| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 20/8/ 2009



ليلة في سجن الحارثية وتفجيرات بغداد الإرهابية

عدنان طعمة الشطري
Adnan_tumma@hotmail.com

اعتراف : شهادة إلى التاريخ في حلكة وقتامة ( الكاكي ) العسكراتي ..
( كاكي ) البدلة الحربية التي فجرت في أجسامنا البشرية المحصورة بين ( البسطال ) و ( البيرية ) أتربة الحروب العبثية المجنونة والأوامر العسكراتية اللعينة والملعونة ...
( كاكي ) صدام حسين الذي ساق ( شباب النكسة والحروب ) كقطيع الخرفان إلى معسكرات التدريب النارية ومحرقة الموت الحربية ..

( الكاكي ) الحربي الذي التصق بجسمي فتواريت عن أنظار مدينتي الشطرية باتجاه معسكر ( التاجي ) شمالي العاصمة الغجرية بغداد .
يس يم .. إلى يمين در .. إلى اليسار در .. إلى الوراء در .. تنكب سلاح .. هرول .. ازحف .. هرول .. تنكب سلاح ..
جندي .. عسكري يضبط إيقاع حسه الإنساني على رنين الأجراس العسكرية وتوقيتاتها الملزمة صباحيا وظهرا وليليا في دواخله المسكونة بالأسئلة والتمرد على إيقاعات هذه الصرامة الهتلرية .
نائب عريف : يتراءى لي ( كضفدع كاكي ) ينط واثبا , مستريحا ومنتصبا بين لحظة وأخرى بمجرد إشارة إصبع يحمل صاحبه رتبة ضابطية ببزته العسكرية .
نائب ضابط : أشاهده كدينصور غبي يتبول على نفسه كلما شعر إن ( قندرة ) ضابط تقترب إليه .
الضباط : تلمع بساطيلهم على أكتاف نواب العرفاء ونواب الضباط والجنود وتنفخ كروشهم ورتبهم استعدادا لحروب قادمة .

أما نحن الجنود الولهين الذين ننتمي إلى تاريخ قاذورات الحروب وروائح ( نواب العرفاء ) و ( نواب الضباط ) الكريهة , فيعرف بعضنا البعض بالكتل الجسمانية الحقيرة المحصورة والمضغوطة بين ( البسطال ) و ( البيرية ) ...
هكذا تتراءى لي فصول المشهد الكارثي يوميا في الشهور الافتتاحية الأولى لعام 1983 .. ومن الأوقات الفجرية لأول صباح عسكري تعيس يبدأ بالتدريب والمهانة والوعيد والنباح والصراخ ( قشمر ) و ( مخربط ) و ( طاح حظك ) حتى آخر ساعة من ساعات التدريب العسكرية عند الظهاري المحرقة ونزولي من معسكر ( التاجي ) إلى مقر إقامتي في احد فنادق منطقة الكاظمية الذي يقع في السوق المزدحم بالسابلة والمحال التجارية وبائعي الجملة والمفرد والساعين غريزيا على الاحتكاك مع الجنس الآخر .

في ذلك اليوم الذي لبس ثياب السواد القاتمة والوشاح الأسود .. وكعادتي اليومية بنزع ثياب ( الكاكي ) العسكرية وارتداء ثيابي المدنية المتواضعة وحث خطوات متسارعة نزولا من الفندق الكاظموي القديم لالتهم مثنى أو ثلاث من ( سندويشات الفلافل ) الحارة وذات طعم كاظموي مميز كوجبة غدائية تلجم عواء بطني وتزود شراييني وعروقي اليابسة بطاقة البقاء نسبيا .

قلت كعادتي اليومية الرتيبة نزلت من سلم هذا الفندق البغدادي متجها صوب سد غريزتي الجوعية بقوة الفلافل , وعلى بعد خمسة أمتار تقريبا من باب هذا الفندق القديم أوقفتني بغتة سيطرة راجلة تابعة إلى شرطة مكافحة الكاظمية وطلب مني احد حثالات هذه السيطرة البوليسية أن ازوده ببطاقتي الثبوتية وهو يضع سيكارته على احد أطراف فمه القذر .. تلمست جيبي لأخرج هوية النزول اليومية التي زودتني بها وحدتي العسكرية في ( التاجي ) فأدركت حقيقة كنت احسبها عابرة وبسيطة وهي نسياني لهذه البطاقة في جيب بدلتي ( الكاكي ) العسكرية .
قلت له وبنبرة واثقة : إنها في بدلتي الأخرى , وفي هذا الفندق الذي لا يبعد سوى خمسة أمتار أو اقل .. ولكن لا جدوى .. فقد وقعت في شر مستطير لا خلاص منه .

مسكني بقوة من الجانب الخلفي لبنطالي الأسود اللون , ومسكني الآخر من يدي وهم يتناوبون على ضربي ( بالراشديات ) والدفرات واللكمات .. تزلزلت الأرض تحت إقدامي زلزالا بوليسيا وصداميا بامتياز وكل كلمة تخرج من فمي تقابل بلكمة ودفرة ولي ذراع مؤذية .
إلي أين ... ؟ وماذا تبقى من آدميتي ؟ بل قل ماذا تبقى من عراقيتي المستباحة ؟؟
إلى مبنى شرطة مكافحة الكاظمية حيث الضابط التكريتي الخفر أو الطاغية الصغير الذي يتفنن بطرائق الجلد وجلد الذوات الإنسانية الفارة إلى الرب من هول العذابات !!
نظر لي نظرة ازدراء متوحشة وهو يرتدي دشداشته وقال : أي ؟؟ هذا هو عشائي الليلة ؟؟ ووبخ الشرطيان اللذان اقتادوني إليه بأنهم متهمون هذا اليوم بتهمة التقصير الكبرى لأنهم لم ينجزوا عملهم على ما يرام والدليل هو جلب اثنين فقد من القردة البشرية إلى منتجعه السجني الباذخ , وهذا مؤشر تقصير عنده !!

صفعني صفعة تكريتية أغشت بصري وبلبلت بصيرتي وقال :
أنت من وين ؟؟
قلت له : من الناصرية !!
قال : من الشجرة الخبيثة .. من أهل المسموطه والزوري .. من الخونة .. تفوا عليك يا قذر ؟؟
قلت له : سيدي ماهي مشكلتي ؟ وأي جريمة اقترفتها ؟؟ فنهض من مكانه وراح يوجه لي الضربات تلو الأخرى ثم نادى على حرسه بان يجلدوني حد الإغماء !! فنفذوا الأمر صاغرين وجلدوني وضربوني بقسوة غير عابئين بصرخاتي وصرخات غريب عن سجون الدكتاتورية .
في هذه الليلة من ليالي عام 1983 ..لم يكن يدر بخلدي ان سجن الحارثية ينتظرني وسأقضي فيه ليلة سوداء فيه ..الساعة السابعة مساءا شدوا وثاقي واقتادوني إلى حيث السيارة التي تحمل حجزا على شكل قفص حديدي في نصفها الآخر ..انطلقت السيارة بي ورجل آخر مسن إلى سجن الحارثية .
هناك لا اسمع مفردة أو عبارة إلا ( ابن الزفرة ) ..
امشي يا ابن الزفرة .. تحرك يا ابن الزفرة .. انحني يا ابن الزفرة ..
( انحني يا ابن الزفرة ) فانحنيت صاغرا فمرروا ماكنة الحلاقة القديمة على شعر رأسي ورحت اصرخ من شدة الألم الذي أعانيه لأنها تشلع الشعر شلعا !!
لم يتحملوا صراخي وبكائي وأنيني فقذفوني إلى خارج غرفة الحلاق الصغيرة واتى ثلاث رجال يلبسون ملابس الانضباطية العسكرية وطفقوا يمطروني بوابل عنيف من الضربات الموجعة بالعصي الغليظة .
وثبت من مكان لآخر والعصي تلاحقني وتفتك بجسمي حد السقوط والاستسلام للضربات العصوية المتلاحقة ثم قادوني كالخروف الخائر القوى إلى الحلاق ليرسم خرائط على رأسي وقطع الشعر قطعا دون رحمة .
استسلم ( ابن الزفرة ) ونفدت دموعه الساخنة وزجوا به إلى موت آخر جديد في سجن الحارثية .

البول والخراء والبشر شراكة بأرض هذا السجن وأعداد بشرية كثيفة كدست على بعضها البعض في قيامة لم يشهدها بنو الإنسان حتى في عقاب الرب الأخروي .
الشباب .. المسنون .. الجنود .. الشرطة العاديين .. وحتى مفوض مرور قد رصوهم رصا يحيط بهم دخان السكائر الكثيف من كل جانب .

لم أتمالك نفسي وروحي التي فرت على راحتي وانا اتماهى وهذا المشهد الجحيمي فدرات بي الدنيا دورانات مختلفة الاتجاهات ودخت دوختي الاخيرة ثم هبطت ساقطا فاقدا للوعي .
استيقظت الرابعة فجرا فوجدت رأسي على بطن احدهم ورجلي على رقبة سجين آخر والشخير يتعالى ويختلط مع الجثث النائمة على أرضية سجنية ساخنة .

الساعة السابعة والنصف صباحا , كنت على موعد بترحيلنا الى وحداتنا العسكرية ولما اخطأت وصعدت سيارة (كوستر) اخرى غير المخصصة لسجناء وحدات معسكر ( التاجي ) تكررت علي مسرحية الضرب المؤلم فانتفخ جسمي وتورم وجهي .. ......

تفجيرات بغداد
هذه ليلة واحده من سجن الكاظمية الى سجن الحارثية مورس فيها جميع إشكال الاضطهاد والاستلاب البشري من قبل رجال سلطة لا يتورعون في ارتكاب أي معصية أو جريمة بحق الإنسانية .

هؤلاء الرجال هم ذاتهم ألان يفخخون ويفجرون ويقتلون أنى شاءوا وكيفما اردوا في ظل سلطة المالكي التي أثبتت إنها قادرة فقط على اعلان الشعارات والهتافات والتصريحات الكاذبة .

لا غرابة لمثل هاتيك الرجال الذين يسومون الأبرياء ذل القسوة والعذاب .. هذه هي ثقافتهم فمن ذا الذي ينقذنا ويدفع عنا شر الإرهاب المستطير ... من ؟؟
 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات