجامش لم يكن غير محاولة بطولية قام بها من أجل انقاذ رفيق حياته أنكيدو. وقد يظن البعض ان مسعى البحث عن نبتة الخلود أو أكسير الحياة قد أدت بصاحبنا أن يذهب بعيدا بعيدا, غير ان الامر ليس كذلك فلم يتعد في رحلته الا مسافات لا يمكن قياس بعدها بحجم الرحلات التي نعيشها في زمننا الراهن ولكنهم اعتقدوها نائية وهذا شأن مفهوم وبديهي فالعالم لم يكن بالنسبة للاولين غير بلاد واحدة متباعدة الاطراف.

ومن بداهة القول فأن العراق وعلى مختلف العصور والحضارات التي مرت به, قديما وحديثا, وبسبب من الخيرات التي كان ولا يزال ينعم بها والتي هيأت بدورها كل المستلزمات الضرورية للبحث والمعرفة وما حبته الطبيعة من نهرين عظيمين ومن موقع جغرافي فريد, منحته وضعا ومكانة, جعلته يتربع عرش التمكن والقدرة على الابداع والعيش الرغيد. ولكل الاسباب الانفة لم تجعله مركز استقطاب عالمي وقبلة لمجاميع بشرية معروفة آنذاك فحسب وانما مكانا مكتفيا ومغريا لاستقرار ابناءه, مما قادهم الى عدم التفكير كذلك على مغادرته. ولأن ارضه مقدسة فكانت حتى كلاب بابل محرم قتلها فكيف بالبشر.

ومثلما لشعوب العالم من سمات وصفات وطباع عامة, فبالتقادم وبتناقل الخبرة والتجربة ومن جيل الى جيل, فقد استقر في اعماق وقاع الشخصية العراقية وفي ركن اساسي منها ما يمكن ان يتميز بها هي عدم الميل وعدم الرغبة على مغادرة المكان الذي اعتاد عليه وتأقلم فيه. وأزاء هكذا حال فلابد له من ان يصنع بدائله المقنعة والضرورية التي تجعله مكتفيا بما لديه ومستغنيا كذلك عن فكرة الانفتاح, وربما اعطت هذه الارادة للعراقيين القدامى زخما اضافيا في تدعيم قدراتهم الشخصية وفي الاعتماد اكثر على امكانياتهم الذاتية. (وكي لا تفهم خطأ هذه الفقرة فينبغي اعادة التأكيد هنا ان الكلام بأجمعه وبحصيلته النهائية سيكون بعيدا عن ثورة الاتصالات والعلوم الأخرى الحاصلة في الوقت الحاضر والتي فتحت اركان العالم الجديد على مصراعيه ليكون صغيرا جدا والى المستوى الذي جعل اخباره وتطوراته في متناول الجميع).

وتأكيدا على ثباته واستقراره, فلا زال العراقيون يجدون صعوبة بالغة امام فكرة التنقل بين مدينة وأخرى بل حتى بين حي وآخر, غير ان تطور الاحداث وصعوبات الحياة وخاصة في العقود القليلة المنصرمة وما رافقها من حصار وجوع وحروب وديكتاتورية حكم واحتلال غاشم وما ترتب عليه من غياب كلي لمؤسسات الدولة وبشكل خاص الامنية منها, كل هذه الاسباب فرضت على الاكثرية منهم ما لم يكن في وارد تفكيرهم على الاطلاق, فكان من نتيجته ان اجبروا على الترحال ومغادرة الوطن, بحثا عن مكان آمن, يوفر لهم الكرامة والعيش الرغيد ويحفظ لهم أعز ما يملكون, خاصة بعد ان أوصدت كل الابواب في وجههم ولم تعد للمواطنة والحقوق الطبيعية لبني البشر اية قيمة تذكر.

غير انهم لم يعثروا على ضالتهم في بلاد الغربة, خاصة وان فترة بقائهم الاجباري قد طالت بشكل واضح وغير محسوب له حساب, ولم يعد بالامكان مجاراة متطلباته ومستلزماته, مما ادى الى ظهور الكثير من المتاعب والصعوبات, ابتداءا من الاوراق الثبوتية وخاصة حيرتهم في وثيقة السفر وبين اعتماد الدول المضيفة الفئة أس أم الفئة جيم, والاخطر من ذلك طبيعة التعامل السلبي الذي كانت تتلاقاه على يد مواطني دول الاستقبال واشعارهم بأنهم باتوا يشكلون حملا ثقيلا لم يعد يحتملونه.

الخوض في هذا الموضوع اصبح مألوفا, وقد يراه البعض ممن لا يريد حلا جذريا وانسانيا, ممجا وسمجا, خاصة من قبل اولئك الذين تربعوا على عرش المواقع والمناصب الرسمية التي هيئها لهم الاحتلال مزيحين مقابل ذلك كل الكفاءات والعقول العراقية الكفوءة والمشهود لها والذي ادى بدوره الى خلق حالة من الفوضى في مؤسسات الدولة والى هدر اموال طائلة, بين السرقات الكبرى وبين سوء الاستخدام والتصرف والامثلة على ذلك عديدة, ومن محاسن الامور ان بدأت بعض الاحزاب الحاكمة بالاعتراف بحجم الاخطاء التي وقعت وفداحتها, مبررين ذلك في وقوعهم تحت ضغط الابتزازات والتهديدات , المتعددة الاطراف والاقطاب.

ورغم الحملات الانسانية التي تقوم بها بعض المنظمات العربية والدولية المختصة كالصليب الاحمر والهلال الاحمر وغيرهما من الجهات المماثلة والتي تقوم بتقديم مختلف اشكال الدعم والخدمات والتسهيلات لعشرات الالاف من اللاجئين العراقيين التي تضمهم بلاد المهجر الاضطراري ورغم كل الصيحات والنداءات التي تنشط بها وبأوقات مستمرة بعض وسائل الاعلام وخاصة العراقية منها, الا ان اجهزة الدولة العراقية المسؤولة لم تقم بأي جهد يذكر وبما يتناسب وحجم الكارثة التي تحيق بالعراقيين, مكتفين احيانا ببعض الوعود التي لا تغني ولا تسمن من جوع, ولولا تلك الحملات الاعلامية المنظمة التي تنشط بها العديد من القنوات الفضائية الخاصة وتسليط الضوء على ما يمكن التقاطه وأبرازه وفضحه, لكان ما ينتظره عراقيو الغربة أكثر مرارة وألما.

واذا ما استثنينا تلك الحالات التي جرى رصدها فأن الغالبية الساحقة من العراقيين, سواء من كان في الوطن أو خارجه, يعيشون وضعا مأسويا قل نظيره في العالم اذا ما قيس بحجم الامكانيات الاقتصادية التي يتمتع بها العراق, والملفت للنظر تزايد حجم المعاناة التي تواجه الفنان والمثقف العراقي بشكل عام, وربما يكون مرد ذلك مستوى التحسس الذي يكابده الفنان ازاء معاناة أبناء شعبه وحمل هموم بلاده على كتفيه في حله وترحاله.

وأخيرا ان كان المعنيون من الطبقة الحاكمة غير مؤهلين لأنقاذ وانتشال العراقيين مما هم فيه ومن مال العراق واهله فليخلوا اماكنهم بأنتظار كلكامش فهو الاجدر والاحرص على انقاذ اخوته.


 

free web counter

 

أرشيف المقالات