| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

السبت 22/5/ 2010

 

عبدالجبار عباس ألق المرايا

محمد كاظم جواد

في منتصف السبعينيات وقع بين يدي كتاب مرايا على الطريق للناقد الراحل عبدالجبار عباس كان قد تناول فيه مواضيع نقدية متنوعة ؛أعجبني الطرح الذي ضمه هذا الكتاب وأدهشتني الرؤى النقدية الجريئة التي تناول فيها القضابا الأدبية المطروحةعلى الساحة الأدبية آنذاك،فتابعت هذا الناقد من خلال مقالاته المنشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية.

وعندما قرأت كتابه السياب الصادر عن وزارة الثقافة والاعلام (سلسلة كتاب الجماهير) ازداد اعجابي به أكثر وكان هذا الكتاب من الكتب المهمة والرائدة التي صدرت عن السياب وقد كتبه في المرحلة الرابعة من الدراسة عندما كان طالبا في كلية الآداب ، وهو عبارة عن مشروع بحث صغير ضمن متطلبات الدراسة فتطور هذا البحث ليصبح كتابا لكنه لم ير النور الا في عام(1971)بعد رحلة طويلة شبيهة برحلة السياب مما يدل على ان كتاب السياب هو باكورة كتب عبد الجبار عباس النقدية لكن طبعه جاء متأخرا لظروف ذكرها في مقدمة الكتاب.
لم أكن أعرف وقتها ان عبد الجبار عباس هو ابن مدينتي ، ذات يوم أخبرني أحد الأصدقاء انه يجلس صبيحة الجمعة في المقهى الزجاجي المطل على شط الحلة وكان يرتاده جمع من المثقفين والأدباء والفنانين ، فقصدت المقهى وجلست على مقربة منه بغية التوصل اليه ، ترددت كثيرا في اقتحامه بسبب ارتباكي وخجلي...

وفي يوم آخر رأيته يجلس وحيدا فقررت أن أجلس على ذات الأريكة التي كان يشغلها ، كنت أتأبط مجموعة من الكتب والمجلات الأدبية ورحت أقلب أوراق احدى المجلات بغية أن ألفت انتباهه فنظر صوب الكتب التي وضعتها على الأريكة ، كنت اراقبه بدقة .... فاستأذن مني وطلب احدى المجلات ، فرحت كثيرا لأنني سأدخل معه في حديث، لكن كيف اتحدث معه؟ وأنا لا أمتلك العدة الكافية التي تكفل لي الاستمرار معه في الحديث ، قلت سأكتفي بالاصغاء... أصغيت الى حديثه المتألق والذي يجبر المستمع على الانتباه ، وسنحت لي فرصة التحدث عن كتبه ومقالاته وديوانه اليتيم أشواك الوردة الزرقاء ... وتوقفت عند كتاب السياب رأيت على وجهه علامات الفرح فشكرني على ملاحظاتي وقبل أن أخرج من المقهى استعار المجلة التي طلبها مني كنت مرتبكا لكني شعرت بالفرح لأني تعرفت على ناقد كبير يشار اليه بالبنان.
وتكرر اللقاء كنت أكتفي بالأسئلة مع بعض الآراء الخجولة ، فيشاطرني الرأي فأحس بالزهو لأنني أقترب الى حد ما من آرائه.

وعندما تسلم الصفحة الثقافية في جريدة الراصد بعد فصله من مجلة ألف باء تجرأت وأعطيته قصيدة نشرها لي بعد فترة وجيزة في الصفحة الثقافية وحثني على رفده بالمزيد من القصائد ....وتعمقت صداقتنا وكنا نذهب أحيانا الى بغداد مع بعض الأصدقاء ونجلس في حاناتها التي تمتص التعب المر ونتجول في مكتباتها المنتشرة في شارع السعدون ونقتني ما نستطيع حمله من الكتب، وكثيرا ما كان يسألني عن مجموعة صدرت لشاعر ما.

كنت اعطيه ملاحظاتي البسيطة فيناقشني في تفاصيل مستفيضة ، فيضيف الى مخزوني الثقافي شيئا جديدا وحينما كان يتناول بعض المجاميع الشعرية أو القصصية فأنه يختارها بدقة بالرغم من ان اغلب المجاميع الصادرة في العراق كانت تهدى اليه من كتّابها ، ربما لغرض اغراءه بالكتابة عنهم فينتقي المجموعة ويقرأها وفق منهجه الآنطباعي الذي كان يدافع عنه بقوة ويعلن صراحة انه ناقد انطباعي.

وكثيرا ما تعرض الى ضغط من بعض الأدباء لأنه لم يكتب عنهم وسمعت أحدهم يصفه بـ"الخواجة") لأنه يكتب عن أدباء مصر) وآخر يقول مغنية الحي لا تطرب وآخر يقول: يبدو لي انك لم تقرأ المجموعة التي كتبت عنها، رغم هذه المضايقات فانه لا يكن يأبه بهم فيتجاوزهم بصمته الناطق، وأحيانا يتوقدون حقدا عليه عندما ينشر مقالة عن كاتب عراقي غير معروف في الوسط الثقافي وحدث ان وقعت بين يديه اقصوصة بحجم صغير صدرت بنسخ معدودة لكاتب عراقي اسمه أمير الحلي أظنه من البصرة فأبدى اعجابه الشديد بها وكان عنوانها مدورة الطيور مما حدا به الى كتابة مقالة طويلة عنها قاربت بحجمها اقصوصة أمير الحلي.
وذات يوم اجرى معي لقاءا في جريدة الراصد صحبة الشاعر الراحل جبر داكي واجبت على اسئلته بعناية فائقة ونشر اللقاء مشفوعا بصورة لي وأخرى للراحل جبر داكي.

مثلما ينتقي الكتاب الذي يكتب عنه كان الناقد عبد الجبار عباس ينتقي أصدقاءه من الأدباء بدقة متناهية فيأتمنهم لأن الخوف كان يسكنه فيخشى تأويل الكلام من بعض الأدباء الذين يتعاملون ب(بوليسية واضحة) وقد تعرض الى مضايقات أدت به الى ملازمة بيته لفترات متقطعة. وأحيانا كان يستفز من قبل المافيات الثقافية التي يطلق عليها اسم (الجماعة) وقد ألف عنهم مسرحية شفوية ساخرة وكان يمثلها أمام أقرب الأصدقاء فيؤدي الدور بألم واضح ويتذكر هذه المسرحية جيدا أغلب الأصدقاء منهم الناقد علاء هاشم مناف والفنان ثامر عبد الله والفنان صلاح عباس والشاعر عبد الحسين الحيدري .

كثيرا ما كان يتعرض لاضطهاد الطارئين على الأدب كأن يطلبون منه قراءة هذياناتهم الطويلة ويلحون عليه في ابداء رأيه فورا فيضطر الى تحريك عينيه بسرعة حول السطور ويقول مجاملا لابأس.

لن انسى موقفه معى ما حييت ،عندما التهمت النيران مكتبتي حينما سمع الخبر فوجئت به وهو يحمل على دراجته الهوائية رزمة من الكتب مواساة منه لفقدان مكتبتي وقال لي هذا ما استطيع حمله ارجوك ان تأتي معي الى البيت وتختار ما يفيدك من الكتب والمجلات شكرته لموقفه النبيل وحينما تصفحت الكتب في البيت توقفت عند بعض الدواوين التي كتب عنها عبدالحبار عباس لأنها كانت تحمل تأشيراته في بياض الصفحات وللأسف الشديد فقدت مني هذه الكتب كان لعبد الجبار عباس صديقا حميما يرافقه كظله يتجول معه في السوق ويركنه جانبا عندما يهم بالجلوس في مكان ما وعندما فقده تألم عليه كثيرا ورثاه في قصيدة عصماء اثارت شجون اصدقائه هذا الصديق هو(البايسكل الاخضر) الذي تآمر عليه بعض الصعاليك وحملوه ليلا عندما وجدوه مركونا في حديقة نادي المعلمين رغم انه كان مربوطا بقفل محكم . احيانا يلتجأ عبد الجبار عباس الى بعض الاصدقاء من خارج الوسط الادبي (عمال بناء- بائعو خضر- باعة جوالون) فيجالسهم ويخوض معهم احاديث طريفة تمتزج فيها رائحة النكتة كانوا يكنون له كل احترام وتقدير رغم جهلهم بما يكتب وعندما كنا نجلس في المساء وتجمعنا طاولة واحدة فانه يحيل الجلسة الى كرنفال للفرح رغم وطأة الالم الذي يغلف قلوبنا. وكنت اتحرج من قراءة أي نص يعود لي امامه لانني اشعر ان الفرصة لم تأت بعد كي اسمعه ما اكتب قياسا الى ما كان يتناوله في نقده لشعراء لهم تجارب في خارطة الشعر .وكان يعرف اني احفظ الكثير من قصائد الشاعر الكبير سعدي يوسف فاقرأ ما احصل عليه من قصائد جديدة او من دواوينه السابقه وعندما اوغل في القراءة يبتسم ويقول (ياعيني يا سعدي) وعندما اقرأ قصيدة مرثية الى جيكور المنشورة في ديوان بعيدا عن السماء الاولى ومطلعها:

جيكور توقد في المساء الرطب فانوسا ولا تلقي ضياءه
مات اليتيم وخلف امرأة وايتاما وراءه

وما ان اصل الى هذا البيت حتى اسمع مفردة الندب العراقية يطلقها عبدالجبار عباس وكثيرا ما كانت تنتهي جلستنا باغنية برهوم للمطربة نجاح سلام:

برهوم حاكيني .........
مجروح داويني .....

فينطلق صوته المتهدج ويحولها بألم الى:

برهوم أنا جبار
لقبي أبو ستار
شغلي نقد أشعار
والله الوكت غدار
راضيك راضيني.

كان عبد الجبار عباس وفيا وأبيا وعندما اخبروه بتخصيص راتب شهري له من وزارة الثقافة رفض استلامه بالرغم من حاجته الماسة اليه قائلا انني لم اقدم جهدا او عملا مقابل هذا الراتب كان يكره العطايا من اي جهة كانت.

لقد رحل عنا مبكرا وهو في قمة عطائه الأدبي واضعا مراياه على قارعة الطريق ومن منا لا يتذكر مؤلفاته التي انهلنا من ينابيعها الشيء الكثير، من كتبه المطبوعة ديوان اشواك الوردة الزرقاء السياب ،مرايا على الطريق، ،مرايا جديدة،في النقد القصصي، الحبكة المنغمة بالاضافة الى مخطوطاته التي تنتظر من يزيل عنها غبار النسيان.

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات